21-ديسمبر-2019

الرجل يتحدث عن مؤامرات وهو أول المتآمرين على نفسه بهذه السياسة الاتصالية الدونكيشوتية (Florian Gaertner/Photothek)

مقال رأي

 

ليلة إحياء الذكرى التاسعة لاندلاع حدث الثورة من ولاية بسيدي بوزيد، غداة انتحار البائع المتجوّل محمد البوعزيزي، التقى رئيس الجمهورية قيس سعيّد بالأمين العام لاتحاد الشغل نور الدين الطبوبي في منزله بمنطقة المنيهلة. دام هذا اللقاء زهاء ساعة ونصف من الزمن شهد خلالها الحوار بين الطرفين مدًا وجزرًا في تطارح المواضيع ذات العلاقة بالشأن العام والتحديات الوطنية في خضم السياق الراهن السياسي المحلي والإقليمي. كانت الكلمة المفتاح في هذا اللقاء هي تأكيد الرئيس قيس سعيّد على أنّه لا يثق في عديد الأطراف لكنّ ثقته كبيرة في منظمة حشّاد لكي تلعب دورها الوطني من أجل تحقيق آمال الشعب في الحرية والشغل والكرامة الوطنية.

غادر نور الدين الطبوبي منزل الرئيس مستنتجًا أنّ الرجل على عكس ما تمّ الترويج إليه إعلاميًا لن يتحدث إلى الشعب من أجل طرح مبادرة ما ولن يزور معقل الثورة التونسية أين خيبة أمل المواطنات والمواطنين قد اتسعت مثل كرة الثلج فانجر عنها أزمة ثقة تجاه الطبقة السياسية برمتها ومعها القائمون على مؤسسات الدولة التي لم تقدم إليهم الشيء الكثير رغم كلّ التضحيات التي قدمت فداء للوطن منذ حقبة الاستعمار وصولًا إلى حدث 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010، وما تلاه من مسار تحرري ضد الظلم والاستبداد والحيف الاجتماعي والتنموي.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا نطلب من قيس سعيد في قضية الشهيد محمد الزواري؟

تحدث الرئيس قيس سعيّد بشكل عشوائي وارتجالي وكأنّه حاطب ليل يخبط خبطًا عشواء

المهم في القصة برمتها أنّه لا شيء كان يوحي بأنّ الرئيس قيس سعيّد قد خطّط لزيارة سيدي بوزيد التي ليس له حاليًا على الأقل ما يقدمه لها لأسباب يطول شرحها. فقد كانت احتفالية المجتمع المدني في سيدي بوزيد صباح يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول 2019 ممزوجة بحالة من الغضب خاصة تجاه رئيس الجمهورية الذي أعاد للثورة زخمها بفضل الشعارات التي رفعها خلال الحملة الانتخابية أو التفسيرية كما أسماها إبان المعترك الرئاسي، وهو من القلائل الذين كانوا دائمًا يذكرون في تصريحاتهم وخطاباتهم بأنّه قد حصلت ثورة في البلاد حرّرت العباد بفضل دماء شهداء وجرحى أبرار.

في حقيقة الأمر، عجّلت بيانات التنديد بتعاطي رئيس الجمهورية مع رغبة المواطنين بسيدي بوزيد في حضوره لإحياء هذه الذكرى العزيزة على قلوبهم كحركة رمزية ذات دلالات سياسية على الأقل في تنقله إلى هناك وإلقاء كلمة لم تتجاوز 11 دقيقة أمام حشد من الجماهير. انتظر الجميع ماذا يمكن أن يعلن الرئيس قيس سعيّد الذي تجشّم عناء التنقل إلى سيدي بوزيد كعربون وفاء لدماء الشهداء. إلا أن كلمة الرئيس زادت الأمور تعقيدًا وعمقت الحيرة لدى كلّ عقلاني كان يتشوّف لسماعه.

تحدث الرئيس قيس سعيّد بشكل عشوائي وارتجالي وكأنّه حاطب ليل يخبط خبطًا عشواء. كان كلامه مبهمًا بشكل يعكس طبيعة الرجل الغامض الذي لا يريد أن يتحدث كثيرًا فهو يعمل في صمت ولسان حاله يقول "العبرة في الخواتيم". أعاد سعيّد تكرار نفس الشعارات التي جذب من خلالها قلوب جمهور الناخبين ناسيًا أو ربّما متناسيًا موقعه الجديد في قلب السلطة التنفيذية التي هي مطالبة بالإنجاز ولا شيء غير الإنجاز.

بيد أنّ أهم وأخطر ما جاء في كلمة قيس سعيّد الذي يرفض أن يسكن قصر قرطاج التزامًا بوعد قطعه على نفسه من أجل تقديم صورة جديدة عن الرئيس الإنسان القريب من هموم شعبه وكفاحهم الاجتماعي، حديثه عن مؤامرات تحاك ضدّ الشعب والدولة ومساعيه لتحقيق ما تعهد به في حملته الانتخابية التفسيرية من أجل كتابة تاريخ جديد لتونس انتصارًا للمبادئ التي جاءت بها الثورة.

ما يجب أن يفهمه الرئيس جيدًا أنّه لم يعد مرشحًا رئاسيًا بل هو اليوم بات رمزًا لوحدة الدولة والشعب وصوتًا لهما بين الأمم

نعم، هكذا تحدث القائد الأعلى القوات المسلحة والرئيس المنتخب بأكبر تأييد شعبي وانتخابي ديمقراطي في تاريخ تونس المعاصر والراهن بأسلوب يكتنفه الغموض ما يفتح الباب أمام عديد التأويلات التي قد تزيد في تعميق الحيرة تجاه مؤشرات سير البلاد نحو المجهول. كان يومها قيس سعيّد أقرب إلى شخصية "برومثيوس" بطل إحدى الأساطير الإغريقية الشهيرة. تحدث يمينًا وشمالًا وأطلق الاتهامات شرقًا وغربًا بطريقة مبهمة دون أن يقول لشعبه ماذا يريد أن يقول بالضبط.

إنّ كلمة رئيس الجمهورية في سيدي بوزيد، والتي تعدّ الأولى من نوعها من حيث الاتصال المباشر القائم على مواجهة الشعب، الذي في قطاعات واسعة منه مازال بصدد انتظار خطاب يقوم على المصارحة وتوضيح الرؤية المستقبلية، إن دلت على شيء فهي تدلّ على وهن اتصالي في مقاربة قيس سعيّد التواصلية. فالرجل يتحدث عن مؤامرات وهو أول المتآمرين على نفسه بهذه السياسة الاتصالية الدونكيشوتية التي ما أنزل بها الله من سلطان.

ما يجب أن يفهمه الرئيس جيدًا أنّه لم يعد مرشحًا رئاسيًا بل هو اليوم بات رمزًا لوحدة الدولة والشعب وصوتًا لهما بين الأمم. والإبقاء على نفس المقاربات الفضفاضة المضمونية والشعاراتية التي رفعها خلال حملته الانتخابية لن يضع البلاد على سكة الإصلاح ولن يؤدي إلى بعث رسائل طمأنة للداخل والخارج وهنا يكمن بالذات مربط الفرس. فتونس ليست بمعزل عن العالم الخارجي وكلمة الرئيس في سيدي بوزيد قد تكون بلغت مسامع الشركاء الخارجيين لتونس ودوائر القرار الدولي في العالم قبل أن تصل إلى غالبية الشعب التونسي.

إنّ المؤامرة هي جزء من التاريخ وبالتالي لا يمكن أن تكون التاريخ كله. والمؤامرة لا تكون بالضرورة صادرة عن الخارج بل في بعض الوضعيات تكون ذاتية بشكل مباشر أو غير مباشر. والرئيس قيس سعيّد قد يكون تآمر على نفسه بمثل هذا الخطاب الذي سرعان ما ينقلب فيه السحر على الساحر. هذا ما يجب أن يعيه الرئيس الذي يحتاج إلى إحاطة ونصح من بطانة عقلانية لها بعد استشرافي. حاشية تؤدي دورها الوطني بعيدًا عن أساليب الدعاية والتبرير وشيطنة المنتقدين أو وصد الأبواب وصمّ الآذان. بطانة مواكبة لروح العصر وليست حبيسة الماضي وجراحه النرجسية.

اقرأ/ي أيضًا: عن المناظرة التاريخيّة بين مريم وعربيّة..

الرئيس قيس سعيّد قد يكون تآمر على نفسه بمثل هذا الخطاب الذي سرعان ما ينقلب فيه السحر على الساحر

هنا بالذات أوّد أن أستسمح الأنصار الشوفينيين لسماحة السيّد قيس سعيّد وليس غيرهم في كتابة هذا النصّ النقدي تجاه سلوك الأخير منذ توليه مقاليد الحكم في رئاسة الجمهورية ولاسيما بعد الكلمة الأخيرة التي ألقاها في ولاية سيدي بوزيد أمام حشد من الجماهير. يجب أن يعلم هؤلاء جيّدًا أنّ النقد العقلاني النزيه هو أصل الحياة وسرّ تقدّم الشعوب وعلامة من علامات تحضرها، فضلًا عن أنّ عصر تقديس الأشخاص قد انتهى بلا رجعة وأنّ قيس سعيّد الإنسان الذي نعرفه هو رجل ديمقراطي بأتم معنى الكلمة وهو من الرافضين لثقافة التزلف الساذج والتطبيل النوفمبري القائم على الانتهازية والتملق الأعمى.

يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول 2019، وفي نفس التاريخ الذي كان فيه الرئيس قيس سعيّد متواجدًا في ولاية سيدي بوزيد في زيارته الخاطفة والارتجالية، عقدت دار محمد علي للنشر ندوة فكرية حوارية احتفاء بصدور كتاب "موسوعة الربيع العربي في تونس 2010-2020" للمؤرخ والمفكر الهادي التميمومي. كانت الندوة دسمة من حيث مستوى النقاش الفكري والسياسي. ما لفت الانتباه وأثار الكثير من الجدل بعد هذا الحدث الثقافي هو تصريح الأستاذ التيمومي صاحب كتاب "كيف صار التونسيون تونسيين؟"، الذي حاول من خلاله سبر أغوار الشخصية التونسية، حول الرئيس الجديد قيس سعيّد حيث قال إنّه يتوقع سقوطه بشكل صاروخي مثلما كان صعوده بشكل صاروخي، معتبرًا أنّ حاكم قرطاج لا يملك أيّ مشروع أو برنامج وأنّه لن يفلح في الصمود تجاه الكم الكبير من التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فالشعبوية بالنسبة للتيمومي لا يمكن أن تدوم كثيرًا وهي مسألة عابرة لا غير ناتجة عن حالة الإحباط وحالة التدمير الاجتماعي المعمم ولهذا ستطيح بها العبقرية التونسية، وفق تقديره.

بقطع النظر عن مسألة مناقشة ردود الفعل حول مدى وجاهة هذا الموقف والتحليل الواخز للمؤرخ الهادي التيمومي، الذي يعدّ من أكثر الباحثين إنتاجًا معرفيًا وأكاديميًا، في علاقة بتاريخ تونس الحديث والمعاصر والراهن، استحضرت بعد التأمل في ذلك حديثًا جمعني بوالدتي التي كانت قد صوتت بحماسة شديدة للأستاذ قيس سعيّد حينما كان مرشحًا لرئاسة الجمهورية. كانت أمي في البداية مترددة بين نبيل القروي (رمز الانحياز للمفقرين والمهمشين بفضل المساعدات التي يقدمها برنامج خليل تونس في قناة نسمة بالنسبة لها) وقيس سعيّد (رمز التواضع والنقاوة الثورية عكس بقية مكونات الطبقة السياسية بالنسبة لها أيضًا)، ولكنها في الأخير اقتنعت بأن يذهب صوتها لفائدة صاحب الشعار الانتخابي "الشعب يريد". مؤخرًا كنا بصدد مشاهدة التلفزيون، فتوجهت إليها بالقول بشكل مازج حينما ظهر الرئيس "هاو صديقك قيس سعيّد؟". ما راعني إلا أن أجابت كالآتي "محسوب آش نوا عملنا قيس سعيّد هاو شدّ القصر ونسانا كيف الناس الكلّ". كان هذا تقريبًا بعد حوالي شهر من تولي قيس سعيّد منصبه الجديد في سدّة الحكم بقصر قرطاج. فهل تصل الرسالة إلى الرئيس وبطانته؟

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

المتاجرة بشعار مقاومة الفساد.. علامات ومخاطر

حتّى نعيد الحياة للمسرح المدرسي