16-ديسمبر-2022
علم فلسطين في مباراة تونس وأستراليا بمونديال قطر

صورة للجمهور التونسي الذي رفع الراية الفلسطينية خلال المباراة التي جمعت تونس وأستراليا بمونديال قطر (James Williamson/ AMA)

مقال رأي 

 

ليس مفاجئًا الموقف الجذري الرافض للمونديال من قبل بعض الأصدقاء مختلفي المشارب الفكريّة والسياسية. وهو موقف مؤسَّس على رفض مبدئي لهذه اللعبة. ويمكن أن يكون هذا الموقف تعبيرًا عن ميل خاص، وهذا مفهوم. وهو لا يختلف عن الموقف المقابل المحتفي بالمونديال إلاّ في الاتجاه. فكلاهما في الأصل تعبير عن مجرّد ميل. فعاطفة السياسة كعاطفة الرياضة تنشأ كلتاهما عن ميل نفسي عابر واعتباطي في الغالب قبل أن تتأسس فكرةً ووجهةَ نظر. 

لذلك فإنّ السؤال ليس "لماذا هذا الرفض؟" وإنّما "لماذا هذا الرفض الحاد والمنهجي؟ ولماذا يتخذ له طابع "العناد الإيديولوجي" وقوّته؟".

في السؤال إشارة إلى أنّ هذا الموقف وطريقة احتجاج أصحابه له إحالة على السياسة بكل معانيها. إحالة على واجب سياسي ضُيِّع والغفلة عنه تحت حمّى المنافسة الرياضية. وكأنّ كرة القدم والفيفا بمعزل عن هذه السياسة في مستوياتها المحلية والإقليمية والدولية. ويكفي أن نشير محليًّا إلى عركة "المكتب الجامعي لكرة القدم" في تونس وملف وديع الجريء، وهوية اللوبيات التي أثارتها قبل مشاركة المنتخب التونسي وأثناءها وبعدها. وهي اللوبيات نفسها التي خاضت وتخوض منذ 2011 حربها على السياسة من أجل مصالحها القديمة والمتجدّدة.

ويكفي أن نشير إقليميًا إلى ما أشيع من موقف إعلام الجزائر الرسمي من تألق المنتخب المغربي.

ويكفي أن نشير دوليًا إلى ما بدا من استعداد العالم الغربي وخاصة الأوروبي منه إلى إعادة إنتاج "صراع الثقافات" من منطلق هيمني منذ فوز قطر بتنظيمه ومع انطلاق المونديال الذي أراده البلد المنظم "إدارة لتعارف الثقافات" بعيدًا عن منطق الهيمنة. 

مونديال قطر نجح في أن يكون "مونديال التعارف" بامتياز وقد مثّل سوقًا ثقافية بالأساس يعرض فيها كلّ بضاعته عن الإنسان والدولة والأسرة والضيافة وتقاليد المؤاكلة والمشاربة واللباس

ومونديال قطر إلى حدّ الآن نجح في أن يكون "مونديال التعارف" بامتياز، وقد انتصب سوقًا ثقافية بالأساس يعرض فيها كلّ بضاعته عن الإنسان والفرد والدولة والأسرة والمرأة والضيافة، وتقاليد المؤاكلة والمشاربة واللباس. وهذه جميعًا بلا شك ليست بمعزل عن السوق والسياسة في العالم (الرأسمالية المتوحشة والمتحكمة بشركاتها الضخمة مثلما يشدد أصدقاؤنا وهو واقع الحال).

أصدقاؤنا المصرّون على موقفهم الإطلاقي لا يصرّحون دائمًا بما يقابل موقفهم هذا. أي ما هو الموقف المطلوب؟ أو ما هي الحقيقة الضائعة نتيجة هذا الهوس الكروي؟

تأتي إجابتهم تلميحًا كما ترد تصريحًا: هو واقعنا السياسي العربي البائس (الحياتي بكل تفاصيله)، ولسان حالهم: "ما خَصْ المَشنوڤ كانْ ماكِلْة الحَلوى".

والأهمّ من كلّ هذا هو تشديدهم على أنّ الناس إنّما ينجرّون في هذه الحمّى الكروية وراء عواطف جيّاشة سرعان ما تخبو بعد انتهاء المونديال أو غيره من المنافسة الرياضية، ثمّ يعود الجميع إلى واقعهم السياسي والمهني والمجتمعي كما تركوه قبل فورتهم وهذا صحيح في مجمله بلا جدال.

ولكن هل السياسة بمعزل عن حمّى العاطفة؟

العاطفة في السياسة تحضر ولعلّها بدرجة أقوى، مع فارق جوهري هو أن عاطفة المنافسة الرياضة مؤقتة وتنتهي في الأعمّ الأغلب إلى المصافحة وتهنئة المنتصر، وقد تنتهي أحيانًا إلى تلاكم المتنافسين وتصادم بين الجمهور قد يتطوّر إلى حدّ الخصومة الجهوية محليًا والأزمات الديبلوماسية دوليًا. لكن هذا يمثل استثناءً. ويكثّف ما كان من حميميّة بين كيليان مبابي الفرنسي وأشرف حكيمي المغربي شرف انتصارهما للصداقة رغم حدّة المنافسة وقوّتها. أما المنافسة السياسية غالبًا ما تنتهي إلى تظالم من صوره الهيمنة وإعلان الحرب والاحتلال ونهب ثروات الضعيف والمغلوب. وهذه مظاهر ملازمة لما يُسمّى بالسياسة الدولية القائمة على "إدارة الصراع" والغافلة عن "إدارة الاختلاف" فالتعارف هو الأصل والأصلح للاجتماع الإنساني وتكون الحرب فيه استثناء واعتبارها "تعارفًا فاشلًا". فالاجتماع البشري هو "اجتماع من أجل التعارف وليس اجتماعًا من أجل الحرب". وهذا ما صدحت به الآية الكريمة "وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا" على لسان الفتى غانم المفتاح فخر قطر، فبدت كالصدمة المعرفية توقظ العالم المتمادي في غيّه ومظالمه التي لا تتوقّف وتذكرّه بوحدة الأصل الإنساني والمساواة التامة بين البشر. فلا فضل إلا بالتقوى بما هو عمل صالح. ولعلّه لهذا السبب العميق عرّفت العربيّة الإنسان بأنّه "حيٌّ عاملٌ، أي عابد" في محاورة مع تعريف اليونانيّة الإنسان بأنّه "حيٌّ ناطقٌ، أي عاقل".     

الاجتماع البشري هو "اجتماع من أجل التعارف وليس اجتماعًا من أجل الحرب" وهذا ما صدحت به الآية الكريمة "وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا" على لسان الفتى غانم المفتاح فخر قطر، فبدت كالصدمة المعرفية توقظ العالم المتمادي في مظالمه

العاطفة السياسية والعاطفة الرياضية تعملقتا حتى كانت لهما مؤسستاهما الضابطتان: مجلس الأمن في السياسة والفيفا في الرياضة. وكلتاهما ليستا بمعزل عن السوق والسياسة وما يرتبطان به من موازين قوى وصراع مصالح وفساد. ولكن يمكن ملاحظة أنّ عاطفة الرياضة تدار بأكثر ديمقراطية وصلة بالمعاني الإنسانية.

فمجلس الأمن وهو المؤسسة الأساسية في منظمة الأمم المتحدة قام على أساس ما ترتّب عن الحرب العالمية الثانية من موازين قوى كان فيها للمنتصرين "حقّ الفيتو". وتمكنوا بواسطة هذه المنظمة من التحكّم في العالم وتقنين الاستعمار ومظالمه وتقسيم العالم بحسب مصالحهم، رغم ما تحمله المواثيق من نزعة مساواتية وقيم حقوقيّة.

فحقٌّ مثل الحق الفلسطيني بقي حبرًا على ورق. وحتى ما صِيغَ منه منقوصًا بقي قرارات معلّقة إلى اليوم. لذلك ليس من المفاجئ أن يطفو هذا الحق على سطح مونديال قطر، ويكون "المنتخب الفلسطيني" هو المنتخب الثالث والثلاثون في هذا المونديال غير المسبوق. وقد شاهدنا في فعالياته ساسة من خارج دائرة العرب والمسلمين يحملون الزنّار الفلسطيني تضامنًا واعترافًا. 

وقد كانت من تونس الثورة في 2013 ومن مؤسسة رئاسة الجمهورية تحديدًا (الرئيس المنصف المرزوقي) مبادرة ومشروع بتشكيل "محكمة دستورية دولية" تعدّل من دور منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن على ضوء التغيرات التي دشنتها ثورة الألفية الثالثة، وتآكل مصداقيّة المجتمع الدولي أمام ما يواجه السلم الدولي من تهديدات مستدامة.

في مقارنة بسيطة يمكن ملاحظة أن الأمم المتحدة تُمثّل الدول في حين تمثّل الفيفا المجتمعات، فالشعوب التي تظهر من خلال دولها ومحاورها متصارعة متحاربة تبدو في التظاهرات الرياضية متسالمة

مؤسسة الفيفا، ورغم ما حام حولها من ملفات فساد، في فترات بعينها، ولا يمكن أن تكون بمعزل عن كل هذا، إلاّ أنّ هذا يبقى فيها استثناء. ولعلّ أهمّ ما يسترعي الانتباه في المونديال هو "استقلال القضاء". فالتحكيم فيه على أعلى درجات الكفاءة والنزاهة، وقد تقع استثناءات. وفيه قدر رفيع من الشفافية، فالجمهور يتابع "إصدار الأحكام" وحيثياتها على المباشر وبكل دقّة في الميدان وعلى شاشة "الـVAR"، ويقبل في الغالب باجتهاد الحكم حتى وإن لم يوفّق فيه.

في الفيفا لا يوجد "فيتو" في هذا المستوى، ومشاركة القارات الخمس تتطور باطّراد، والتمثيلية تتدعّم حسب كفاءة المنتخبات، رغم أن المونديال في انطلاقه كان يعطي الأولوية للمؤسسين وللدول التي تنتشر فيها اللعبة أكثر وتعرف وجود بطولات قوية. وهذا لا يمنع تأثّر المونديال في أوّل نشأته بموازين القوى الدولية في السياسة والاقتصاد و"التحضّر"، ولكن المسار العام يتجه إلى مزيد من التحوير باتجاه أكثر عدلًا في تمثيلية الشعوب والقارات في هذا المهرجان الدولي المثير. في حين تبقى المنظمة الأممية على حالها وتفتقد إلى شروط العدل الدنيا وأهمّ هذه الشروط "قضاء عادل ومستقل".

في مقارنة بسيطة يمكن ملاحظة أن الأمم المتحدة تُمثّل الدول في حين تمثّل الفيفا المجتمعات. وهذا ملاحظ في المؤتمرات السياسية الدولية وفي تظاهرات المونديال. فالشعوب التي تظهر من خلال دولها ومحاورها متصارعة متحاربة تبدو في التظاهرات الرياضية متسالمة متحاورة تبحث عن المشترك الإنساني في تنافسها، شغوفة بالتعارف . فعائد الانتصار معنوي بالأساس.

وكأن الفيفا هي المجتمعات في أفقيتها قبل ظهور الدولة، وكأنّ الأمم المتحدة هي الدولة العالمية التي ادعت كفّ الدول عن التظالم ولكنها رسّخت المظالم باحتكارها العنف والثروة والسلطة وتأكيد هيمنة المناصر والغالب. وكأنها غير قادرة على خيانة طبيعة الدولة سليلة الانقسام وشرطه في آن.

بدا هذا الدرس أكثر بلاغة في مونديال قطر، وسيكون لما بُثّ من رسائل الأثر الكبير حتى بعد خفوت الحمّى الكروية وعودة كل منتخب إلى بلده وقارّته. 

موضوع العاطفة الكروية منها والسياسية مثير لأنّه يحيلنا إلى منسوب هذه العاطفة ودرجة حضورها في الحياة الإنسانية. نقول هذا متوجهين إلى أصدقائنا وموقفهم الرافض لهذه "الدروشة الكروية" وهم يلمحون إلى بديلها وهو "العقلانية السياسية". رغم أنّهم عندما يحالون على الحياة السياسية ومنها مشهدنا السياسي في تونس يدمغوننا بـ"تردّي النخبة وفسادها". وهي في سائر خطابهم "نخبة ميؤوس منها". ويكون الانحراف إلى منطق "هلك الناس" المُهلك.

حقٌّ مثل الحق الفلسطيني بقي حبرًا على ورق وحتى ما صِيغَ منه ظل منقوصًا بقرارات معلّقة إلى اليوم، لذلك ليس من المفاجئ أن يطفو هذا الحق على سطح مونديال قطر، ويكون "المنتخب الفلسطيني" هو المنتخب الـ33 في هذا المونديال غير المسبوق

ومن ناحية أخرى، فإنّ العاطفة، من وجهة نظرنا، هي الغالب على الفرد أيًا كانت هويته وهوايته. ولو توقفنا عند وحدة اليوم الزمنيّة لوجدنا أن المرء يكون فيها جلّ الوقت تحت تأثير العاطفة والوجدان من خلال تحية الأحبة ومبادلتهم العاطفة، أو الدندنة بأغنية أوقراءة قصيدة شعر، أو النظر في لوحة أو مشهد طبيعي جميل، أو الشكوى أمام وليّ حميم وبثه معاناة الحياة وصعوبات العيش، أو النوم…فالعاطفة تغطي جلّ هذه الوحدة الزمنية (اليوم). والعاطفة هي الحالة الغالبة على نشاط الفرد وحياته ووعيه.

وأمّا العقل واستعماله فيبدو لنا قليلًا جدًّا في هذه الوحدة رغم عظمة ما بناه الإنسان من عمران وشيد من تكنولوجيا وأسباب رفاه. ولو استعمل عقله بنسبة أرفع لشقي واحترق. هكذا تبدو لنا الأمور.

وفي نهاية الأمر فإنّ مقارنة على مستوى الصورة تُظهر صورة المنافسة السياسية قاتمة في الأغلب رغم ما يرافقها من صور بديعة للجماهير الثائرة على ظالميها أو المنتصرة في هذا الاستحقاق الانتخابي أو ذاك. ومع ذلك تبقى "فرحة المجتمع" على طريقتها وهي احتفال يختلف عن "فرحة الدولة" للسبب نفسه أحيانًا.

وأمّا صورة المنافسة الرياضية وخاصّة مع ثورة تقنيات الاتصال والصورة تبدو في منتهى الجمال، وتعانق الكمال حدّ الروعة. حتّى أنّ المهتمين بالجماليات والخطاب الشعري يتساءلون : ماذا بقي للشعر والرسم والفنّ إذا لم يقرّ أهل الفنون بأننا إزاء شعرية جديدة؟ ومثلما يكون الخطاب السياسي جيّدًا ومؤثّرًا بتعدّد جمله السياسية ودقّتها تتحدّد قيمة المقابلات في كرة القدم بما توفّره من "جمل كرويّة" مدهشة تنتهي غالبًا إلى تسجيل هدف.   

الحشود في السياسة والرياضة مؤقتة فالجموع تصنع الحدث مثل الثورة والاحتفال الصاخب إلا أنّ عائدَ كلِّ ذلك يذهب إلى الجماعة الدائمة وهي "الدولة" ومن ثمّ إلى لوبيات السياسة في المال والأعمال المُوجِّهة للدولة والسياسة

وسيقال ختامًا إنّ حمّى المنافسة الرياضية زائلة فهي أشبه بالزبد الذي يذهب جفاءً. وهذا في جانب منه صحيح. غير أن الحشود في السياسة والرياضة بطبعها مؤقتة، فالجموع تصنع الحدث مثل الثورة والاحتفال الصاخب إلا أنّ عائدَ كلِّ ذلك يذهب إلى الجماعة الدائمة وهي "الدولة" ومن ثمّ إلى لوبيات السياسة في المال والأعمال المُوجِّهة للدولة والسياسة. 

كل هذا حقائق ماثلة في الاجتماع الإنساني والسياسة الدولية، غير أنّ ظواهر جديدة اليوم من المهم الانتباه إليها وتتمثّل في وجود جمهور ثابت في ميدان الرياضة تعبّر عنه ظاهرة الألتراس. ويمكن أن نكتفي بالإشارة إليها في دول أمريكا اللاتينية وشمال إفريقيا (تونس، الجزائر، المغرب، مصر).

ففي تونس تتنزل هذه الظاهرة فيما نسميه "الجيل المعولم" الذي يمتدّ من المثلية إلى الألتراس مرورًا بظاهرة "التطرّف العنيف". وهو أول من بدأ، في المدارج، المعارضة الجذريّة لنظام بن علي.

هذا الجيل قام على أنقاض جيلين مازالا يجاورانه؛ جيل الإيديولوجيا (أحزاب عقدية: حركة النهضة، حزب العمال) وجيل سياسي (أحزاب بلا مرجعية إيديولوجية موحدة: المؤتمر، الحراك، الجمهوري..).

وهو جيل من حيث الخصائص الفكرية شباب لا يعرف الخوف ويعشق بلا حب، وبذكاء تقني عال، وعلى علاقة نقدية حادة بالقيم السائدة، ولا يمكن استيعابه داخل الأطر التقليدية. ومن حيث الموقع الاجتماعي والقيمي شباب يقع في الهامش الاجتماعي والهامش القيمي.

أسابيع من المنافسة المتواصلة وما حفّ بها من بهجة عارمة في احتفالات التعارف الميداني المباشر ومن حضور لقيادات سياسيّة بارزة في الافتتاح جعل العاطفتين الرياضيّة والسياسيّة واحدًا

وإنّ المقترب من هذه الظاهرة سيلاحظ عند مكوناتها تنظمًا بديعًا، وأفقية عجيبة وتعبيرات سياسية مختلفة عفوية منها تعبيرة "تعلّم عوم"، وجمل سياسية ناضجة وقوية آخرها جملة "على وجه الخطأ" التي واجه بها الألتراس الدولة وقضاءها والمجتمع السياسي في قضية "عمر العبيدي". وهي جملة لا تختلف عن جملة الهامش المفقّر في انتفاضه المواطني في 2011: التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق". فمازال الهامش بمستوياته المختلفة الأقدر على صوغ الجمل السياسية النافذة.

ولعلّ السؤال الذي يتجنب جيل الفكر والثقافة التقليدي الذي اعتنق في شبابه مهمة تغيير العالم سؤال ما الذي يحرّك الجماهير والحشود؟ يتساءل وهو يرى آلافًا مؤلفة من الشباب متدافعة في المدرّجات ومندفعة من الملاعب تتغنّى بأبطال فرقها ومنتخباتها. وحين تعرّج على وضعها تهجو سياسة التهميش وتشخّص أسبابها وتشير بوضوح إلى المتسببين فيها من الحكام، فإنها تكون صلب السياسة وهي تظنّ أنّها بمنأى عنها. في حين لا يتطرّق الشك إلى أهل السياسة التقليديين ومحترفي الحديث في الشأن العام حول علاقة "نضالهم" بالسياسة ولا يكون منهم انتباه إلى أنّهم أبعد ما يكون عن حقيقتها. 

ويمثّل انحسار اجتماعات الأحزاب والمنظمات ومحدودية تظاهراتها علامة قويّة على واقع السياسة وحافزًا فعليًّا على إعادة النظر فيه بجديّة. إذ تكاد تنحصر التظاهرات السياسية في أعداد محدودة من مناضلين قدامى لم يعودوا قادرين على فهم ما يدور حولهم رغم سير العديد منهم المشرّفة في الدفاع عن الحرية، ورغم مجازفة طيف واسع منهم بشبابه ومستقبله المهني وأمن أسرته.

وهذا ليس تشكيكًا في جدوى الأحزاب في بناء الديمقراطية والحداثة السياسية مثلما تعرف النزعات الشعبوية العاجزة عن تقديم البدائل البسيطة، وإنما بغاية توجيه الاهتمام إلى ضرورة تجديد السياسة وابتداع أشكال الانتظام الملائمة وإعطاء الأهمية القصوى لفكرة التعارف. فالقوى السياسية في المشهد السياسي المحلي عاجزة عن التعارف بما هو إدارة الاختلاف على قاعدة مشترك وطني، لذلك مازال تنافسها السياسي ضربًا من التنافي المدمّر والاختلاف على كل شيء والعجز، وهو ما ساهم في ترذيل السياسة والتنكيل بالسياسيين وتنفير الجمهور الواسع منهم.

وحدة المجال العربي اللسانيّة والوجدانيّة طفت على سلوك الجموع رغم اختلاف الدول والسياسات، فلم يبذل الجزائري والمغربي جهدًا كي يلتقيا ويتعانقا

ولا يبدو المشهد السياسي العالمي أقل سوءًا، وبدا هذا واضحًا في مونديال قطر من خلال عديد المناكفات قبل تنظيمه وأثناءه وستبقى بعده، غير أنّ أسابيعًا من المنافسة المتواصلة وما حفّ بها من بهجة عارمة في احتفالات التعارف الميداني المباشر  ومن حضور لقيادات سياسيّة بارزة في الافتتاح جعل العاطفتين الرياضيّة والسياسيّة واحدًا. ولكنّ أكثر ما يلفت الانتباه انكشاف ملامح  لجغرافيا سياسيّة قديمة عالمثالثيّة ظُنّ أنّ التحوّلات الجيوسياسيّة الحاصلة فعلًا قد محتها، فبين الجمهور العربي وجمهور أمريكا الجنوبيّة وشائج يختلط فيه الكروي (حبّ كرة القدم في نسختها البرازيليّة والأرجنتينيّة) بالسياسي (التوق إلى بناء الديمقراطية من خلال الثقافات الوطنيّة). فلا يحتاج ميل الجمهور العربي إلى جانب منتخب الأرجنتين في مواجهة فرنسا في نهائي كأس العالم إلى سبر آراء يؤكّده. مثلما أنّ وحدة المجال العربي اللسانيّة والوجدانيّة طفت على سلوك الجموع رغم اختلاف الدول والسياسات. فلم يبذل الجزائري والمغربي جهدًا كي يلتقيا ويتعانقا. وكان للقيادة القطريّة بحضورها الأنيق من حرارة العاطفة ووضوح الرؤية ما جعل منها نقطة تقاطع جديدة بين الحشود والسياسة، وبين عاطفة الرياضة وعاطفة السياسة.

كنت تمنّيت مع كثيرين أن يحمل هذا المونديال عنوان "مونديال التعارف" قبل انطلاقه، وقد ارتسمت الفكرة في كلّ فعاليّة من فعاليّاته وفي كل تفصيل من تفصيلاتها. وسيكون اختتام هذا المونديال غير المسبوق تعبيرًا آخر عن اتجاه عام يشير إلى إمكانيّة خروج عالمنا من "إدارة التوحّش" إلى إدارة التعارف".

قد نتحدّث مستقبلًا عمّا قبل المونديال وبعده، وعن قطر قبل مونديال التعارف وبعده، لكنّ الذي لا خلاف حوله هو أنّه سيكون علامة المرحلة القادمة الأبرز قطَريًّا وخليجيًّا وعربيًّا ودوليًّا. فصراع المحاور الجديد (الولايات المتحدة/الصين) ومؤشّراته القويّة والمتنامية سينهي أدوار دول وظيفيّة قديمة ويدفع إلى بروز دول وظيفيّة جديدة وتحالفات وظيفيّة إقليميّة تمثّل أساس نظام عالمي جديد مازالت المصلحة فيه مُقدَّمة على القيمة.  

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"