24-مايو-2023
حرية التعبير

"الأنظمة المتعاقبة استسهلت تكميم أفواه المعارضين لها لضمان بقائها في الحكم" (فتحي بلعيد/ أ ف ب)

مقال رأي 

 

"نهار على عمّار" هو يوم من جملة الأيام التي بقيت راسخة في تاريخ حرية الإنترنت والنشاط السيبراني في تونس زمن زين العابدين بن علي، حيث شهدت تونس قبل ثورة 14 جانفي/ يناير 2011 حجب الإنترنت وخاصة منصات التواصل الاجتماعي.

ويمكن القول إنّ الملاحقات الأمنية للمدونين قد انطلقت بإيقاف المدون الشاب "زهير اليحياوي" والمُلقب في وسطه بـ"التونسي"، التونسي هو صاحب المجلة الإلكترونية "تونيزين" ذات التوجه السياسي الساخر والساخط في الآن ذاته. من ضمن التدوينات التي دوّنها التونسي ودونها التاريخ من بعده هو الاستفتاء الإلكتروني القائل "هل تونس جمهورية أم مملكة أم حديقة حيوانات أم سجن؟".

المراكمة لخوض معركة حرية الإنترنت وحرية التعبير في تونس، انطلقت بعد وفاة زهير اليحياوي، إذ اتجه زملاؤه إلى النشاط السيبراني لكسر الحظر، وتوثيق الانتهاكات

وقد جاءت هذه التدوينة في رد على استفتاء العهدة الرابعة الذي قام به بن علي سنة 2004، فأثارت هذه التدوينة وغيرها من التدوينات حفيظة النظام حتى وقع إلقاء القبض على زهير اليحياوي والتنكيل به في السجون مما اضطره إلى خوض إضرابات جوع داخل السجن وهو ما أدى إلى تعكر حالته الصحية إلى جانب التعذيب الذي أنهك جسده إلى أن فارقنا يوم 13 مارس/ آذار 2005، وقد خُلّد ذاك اليوم وصار يومًا وطنيًا لحرية الإنترنت في تونس.

 

 

يمكن أن نعتبر إذًا، أن المراكمة لخوض معركة حرية الإنترنت وحرية التعبير إجمالًا قد انطلقت من تلك اللحظة، لتأخذ منحى خاصًا مع رفاق تجربة زهير اليحياوي الذين اتجهوا إلى النشاط السيبراني من خلال محاولات كسر الحظر، والانطلاق في التدوين لجمع وتوثيق الانتهاكات التي تحصل من نظام بن علي في تلك الفترة.

تجربة "نهار على عمار- سيّب صالح" سنة 2010 كانت من الحملات المناهضة لحجب الإنترنت في تونس وكانت لها استتباعاتها لاحقًا

ومن بين المحاولات الجديرة بالذكر هي تجربة "نهار على عمار- سيّب صالح" سنة 2010 وهي تلك الحملة المناهضة لحجب الإنترنت، وترجح الروايات أن الحملة أخذت تسميتها من رمز 404 حيث عادة ما يطلق على سائق شاحنة 404 تسمية "عمار" فخلق الشباب الناشط آنذاك شخصية افتراضية مسؤولة عن الحجب والصنصرة وأطلقوا عليه اسم عمار 404 وهذا بديهي حيث أن زمن بن علي لم يكن أبدًا زمنًا للتعبير بحرية وطلاقة، لذا وجبت التورية واستعمال الرموز والتشفير في الحديث لتجنب التبعات التي قد تحصل.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الرمز المذكور كان يظهر تلقائيًا في المواقع المحجوبة كاليوتيوب وبعض الصفحات التي تهتم بالوضع العام وغيرها.

ومن شباب تجربة نهار على عمار أو من تمت تسميتهم بـ"ولاد عمار" في الفيلم الوثائقي الذي ينقل أحداث الحملة، نجد المدونة الشابة "لينا بن مهني" أو من عرفت قبل الثورة باسم "بنيّة تونسية"، لينا سخّرت حروفها وعدسة الكاميرا الخاصة بها لتكون عينًا رقيبًا تفضح الانتهاكات الأمنية لحقوق الإنسان في عهد بن علي وصوتًا حرًا لكل من احتاج إليها. حيث خصصت مدونتها لمتابعة القضايا التي آمنت بها، كما أنها لم تتوان لحظة في توثيق أحداث الثورة ونقل الحقيقة كما هي كما رأتها "البنيّة التونسية". 

من بين شباب تجربة "نهار على عمار" أو من تمت تسميتهم بـ"ولاد عمار" في الفيلم الوثائقي الذي ينقل أحداث الحملة، نجد المدونة الشابة "لينا بن مهني" أو من عرفت قبل الثورة باسم "بنيّة تونسية"

وقد شاءت الأقدار أن تهب البنيّة التونسية ذكرى مولدها إلى يوم رُسخ في الذاكرة الجماعية لذا فإن يوم 22 ماي/ أيار ليس يوم ميلاد لينا بن مهني فحسب، إنما هو يوم ميلاد منعرج جديد في الدفاع عن حرية الإنترنت، أي تاريخ حملة "نهار على عمار" 22 ماي/ أيار 2010، الحملة التي خاضتها لينا مع جملة من رفاقها من بينهم المدون والإعلامي هيثم المكي أو من عرف زمن بن علي بلقب "ByLasKo" والذي عُرف بنقده للسلطة أيًا كان لونها بعد ثورة 2011.

وقد جاءت ثورة 14 جانفي/ يناير 2011 بجملة من المكاسب منها حرية التعبير التي راكم لها الشعب التونسي وخاصة جيل المدونين الذي سبق وذكّرنا به، ومنذ ذلك الحين سعى نسيج المجتمع المدني التونسي بجميع مكوناته إلى الحفاظ على حرية التعبير على اعتبار أنها مكسب لا يمكن المساس به، فتوجه المشرّع التونسي في سبتمبر/ أيلول 2011 إلى سنّ الأطر التشريعية المنظمة لحرية التعبير وذلك بالشكل الملائم للاتفاقيات والمعاهدات الدولية ولما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتحديدًا المادة 19 التي تنص على أنه "لكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود".

من عثرات حرية التعبير في تونس، محاكمات الرأي وهي التتبعات التي تثار في حق النشطاء والصحفيين والمدونين وكل من يعترض أو ينتقد عملًا للسلطة أو انتهاكًا لحقوق الإنسان

فصدر المرسوم 115 الذي ينظم حرية التعبير والصحافة والطباعة والنشر ومرسوم 116 المتعلق بحرية الاتصال السمعي البصري، على ضوء توصيات واقتراحات من "هيئة تحقيق أهداف الثورة" والتي تمثّل دورها أساسًا في دراسة النصوص التشريعية ذات العلاقة بالتنظيم السياسي واقتراح الإصلاحات الكفيلة بتجسيم أهداف الثورة بخصوص المسار الديمقراطي.

وبوجود هذه الضمانات التشريعية والتي كرّسها فيما بعد دستور 2014، وبتنوع المشهد الإعلامي وتعدده ظننا أنه قد تم تهيئة مناخ كامل للحفاظ على حرية التعبير رغم العثرات التي بقيت تلازم درب الحرية.

وتمثلت هذه العثرات في محاكمات الرأي وهي التتبعات التي تثار في حق النشطاء والصحفيين والمدونين وكل من يعترض أو ينتقد عملًا للسلطة أو انتهاكًا لحقوق الإنسان وتُكيف هذه التدوينات على أنها إما "نسبة أمور غير صحيحة" أو "هضم جانب موظف"، والجدير بالذكر أن هذه المحاكمات تسبقها إخلالات في شكليات الإيقاف في بعض الأحيان بغرض التنكيل، أو أن عبارات في التدوينة أو الرأي المنشور أو المصرح به لا يتوافق مع المزاج العام للسلطة.

استسهلت الأنظمة المتعاقبة تكميم أفواه المعارضين لها لضمان بقائها في الحكم، وكان ذلك عن طريق الجهاز الأمني-القضائي بالتهديد تارة والترهيب تارة أخرى

لقد استسهلت الأنظمة المتعاقبة إذن، تكميم أفواه المعارضين لها لضمان بقائها في الحكم، وكان ذلك عن طريق الجهاز الأمني-القضائي بالتهديد تارة والترهيب تارة أخرى وذلك استنادًا إلى ترسانة القوانين التي تتنافى مع مبادئ الدستور ومع أهداف الثورة والتي طالما نادى طيف الحقوقيين والمختصين في القانون بتغييرها لما تمثله من خطر على الديمقراطية الناشئة في تونس.

يمكن بالتالي أن نعتبر أن الانحرافات بمكاسب الثورة لم تبق رهينة نظام حكم واحد، فنجد أن فترة  25 جويلية/ يوليو قد جاءت حاملة لتهديدات جديدة على مكسب حرية التعبير منها سنّ المرسوم 54 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال والذي لاقى نقدًا كبيرًا من كافة مكونات النسيج المدني التونسي حيث دعت نقابة الصحفيين التونسيين في عديد المناسبات إلى سحبه.

الانحرافات بمكاسب الثورة لم تبق رهينة نظام حكم واحد، فقد جاءت "فترة ما بعد  25 جويلية" حاملة لتهديدات جديدة على مكسب حرية التعبير منها سنّ المرسوم 54

كل هذه الانحرافات وغيرها من المحاكمات والمضايقات التي صارت ترافق العمل الصحفي بالإضافة إلى حملات التشكيك والتخوين من البعض وموجات خطابات الكراهية التي يطلقها الموالون للسلطة، أدت إلى تراجع مؤشر حرية الصحافة في تونس وذلك حسب تقرير منظمة "مراسلون بلا حدود" ليصبح ترتيب تونس 121 من مجموع 180 دولة حيث تراجعت بـ 27 درجة مقارنة بالسنة الماضية.

وفي ظل هذا الوضع المتردي للحريات عمومًا، وحرية التعبير خاصة، نجد "جسمًا نقابيًا متعدد الأوجه" داخل الجهاز المسؤول عن إنفاذ القانون يزيد الطين بلة، حيث أن وجود النقابات الأمنية قد عكّر وضع الحريات في تونس فنراها تتدخل وتضغط في عديد القضايا التي يكون الطرف فيها أمني، وهذا التدخل لم يتوقف عند الضغط فقط، بل بصور أخرى مثل رفع شكايات بالصحفيين والمدونين والنشطاء في حال تعبيرهم عن آراء يعتبرها النقابيين الأمنيين "تمس منهم".

وجود النقابات الأمنية عكّر وضع الحريات في تونس فنراها تتدخل وتضغط في عديد القضايا التي يكون الطرف فيها عون أمن

وهو الحال في ملف الصحفيين هيثم المكي وإلياس الغربي، حيث تقدم أحد ممثلي النقابات الأمنية بإيداع شكاية جزائية ضدهم بتعلة أن مضمون حلقة البرنامج الإذاعي "ميدي شو" قد مسّ من معنويات الأمنيين وشوّه صورتهم أمام الرأي العام والحال أنه قد تم التطرق في حلقة 15 ماي/ أيار 2023 إلى طريقة الانتداب في السلك الأمني والتي تشوبها بعض الإخلالات والنقائص.

وقد جاء هذا الحديث في إطار التعليق على عملية جربة التي قام بها عون أمن صاحب مرجعية تكفيرية. ومنها تم إيداع الشكاية يوم الأربعاء 17 ماي/ أيار واستدعاء الصحفيين يوم الخميس 18 من الشهر نفسه، لسماعهم يوم الجمعة من الأسبوع ذاته المقابل لـ 19 ماي/ أيار، ولكن تم تأخير هذا الموعد بطلب من هيئة الدفاع مع طلبهم بتغير الفرقة المتعهدة بالبحث، فتم رفض الطلب الأخير والإصرار على سرعة السماع أمام فرقة الإدارة الفرعية للقضايا بإدارة الشرطة العدلية بثكنة القرجاني، فكان السماع يوم 22 ماي/ أيار 2023.

حيث أن سرعة إحالة الشكاية والتعهد بها هو ما يثير الريبة حتى أنه لا يتم التعامل بنفس السرعة في القضايا التي تمثل خطرًا حقيقيًا على الأشخاص وعلى المجتمع كقضايا العنف الزوجي مثلًا، وما يثير الارتياب أيضًا هو الإبقاء على الصحفيين المحالين لمدة تقارب الثلاث ساعات على ذمة "انتظار قرار النيابة" وهي عملية غير مؤسسة قانونًا في تونس أي لا يحددها أي نص قانوني بل تمارس بشكل اعتباطي أو ربما بشكل منظم لتكون أقرب إلى الهرسلة رغم أنه في القوانين المقارنة نجد أن هذه العملية محددة.

سرعة إحالة الشكاية والتعهد بها في ملف الصحفيين هيثم المكي وإلياس الغربي يثير الكثير من الريبة إذ لا يتم التعامل بنفس السرعة في القضايا التي تمثل خطرًا حقيقيًا على الأشخاص والمجتمع

هذا ما أحاط بالإحالة من ناحية القانون والإجراءات، أما من الناحية الحقوقية فقد رافق الإحالة حملة تضامن واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي كذلك وقفة احتجاجية كانت قد دعت إليها نقابة الصحفيين أمام ثكنة القرجاني، حيث تجمع عدد من الشخصيات الوطنية ومن الصحفيين المساندين وغيرهم من مكونات النسيج المدني التي لبت نداء نقابة الصحفيين، ورابطوا هناك إلى حين صدور قرار النيابة العمومية بإبقاء الصحفيين هيثم المكي وإلياس الغربي بحالة سراح في انتظار إلى ما ستؤول إليه الأبحاث.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه الإحالة تأتي في ظرف مشحون ووضع متأزم خاصة على مستوى الحقوق والحريات، وضع ليس ببعيد عما كنا عليه حتى أن إحالة "ByLasKo-هيثم المكي" قد تزامنت مع الذكرى الـ 13 لحملة "نهار على عمار"، ومن الرسائل التي تحملها هذه الذكرى أن الوضع لا يزال مثلما كان عليه وأن الإجابة على استفتاء زهير اليحياوي هي أن "مملكة تونس ستكون سجنًا كبيرًا أقرب في تسييره إلى حديقة حيوانات" إن لم نوحد الصفوف انتصارًا للقضايا العادلة ورفضًا لأي محاولة لإجهاض ما تبقى من روح الثورة فينا، ورسالة أخرى إلى من تسول له نفسه بالجور والظلم أن الظلم مؤذن بخراب العمران على حد عبارة ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"