13-يناير-2024
الأسبلة في تونس

أستاذ تاريخ: تاريخ المياه والمنشآت المائية في تونس خسر كل الإرث المادي المتعلق بالأسبلة (صورة تاريخية متداولة)

 

تحرر الإنسان من وحدته ومن انقطاعه إلى عالمه الداخلي الخاص حيث يضيئه صوت الأعماق، ومع تعاقب الحقب الزمنية أدرك ذات الإنسان أن الزمن تيار يجرف ويمحو لكنه قَرن هذا الإدراك بمعرفة ثانية وهي أن الزمن كذلك يمنح الأشياء حضورها وقوتها ويرينا عمق حياتنا الماضية، وأفق حياتنا الآتية، وكثافة حياتنا الحاضرة، الزمن يأخذنا، لكنه يأتي بنا ويستبقنا في العالم ويتركنا لأجل قريب أو بعيد.

على إيقاع هذا التفسير الفلسفي الذي يقدمه الشاعر "أدونيس" غادرت البشرية بداوتها المتأصلة التي تقوم على الترحال في المجال، إلى منطقة فلسفية أخرى جوهرها العيش معًا وقوامها التعاون وترجم ذلك فيما سميناه "بالتحضر" فكان ملاذًا وجنوحًا نحو الاستقرار وهو ما يعتبره الفيلسوف بروديل الخط الأول لقوة الحياة ضمن حزم كبرى من حركات التاريخ.

المدينة هي مراكمة الإنسان للحياة وصرخته الحضرية الأولى، منها استمد مجازاته الجديدة خارج الديمومة القديمة، لكن العيش في المدينة له مقتضياته ومستلزماته وتدابيره العيشية

وكانت "المدينة" صدفة الحياة الحضرية وترجمة جمالية لمعنى الاستقرار ومع مرور الزمن تحولت المدينة إلى مبحث اجتماعي واقتصادي وثقافي يقطنها الإنسان، لكن في نفس الوقت تتشكل ضمنها الهويات وتسكنها الثقافات وتنبت بين شقوق جدرانها اللغات.

المدينة هي مراكمة الإنسان للحياة وصرخته الحضرية الأولى، منها استمد مجازاته الجديدة خارج الديمومة القديمة، لكن العيش في المدينة له مقتضياته ومستلزماته وتدابيره العيشية، وأهم هذه المستلزمات بالأساس هي تخطيط موقعها وتدبّر أمنها وتأمين المياه لسكانها على اعتبار أن الماء هو أساس الحياة ومن أسباب استمرارها.

من وسائل تأمين المياه بأغلب المدن القديمة التي أنشأها الإنسان على كوكب الأرض نجد "الجوابي" و"الحنايا" و"الفسقيات" و"المواجل" التي تخزن مياه الأمطار و"الأحواض المائية"

ومن وسائل تأمين المياه بأغلب المدن القديمة التي أنشأها الإنسان على كوكب الأرض نجد "الجوابي" و"الحنايا" و"الفسقيات" و"المواجل" التي تخزن مياه الأمطار و"الأحواض المائية"، والذهاب إلى تركيز شبكات معقدة تُقسم المياه بين سكان المدينة وأخرى لريّ البساتين والواحات المجاورة.

لكن "السبيل" هو الوجه الأنقي لمنظومات المياه التي ابتدعها الإنسان داخل المدينة وهي عادة قديمة تمارس في الشرق وفي شمال إفريقيا ومرتبطة بمفهوم الخير لدى الإنسان الشرقي حتى باتت جزءًا من بنيته النفسية.

 و"السبيل" هو وقف لسقي الماء لعابري السبيل والمارة مجانًا رغبة في الأجر وكان المسلمون يعدون "السبيل" أعظم ما يُثاب عليه المرء من أعمال البرّ.

 "السبيل" هو وقف لسقي الماء لعابري السبيل والمارة مجانًا رغبة في الأجر وكان المسلمون يعدون "السبيل" أعظم ما يُثاب عليه المرء من أعمال البرّ

"السبيل" أو "الأسبلة "، هي من العادات القديمة عند كل الملوك والسلاطين منذ القدم، لكن عند المسلمين تحولت إلى سلوك خيري لدى عامة الناس، فذهب العديد من الحكام أو الأغنياء والأعيان وحتى من عامة الناس إلى التنافس فيما بينهم لعمل الخير إلى بناء منشآت مائية خاصة أطلق عليها اسم "السبيل" وأحيانًا يبنى بجوارها بيوتًا يأوي إليها المارة وعابري السبيل، وتوجد "الأسبلة" عادة في الأزقة والطرقات الرئيسية وفي الساحات العامة.

 

 

وتونس لها تاريخ طويل في علاقة بالمنشآت المائية المرتبطة بالمدن فهي تمتلك أقدم خط نقل مياه روماني في العالم المعروف بالحنايا الرومانية الذي يجلب الماء من مدينة زغوان إلى قرطاج وما جاورها، وفسقيات القيروان الشهيرة التي أنشئت في عهد الدولة الأغلبية.

 كما أسس حكامها المسلمون "الأسبلة " وخصوصًا بحاضرة تونس التي تحولت إلى عاصمة البلاد منذ بداية الدولة الحفصية وهنا يحدثنا أستاذ التاريخ الصادق الفريقي، المختص في تاريخ منشآت المياه الحضرية والباحث بالجامعة التونسية أن تاريخ السقاية أو السبل هو مرتبط أساسًا بالهوية الإسلامية وبروح الشرق التي تميل إلى التدين وتربط الحياة في أدق تفاصيلها بالسماء.

أستاذ التاريخ الصادق الفريقي: تاريخ السقاية أو السبل مرتبط أساسًا بالهوية الإسلامية وبروح الشرق التي تميل إلى التدين وتربط الحياة في أدق تفاصيلها بالسماء

وأوضح أستاذ التاريخ، أن السقاية في تونس كانت لها إدارة خاصة بها في عهد الدولة الحسينية والتي تواصلت إلى حدود الاستقلال حيث كان الباي يعين من حاشيته المُقربة ما كان يُعرف بوكيل أسبلة الحاضرة وعادة ما يكون من العسكريين المرموقين ومن أشهرهم "يوسف بالكباشي الحنفي"، والذي في عهده تم ترميم أهم سبيل بتونس وهو "سبيل باب سيدي أبي سعدون" والذي كان تحت رعاية العائلة المالكة نفسها وقد أنشأه السلطان الحفصي المنتصر بالله سنة 1434 ميلادي، وذلك حسب ما ورد في النقيشة التخليدية وأوقف عليه ما يكفيه وهو ذو عمارة بسيطة ومتواضعة يغيب عنها الزخرف ونقش الصواري.

وينقسم سبيل باب سعدون إلى قسمين قسم خاص بالعابرين والسكان المجاورين وقسم للدواب يحتوي على أحواض مُغطاة بقبو وذات أبواب خشبية مرصعة بالمسامير وتوجد به مجالس و"قاعة تسبيل" وكله مبلط بالحجارة الصوان.

سبيل باب سعدون تونس

كان سبيل باب سعدون تحت رعاية العائلة الملكية في تونس (صورة تاريخية متداولة)

 

وكان هذا السبيل التاريخي يتزود بالمياه على مدار اليوم من "آبار السبع نواعير" الموجودة بالجبل الأحمر، وكانت صهاريجه وعمارته الفريدة تخضع للحراسة للصيانة والترميم بشكل دوري وخاصة دهن "الحلاقيم القادمة من الجبل الأحمر بالزيت درءًا للصدأ، وذلك إلى حين إزالته نهائيًا إبان الأشغال الحضرية المتتالية التي عرفتها ساحة باب سعدون وأسوار المدينة العتيقة ومنطقة برج زوارة وباب سعدون نفسه وذلك في الفترة الزمنية الممتدة من الستينات إلى حدود الثمانينات من القرن العشرين.   

ويذكر الباحث الصادق الفريقي، أن الوزير يوسف صاحب الطابع يعتبر من أهم الأسماء التونسية التي انشغلت بالسقاية الحضرية فمع نهاية القرن ا18 وبداية القرن 19 أقام هذا الوزير سبيلين أحدهما داخل باب سيدي عبد السلام وآخر بساحة الحلفاوين، وحبّس لهاذين السقايتين أوقافًا كثيرة منها 28 قطعة أرض فلاحية توجد بين قريتي رواد وسيدي عمر بوخطيوة في الأرياف الشمالية لمدينة تونس.

أستاذ التاريخ الصادق الفريقي: الوزير يوسف صاحب الطابع يعتبر من أهم الأسماء التونسية التي انشغلت بالسقاية الحضرية فمع نهاية القرن 18 وبداية القرن 19 أقام هذا الوزير سبيلين أحدهما داخل باب سيدي عبد السلام وآخر بساحة الحلفاوين

كما أضاف إليها فيما بعد ذلك 11 دكانًا ومقهى كائنة بحي باب الخضراء وذلك بالرجوع إلى دفاتر الخروبة (الضرائب) لسنة 1843 الموجودة بالأرشيف الوطني التونسي.

وأيضًا الشخصية الإصلاحية الشهيرة "حمودة باشا الحسيني" (1782ـ 1814)، الذي أنشأ سبيلاً عرف باسمه على الطريق الرابطة بين حاضرة تونس وضواحي منوبة وذلك سنة 1792 ميلادي، وفق ما جاء في النقيشة التذكارية الموجودة على واجهة المبنى وهو محطة استراحة تضم عدة ملحقات من بينها مسجد ومقهى وهو من المعالم الأثرية المرتبة منذ سنة 1922 وكانت المياه تأتيه من بئر مجاورة تعمل ادروليكيًا بواسطة ناعورة، وهذا المعلم الأثري هو قائم الى حد اليوم وقد عادت ملكيته رسميًا سنة 2021 الى الدولة التونسية بعد محاولات الاستيلاء عليه وعلى محيطه.  

سبيل حمودة باشا

أنشأ حمودة باشا الحسيني سبيلاً على الطريق الرابطة بين حاضرة تونس وضواحي منوبة سنة 1792 (صورة تاريخية متداولة)

 

وبخصوص أشهر الأسبلة التونسية، يذكر الباحث أن أغلبها لم يرد في الأرشيفات الرسمية حيث يغيب المؤسس والتاريخ وأسباب اختيار المكان ومهندس السبيل وذلك لاعتبارات دينية تتلخص في مصطلح "التقية"، حيث كان أصحاب الخير يتجنبون التبجح بأفعالهم تلك.

ومن هذه السقايات العمومية الموزعة على مختلف "أرباض" (أحياء) مدينة تونس العتيقة ذكر الفريقي: "سبيل باب الخضراء" و"سبيل زقاق القرادحة" بدرب العسال و"سبيل سوق أولاد بوزيد" و"سبيل التبانين" و"سبيل الغضوي بالحلفاوين" و"سبيل القنطرة" وسبيل الخضارين" و"سبيل البرادعية ".

سبيل باب سيدي عبد السلام

سبيل باب سيدي عبد السلام (صورة تاريخية متداولة)

 

كما أشار محدثنا، أن أغلب هذه السبل وكما وردت تسمياتها هي مرتبطة بحرفيين وتجار وعلية القوم من الميسورين والأغنياء.

ويضيف أن الأمير محمد الصادق باي أنشأ في سنة 1861 ميلادي بعدد من الأنهج والأزقة بمدينة تونس وضواحيها مجموعة من "الحنفيات العمومية" التي باتت تعرف لدى عامة التونسيين بـ "سبالة الحاكم" وأغلبها بقي في خدمة السكان إلى حدود سبعينيات القرن العشرين.

أستاذ التاريخ الصادق الفريقي: الأمير محمد الصادق باي أنشأ سنة 1861 ميلادي بعدد من الأنهج والأزقة بمدينة تونس وضواحيها مجموعة من الحنفيات العمومية التي باتت تعرف لدى عامة التونسيين بـ "سبالة الحاكم" 

ويختم أستاذ التاريخ الصادق الفريقي حديثه بالتأكيد على أن تاريخ المياه والمنشآت المائية في تونس خسر كل الإرث المادي المتعلق بالأسبلة، موضحًا أنه لا توجد آثار لهذا التاريخ عدا بعض الوثائق والصور والشهادات الواردة هنا وهناك.

كما أكد أن الدولة التونسية ممثلة في مصالح التراث والثقافة لم يكن لها مخطط واضح لإنقاذ تلك الآثار الهامة التي تروي جزء من تاريخ التونسيين ويبقى تدمير سقاية باب سعدون فعلاً شنيعًا في حق تاريخ تونس، حيث كان يمكن نقله بطرق علمية باعتباره معلمًا إلى مكان آخر.      

تبقى الأسبلة والسقايات والحنفيات والصنابير العمومية في تونس عنوانًا مجيدًا للحياة والحضرية والنزوع إلى الاستقرار، لكنها في نفس الوقت شاهد دقيق على ما كان يحدث في المجتمعات من أحداث ووقائع فحول الصنابير والحنفيات العمومية قصص اجتماعية وعاطفية وأحداث سياسية ودينية وثقافية واقتصادية نعود إليها لنبحث عن صورة ملونة ودقيقة للمجتمع، كما نلوذ بها لنفهم ما حدث في ماضي الزمان.