25-فبراير-2024
صورة من وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية لمكثر مكتريس

صورة من وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية لمكثر (مكتريس)

 

منذ الأيام الأولى للثورة التونسية، وما تلا تلك الأشهر السوريالية من سنة 2011، خرج كل التونسيون من أقاصي الشمال إلى حدّ الجنوب ومن أعلي الشرق إلى سفوح الجنوب مطالبين بـ"التنمية" وهو شعار يختزن في جوهره الرغبة الكامنة في تغيير سبل الحياة وشكل الإقامة على الأرض. لقد منحتنا في ذلك الوقت رغم اختلافاتنا سردية كيانية تقدّس الحرية في كل شيء. 

مكثر أو "مكتريس" تقع فوق هضبة ارتفاعها حوالي 900 متر فوق سطح البحر، وهي في ذاك العلوّ، تحيط بها الجبال من كل جانب

وفي تلك الغمرة العاتية من المطلبية، كان هناك صوت مختلف ومتفرّد ومتباه بنفسه هو صوت أبناء مدينة "مكثر" من ولاية سليانة، لقد جرفوا كل التناقضات النمطية وصهروها في بوتقة هدير واحد وطالبوا بشيء وحيد ومختلف على غير العادة، وهو بعث متحف جهوي بمكثر يحفظ تاريخ المكان ويرويه للأجيال. هذا الهاجس الذي جمع كل المكثريين لم يكن بدافع سياسي أو إيديولوجي، بل كان نتيجة توارثهم معنى واحد وهو أنهم سلالة قديمة ويقيمون فوق أرض قديمة تعاقبت عليها كل الحضارات ويخافون فقدان ذلك نتيجة التهميش والنسيان.

مكثر أو "مكتريس" تشبه في موقعها مدينة واسط العراقية من حيث توسطها كل المدن القديمة، فهي بين سيكافينيريا واللاس وسيراس وحيدرة وزامة وحضرموت وميستي وتيبوربوماجيس والقيروان وتبعد عن أوتيكا وقرطاج حوالي 160 كيلومتر.

 

مكثر مكتريس
طالب أهالي مكثر ببعث متحف جهوي يحفظ تاريخ المكان ويرويه للأجيال (وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية)

 

تقع مكثر فوق هضبة ارتفاعها حوالي 900 متر فوق سطح البحر، وهي في ذاك العلوّ، تحيط بها الجبال من كل جانب. هي جبال قديمة قدم الإنسان، كنشيج عين تروي البدايات والنهايات أثناء كل الحيوات، تحكي المفازات ومغامرات الأجداد النوميديين ووعورة الأيام القديمة. تحملنا إلى الماضي وأغواره الخفية النقية، جبال تختزن لا نهائية الواقع، صامتة وضاجة كحكمة. "مكتريس" تقيم خالدة في حمى ذاك الهلال من الجبال: جبل السرج، جبل كسرى، جبل مسوج، جبل برقو، جبل وسلات..

عاشت مكثر ببسالة وشجاعة كل المعارك القديمة والحديثة من الحرب البونية الأولى إلى الحرب العالمية الثانية، وكانت مدينة مشتهاة للمعمرين الفرنسيين إبان الاستعمار الفرنسي لتونس، بها حامية عسكرية وقيادة مدنية لكل الجوار، وقد تركوا بها رصيدًا معماريًا كبيرًا جعلها أهم مدينة في تلك الجهة.

كانت مكتريس مدينة مشتهاة للمعمرين الفرنسيين إبان الاستعمار الفرنسي لتونس، بها حامية عسكرية وقيادة مدنية لكل الجوار، وقد تركوا بها رصيدًا معماريًا كبيرًا جعلها أهم مدينة في تلك الجهة

وتذكر محكيات التاريخ المنسي والمائل إلى أجنحة الأسطورة أن القائد حنبعل وأثناء معركته الأخيرة ضد الغزو الروماني بقيادة سكيبيو الإفريقي والتي دارت محاورها بمنطقة "زامة" التي لا تبعد كثيرًا عن "مكتريس" وعرفت تلك النهاية التاريخية لإمبراطورية قرطاج العظيمة، قد خيّمت أجزاء من جيشه البطولي الجرّار بالمدينة ليس بعيدًا عن ضفاف وادي بوزافة. وكانت تدعو السكان المحليين إلى الالتفاف حول القائد حنبعل حتى ينتصر على الغزاة وتقول لهم إن الوعد بإقامة نوميديا الكبرى وعودة الملك النوميدي "يوبا الأول" سيتحقق بعد الانتصار. 

لكن التاريخ قال كلمته في تلك المعركة وحسمها كما يحسنها القدر، وكانت هزيهة سامية وشريفة في شكل انتصار يعانق رؤى ما بعد التاريخ لأنها هزيمة أبناء الأرض دفاعًا عن الوجود. وحل الرومان بناة عتاة بكامل جبروتهم واستوطنوا كل الأرض، وأصبحت مكتريس مستعمرة رومانية في عهد الإمبراطور "ماركوس أريوليوس" بين سنتي 176 و180 ميلادية وتحولت بذلك إلى منطقة إدارية تعود إليها بالنظر 64 مدينة تقع بين المجموعتين الترابيتين المعروفتين بباغوس ثوسكا وباغوس غنزوري.

 

مكثر مكتريس
عاشت مكثر ببسالة وشجاعة كل المعارك القديمة والحديثة من الحرب البونية الأولى إلى الحرب العالمية الثانية (وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية)

 

وبخصوص تاريخ الوجود البشري بتلك الأرض، اعتبر المؤرخون أن القرن الخامس قبل الميلاد هو السقف الزمني الدال على بداية الحياة واندلاع الفعل البشري بمكتريس. لكن هناك من فنّد تلك المقولة واعتبر الرصيد الاستثنائي من "القبور الجلمودية" الموجود بمكثر ومحيطها وجوارها الذي يمتد إلى سهول "سيراس" الخصيبة ومناطق الخلصة وأولاد خزام علامة على أن الوجود البشري يعود إلى مرحلة ما قبل التاريخ وهي المراحل الغامضة التي تلت الانفجار الكوني العظيم.

"مكتريس" التي يعتز كل سكانها وكل من زارها وكل من قرأ وبحث وكتب ودرس حولها بتراثها الغزير الممتد لآلاف السنين، وتعدّ الآثار البادية للعيان وجهة للتونسيين للاطلاع والترفيه، وهي آثار تمتدّ على مئات الهكتارات حسب خبراء المعهد الوطني للتراث التابعة لوزارة الثقافة التونسية، لكن المكتشف منها أو المنطقة المنقب فيها لا تتجاوز 40 هكتارًا وقد توقفت الحفريات الأثرية بمكثر منذ أكثر من عشرين سنة وهي من المسائل التي حيرت المكثريين والتونسيين بشكل عام.

هناك من اعتبر الرصيد الاستثنائي من "القبور الجلمودية" الموجود بمكثر ومحيطها وجوارها، علامة على أن الوجود البشري يعود إلى مرحلة ما قبل التاريخ

ورغم عدم استكمال الحفريات، فإنه من الثابت وجود أربعة أحياء كبرى بالمنطقة الأثرية الكبرى وهي: الحي الأول وتتوسطه ساحة عمومية مبلطة بحجر رخام غير مصقول وتتفرع عنها أنهج ضيقة توجد بها عتبات منازل ومقرات للتخزين وممارسة الحرف، وتشير النقائش الموجودة حول قوس النصر القريب منها والمشيّد على شرف انتصار الإمبراطور "تراجان" أن هذا الحي استحدث في القرن الثاني ميلادي، أيضًا هناك آثار لسوق تجاري وكنيسة مسيحية مؤثثة بحوض تعميد يعتقد أنه يعود إلى الفترة الوندالية، وجنوب الحي الأول يوجد حمام عمومي حصّن في فترة الحكم البيزنطي.

الحي الثاني يبدو في اتجاه غرب المدينة وغير بعيد عن القبور الجلمودية وتوجد في صدره كنيسة ثانية وتشير الدراسات التي قام بها باحثون تونسيون أن تلك الكنيسة شيدت فوق مدرسة الشباب وهو مقر لاجتماع جمعية شبه عسكرية في القرن الأول ميلادي. كما يوجد بالحي الثاني مبنى دائري يرجح أنه يعود إلى القرن الرابع ميلادي يحتوي على شبابيك وأحواض معدّة لجمع الضرائب العينية مثل الحبوب والزيت الزيتون والصوف، إضافة إلى وجود ضريح روماني داخل المبنى المذكور.

 

مكثر مكتريس
الواقع التراثي بمكتريس ثري بما لا يحتمله خيال، وأسمى مما يحصل الآن في هذه اللحظة التاريخية من نسيان وإهمال وهجر للحفريات (وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية)

 

أما الحي الثالث فيحتوي هو الآخر على كنيسة تبدو بارزة بأعمدتها وشكل قاعاتها وتشير الحفريات إلى أنها بنيت على أنقاض القاعة الباردة للحمام الروماني بالحي، وإلى جوار الساحة المبلطة يوجد معبد وثني يعود إلى الفترة النوميدية.

الحي الرابع يوجد شمال المدينة الأثرية ويوجد به مدرّج صغير يرفع بضع مئات من الناس، كما تلوح كنيسة رابعة بنيت على أنقاض معبد "ساتورن" الآلهة العظمى لإفريقيا القديمة وفوق الفضاء المقدس البونيقي المعروف بـ"التوفات" قرب قوس النصر الشهير بمنطقة "باب العين".

المتحف المحلي الصغير الموجود على حدود المنطقة الأثرية بمكثر وقبالة قوس النصر بني سنة 1967 وهو يحتوي على مجموعة نادرة وهامة من اللقى الأثرية التي تغطي تقريبًا كل الحقب التي مرت بها "مكتريس" وما جاورها، فإلى جانب اللوحات الفسيفسائية نجد النصب النذرية والتماثيل النصفية ورؤوسًا لتماثيل وأقنعة وأواني فخارية وتمائم ومصابيح زيتية.

آثار مكثر تمتدّ على مئات الهكتارات، لكن المكتشَف منها لا يتجاوز 40 هكتارًا، وقد توقفت الحفريات الأثرية بمكثر منذ أكثر من 20 سنة وهي من المسائل التي حيرت الأهالي والتونسيين بشكل عام

أما قوس النصر الذي يوجد في منطقة باب العين فهو الوحيد الذي يوجد خارج المنطقة الأثرية المسوّرة، فهو وجه المدينة وهويتها الأثرية التي عرفت بها مكتريس طيلة سنوات الاكتشاف التي بدأت مع باحثين فرنسيين منذ سنة 1894 م. وتشير الحفريات والدراسات التاريخية إلى أن القوس كان يتوسط المدينة الرومانية ويوجد في قلب ساحة تمسح حوالي 1500 متر مربع حيث يوجد امتداد لتقاطعات الشارعين الرئيسيين "الكاردو" و"الدكيمانيس"، وعرف القوس عدة ترميمات للمحافظة على توازنه ووجوده أهمها ترميمي سنة 1969 و1987 م وفي كل مرة يتم اكتشاف أشياء جديدة في القوس مثل التمائم والأحجار النذرية النوميدية التي جلبها الرومان واستعملوها أثناء التشييد.

الواقع التراثي بمكتريس غني إلى أبعد الحدود وثري بما لا يحتمله خيال، وأسمى مما يحصل الآن في هذه اللحظة التاريخية من نسيان وإهمال وهجر للحفريات وعدم توسعة المتحف وجعله جهويًا بما يليق بتونس التي تباهي الأمم بتاريخها.

إن "مكثر" والمكثريين وعشاق مكثر لا يريدون غير مزيد الانغراس والظهور أكثر فأكثر في المشهد الثقافي الوطني بمزيد التثمين والتفكير الاستراتيجي حول هذا التراث المتروك في العراء.