مقال رأي
في قصيدته الشهيرة "التأشيرة"، انتحب الشاعر المصري هشام الجخ تفرّق العرب وتشتتهم بسؤاله المحرج "أ تجمعنا يد الله وتفرقنا يد الفيفا؟"، وأعتقد أن هذه الإشارة مرتبطة وقتها بأزمة التوتر غير المسبوق بين مصر والجزائر، على المستويين الرسمي والشعبي، على خلفية وقائع المباراة الفاصلة التي جمعت منتخبيْ البلدين عام 2009 للترشح لنهائيات مونديال 2010.
خلفت تلك الأزمة، التي استثمرها بالخصوص نظام مبارك لتبييض صورته بعنوان حمية مزيفة، ندوبًا ولكن ظلت سطحية، لم تبلغ مستوى الشرخ لعلاقة تاريخية بين بلدين يجمعهما الانتماء لأمة واحدة: أمة العرب.
أثارت استضافة قطر مونديال 2022 موجة مشاعر عنوانها الفخر بين عموم العرب، خاصة ونحن نعيش في منطقة موصومة بنظر العالم أنها منطقة أزمات وحروب
أثارت استضافة قطر مونديال 2022، وهي أول بلد عربي ومن الشرق الأوسط يحظى بشرف تنظيم أهم حدث دولي للرياضة الأكثر انتشارًا وشهرة في العالم، موجة مشاعر عنوانها الفخر بين عموم العرب، على الأقل بحسب جل التفاعلات على مواقع التواصل الاجتماعي. نحن نعيش في منطقة موصومة بنظر العالم أنها منطقة أزمات وحروب، ليس هذا العطب فحسب، ولكن نحن العرب أمة أنهكتها هذه الأزمات والحروب التي ما تنفك تتوسع مع موجة وصم بالإرهاب وانتشار رهاب العرب والمسلمين في أقطار بلاد الغرب. بهذا المعنى، توجد حاجة حيوية، وحضارية في جانب ما، ليثبت العرب، لأنفسهم قبل الآخرين، أن قطارًا ما لم يفتهم في العالم، وهم الذين أرهقتهم دروس ماضي إرث الأجداد.
خلال الأيام الأخيرة، اًثير جدل مشبوه في بلاد الغرب، أو بعضها، بغاية فرض معايير مجتمعه بوصفها معايير كونية في البلد العربي المستضيف للمونديال. لم يكن، عمليًا وفي كنهه، النقاش حول قبول المثلية الجنسية على وجه الخصوص، بقدر ما كان محاولة لممارسة وصاية.
تجاوزًا لازدواجية المعايير حول مسألة حق كل مجتمع في تحديد قوانينه الخاصة وفرضها على الأجنبي، تكشف المسألة في عمقها معضلة هي عنوان التوتر الحضاري بين الشرق والغرب. في الجدل المُثار المذكور، تدافع الجمهور العربي للتعبير بكل حماسة عن حق المجتمع العربي في ضبط قوانينه أخذًا بخصوصيته: لم يكن دفاعًا عن البلد المستضيف بل كان دفاعًا في الحقيقة عن حق العربي في صد الوصاية الغربية خاصة وأن أمة العرب لم تعالج بعد شروخ عقود الاستعمار، وهي التي لازالت تواجه لليوم احتلالًا غاشمًا استولى على أرض بشعبها وازدواجية معايير مستفزة في التعاطي الدولي مع هذا الاحتلال. المونديال، بهذا المعنى، فرصة ليجدد العرب ميثاق رابطتهم.
إثر الجدل الذي أثارته بعض الدول الغربية في مونديال قطر، تدافع الجمهور العربي للتعبير عن حق مجتمعه في ضبط قوانينه أخذًا بخصوصيته، كان دفاعًا عن حق العربي في صد الوصاية الغربية خاصة وأننا لم نعالج بعد شروخ عقود الاستعمار
في هذا الجانب، تشفي مقاطع الفيديو المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي التي تظهر التشجيع الحماسي والفرح الذي يغمر الجماهير الرياضية في عدة بلدان عربية فرحًا بانتصارات منتخبات بلدان عربية أخرى، الغليل، وهي لوحدها مصداق أن الرابطة العربية لم تنقطع رغم الندوب ومعاول التخريب داخل جسد الأمة وخارجها.
أهازيج المتفرجين في مقهى بالجزائر العاصمة بفوز المنتخب المغربي على نظيره البلجيكي، أو الاحتفالات في شوارع مدن فلسطينية بفوز المنتخب السعودي على نظيره الأرجنتيني، هي مشاهد منعشة: لقد جمعتنا واقعًا يد "الفيفا" ولم تفرقنا.
أهازيج المتفرجين في مقهى بالجزائر بفوز المنتخب المغربي، أو الاحتفالات في شوارع مدن فلسطينية بفوز المنتخب السعودي هي مشاهد منعشة: لقد جمعتنا واقعًا يد "الفيفا" ولم تفرقنا
في الواقع: هل نحن بحاجة لاختبارات لقياس مدى صلابة عودنا كأمة عربية واحدة إذا اشتكى منها عضو تداعى له الجسد بالسهر والحمى، وإن ابتهج بلد شاركه البقية بالفرح والسرور؟ أعتقد نعم. لكن نحن لسنا بحاجة لاختبارات بقدر ما نحتاج لمناسبات لتجديد دماء الانتماء للأمة أو على سبيل التذكير على الأقل. المونديال ليس مجرد حدث رياضي عابر.
في الأثناء، مثّل انتشار الأعلام الفلسطينية في ملاعب مونديال قطر علامة مميزة للنسخة الحالية لكأس العالم، باعتبار أن فلسطين هي قضية أمة العرب دائمًا، رغم مؤامرات التطبيع ومحاولات تمرير اتفاقيات سلام مغشوش.
نحن نحتاج لمناسبات لتجديد دماء الانتماء للأمة العربية وفي هذا السياق مونديال قطر ليس مجرد حدث رياضي عابر
المونديال مثل فرصة بالخصوص للإعلام الصهيوني ليعاين أن اتفاقيات التطبيع، في السنوات الأخيرة، مع بعض الأنظمة العربية، لا تعني تطبيعًا مع الشعب العربي، ولا طيًا لصفحة مقاومة مستمرة. لم تنجح أيضًا آلة الدعاية المشبوهة داخل الوطن العربي في قلب رأس الحقيقة طيلة السنوات الأخيرة: الكيان الصهيوني هو عدو وفلسطين ليست قضية الفلسطينيين لوحدهم بل قضية العرب مبتدئًا.
وقبيل انطلاق المونديال، أهدت فرقة موسيقيّة فلسطينيّة أغاني للمنتخبات العربية المشاركة في البطولة العالمية. توجد حالة من الدعم المتبادل بين المنتمين لأمة واحدة، هي تمظهر لمعنى الوحدة العاطفية بين العرب.
مونديال قطر مثل فرصة بالخصوص لإعلام الاحتلال ليعاين أن اتفاقيات التطبيع، في السنوات الأخيرة، مع بعض الأنظمة العربية، لا تعني تطبيعًا مع الشعب العربي، ولا طيًا لصفحة مقاومة مستمرة
بالنهاية، مونديال قطر هو جرعة تجديد لمتانة الرابطة العربية، فما تبينه كرة القدم هذه الأيام هو رسالة واضحة أن أمة العرب واحدة رغم إرهاق الاستنزاف والاستضعاف داخل جسد الأمة وخارجها.
إن هتاف الجزائريين للمغاربة "خاوة خاوة مش عداوة"، هو لوحده كفيل برد أي استثمار لاستهداف البلدين المغاربيين بالقطيعة. كنا بحاجة لمناسبة المونديال، خلاصة، لنسمع صوت الشعب العربي وهو يصدع بالانتماء والوحدة لأمة، سنظل نقول دائًما أن ما يجمع بين أبنائها أكثر مما يفرّق بينهم.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"