16-مارس-2019

تعيش الطفولة التونسيّة بين براثن الاعتداءات الجنسيّة والاتجار (صورة توضيحية/ توماس تروتشيل/ Photothek)

 

الطفل هو زينة الحياة الدنيا..هو زهرة الحياة ونبض الإنسانيّة. بذكره يرسم الجمال والبراءة في أذهاننا. ولكننا اليوم نرى هذه البراعم مغتالة مظلومة متألّمة وغير آمنة. لنلق نظرة على واقع طفولتنا أيامًا قليلة قبل عيدهم الوطني، من قضيّة الرقاب، مرورًا بقضيّة وفاة الرضع وصولًا إلى حالات التحرّش في إحدى المدارس العموميّة.. تخمة من الأخبار السلبية علينا تجرّع مرارتها يوميًا على شاشات هواتفنا او إذاعاتنا أو تلفازاتنا.

كيف يرى المهتموّن بالشأن التربوي هذا الواقع؟ كيف تقيّم منظّمات المجتمع المدني هذه الملفّات؟ وهل مازال للأسر التونسيّة أمل لتنشئة أبنائهم في هكذا واقع؟ أسئلة يحاول "ألترا تونس" الإجابة عنها في هذا التقرير.

اقرأ/ي أيضًا: "رد بالك على عصفورتك".. عن عالم الجنس وبراءة الطفولة

"تحمّل بني.."

"التحمل هو أول شيء يجب على الطفل تعلّمه.. وهذا هو أكثر شيء سيحتاج لمعرفته"، مقولة للفيلسوف الفرنسي جون جاك روسو قد تبدو غريبة للبعض خاصة أننا لا نحمل في زادنا المعرفي والتربوي أن طفلنا يحتاج إلى "التحمّل". لكن وعلى وقع ما نسمعه اليوم من أخبار تروج حول ما يعانيه أطفالنا في تونس فلا شك أننا سنراجع أولوياتنا في القيم التي نزرعها في أطفالنا ونجعل "التحمل" أوّلها. لماذا؟

أم خديجة (تونسية مقيمة بفرنسا) لـ"ألترا تونس": قبل زواجي كنت أرفض قطعيًا مغادرة تونس ولكن ما عشته مع أبنائي جعلني أغيّر رأيي وأهاجر إلى فرنسا

لأن طفلنا منذ لحظات ولادته الأولى عليه أن يتحمل ضيم منظومة صحيّة تفتقر إلى أبسط المرافق الطبية. فيستقبل بصيص نور الحياة في ظلماء أروقة المستشفيات. وإن سبقت المنية فجر ولادته إما لأسباب طبيعية أو بأيدي فساد مخفيّة فإنه يساق لأهله في علبة ورقية "كردونة" .

"تحمّل" أيّها الرّضيع فمازالت الطريق أمامك وعرة. فإن كنت محظوظًا ستترعرع في أسرة تحبك وتصرف الغالي والنفيس لأجلك. أمٌّ تعطي من روحها لإسعادك وأب يشقى ليلًا نهارًا لتكبر وتصبح سنده يومًا ما. كبرت بني.. ودخلت المدرسة. "تحمّل" منظومة تعليمية هشّة وإطارًا تربويًا أعيته المطالبة بالإصلاح فسلّم أمره إلاّ أولئك الذين مازال فيهم من مقولة "قد كاد المعلم أن يكون رسولًا".

"تحمّل" فقد تكون فريسة لمريض أو متنمّر من الأقرباء كان أو من محيطك يعبث ببراءتك ويطفئ بريق عينيك. إن تجاوزت هذه العقبة فلن تخطئك المخدّرات والأكل المسموم الذي يجول في أروقة معهدك وأركان شوارع مدينتك. "تحمّل"، مازالت طريقك طويلة فإن تجاوزت سنواتك الثانويّة والجامعيّة فينتظرك مشوار بطالة يأخذ ما تبقي لديك من نفس.

"وافق أو نافق أو غادر البلاد"

"أيّست منها هالهبلاد ونحب نهج"، بهذه العبارة عبّرت أم حنين خلال حديثها لـ"ألترا تونس" في تعليقها عمّا يروج من أخبار حول واقع الطفولة في تونس.

وتبيّن أم حنين (أم تونسية) أنها لم تعد لديها ثقة في أي قطاع من القطاعات في تونس وأنها خائفة على مستقبل أبنائها في ظل تردّي التعليم والصحّة التي تعتبرهما أساسيين لتنشئة طفل الغد قائلة "يؤلمني ما أتابعه من أخبار هذه الأيام حول ما يحصل للأطفال الأبرياء وهذا ما جعلني أخاف على ما ينتظر أبنائي من أيام حالكة في هذا الوطن".

محمد سمراني (رئيس جمعية أطفالنا) لـ"ألترا تونس": الطفولة التونسيّة هي آخر اهتمامات الدولة والقائمين عليها

اقرأ/ي أيضًا: الاستغلال الاقتصادي.. آفة الطفولة في تونس

أم حنين أعربت عن رغبتها الجديّة في أن تهاجر من البلاد فقط من أجل ضمان مستقبل أبنائها، حسب تعبيرها، وتوضح أن أكثر ما يشجعها هو ما تلقاه الطفولة من اعتناء وتقديس في عديد الدول الغربيّة ومجرّد المقارنة بين واقع هذه الدول وواقع تونس تجعل فكرة الهجرة أساسيّة في مشاريعها المستقبليّة.

وفي نفس الإطار، تقول أمّ خديجة (مواطنة وأم تونسية مقيمة في فرنسا) لـ"ألترا تونس"، " قبل زواجي كنت أرفض قطعيًا مغادرة تونس التي أعتبرها الهواء الذي أتنفّس ولكن ما عشته مع أبنائي جعلني أغيّر رأيي وأهاجر إلى فرنسا. تغيّرت المعطيات عندما كبر أبنائي وازدادت مصاريفهم. فبسبب تدنّي مستوى الصحّة اضطررت بأن ألد وأعالج  أبنائي في القطاع الخاص وهذا يمثّل عبئًا ماديًا كبيرًا لكن مستشفياتنا تجعلك تنفر من الخدمات ومن الوضعيّة المقززة للمؤسسات. بطبيعة الحال اضطررت أيضًا أن أدرّسهم بمؤسسات خاصة.. ما باليد حيلة لأنّ التعليم العمومي أصبح "على الحيط" ".

وتضيف أم خديجة أن هذه الظروف جعلتها تهاجر هي وعائلتها من أجل ضمان مستقبل أبنائها، وفي ظلّ ما تسمعه من أخبار فإنّها جعلتها تتأكّد من صواب قرارها.

قطاع الطفولة مهمّش لأن الأطفال لا ينتخبون

واقع الطفولة لا يحتاج إلى أفواه تدافع عنه أو تشرح شكواه أو تفصل معاناته. إنه واقع يتحدث عن نفسه بنفسه، واقع يؤلم الألم نفسه ويوغل في تعميق الجرح لعل الصراخ يستنهض الهمم ويفتح الأبواب الموصدة ولكن من المؤسف فقد أغلقت أبواب الأرض ولم تفتح سوى أبواب السماء.

يؤكّد رئيس جمعيّة أطفالنا محمّد سمراني لـ"ألترا تونس" أن الطفولة التونسيّة هي آخر اهتمامات الدولة والقائمين عليها، معتبرًا أن الجميع يتكالب على السلطة في حين أن الأطفال مغيّبون عن هذه المعادلة لذلك يقع الاكتفاء بجملة متواضعة تهمّ وضعيتهم وسط برامجهم الانتخابيّة، حسب تعبيره.

محمد العكرمي (مندوب حماية الطفولة بصفاقس) لـ"ألترا تونس": الطفولة التونسيّة تعيش بين براثن الاعتداءات الجنسيّة والاتجار

وتعيب الجمعيّة على مجلس نواب الشعب عدم تمرير القوانين الخاصّة بمؤسسات الطفولة. ويقول السمراني في هذا الصدد إن الدولة التونسيّة تخلّت عن القطاع العمومي منذ التسعينيات وعلى الرغم من استبشاره بالثورة وتوقعاته بأن تقع مراجعة مناهج التعليم والتربية استشرافًا لجيل جديد مختلف بعد 25 سنة، إلاّ أنه وقع العكس تمامًا، وفق تصريحاته.

ويبيّن رئيس جمعيّة أطفالنا أنّ حالة التعليم المتدهورة تجعلنا نتلقى أخبار حوادث اغتصاب كالتي وقعت بإحدى المدارس العموميّة بصفاقس، مضيفًا "ما يقع لأطفالنا اليوم غير معقول. فالطفل يستغل اقتصاديًا وجنسيًّا ويواجه كلّ أشكال العنف. والمتشرّدون منهم يتسوّلون ما يقارب مائة دينار يوميًا يشترون بها الكحول والمخدّرات. وحتّى داخل ساحات مدارسنا تباع الزطلة علنًا وأمام أعين الجميع".

ويؤكّد السمراني أن تجربته في مجال التفقّد والإرشاد في ولاية تونس كشفت له الوضعيّة الرثّة التي تعيشها المؤسسات التربوية، موضحًا أن استقالة الأولياء من مسؤوليّة التربية تجعل الأطفال في هاوية ومشيرًا إلى أنه حتى على مستوى التغذية يشكو الأطفال من غياب التوازن لتنتشر بذلك أمراض السمنة والكولسترول والسكري.

وفي نفس الإطار، يقول مندوب حماية الطفولة بصفاقس محمد العكرمي لـ"ألترا تونس" إن الطفولة التونسيّة تعيش بين براثن الاعتداءات الجنسيّة والاتجار رغم وجود المؤسسات للوقاية والعلاج، لافتًا إلى أن أغلبية القطاعات تهمّشت بعد الثورة ومن بينها قطاع مندوبي حماية الطفولة الذي يشتغل في ظروف صعبة دون إمكانيات كافية لمواجهة الخطر الذي يهدّد الطفولة، بالإضافة إلى إطار قانوني هش لا يراعي متطلبات عملهم.

القوانين الصارمة والواضحة هي الحل

على صعيد آخر، يقول محمد السمراني إن أساس الديموقراطيّة يُبنى مع الأطفال، موضحًا أن مشاكل الطفل اليوم أكبر من أن تقوم عليها الدنيا ولا تقعد أسبوعًا من الزمن ثم تنسى، فإمّا عناية كاملة أو لا جدوى من الحلول الترقيعيّة، على حدّ تعبيره.

ويضيف "على مجلس نواب الشعب أن يخرج من مراعاة المصالح الشخصيّة والضيّقة إلى قرارات تفيد والبلاد. وعلينا إنقاذ طفولتنا بقوانين صارمة وواضحة"، مطالبًا بالترفيع في ميزانيّة وزارة التربية ووزارة المرأة والأسرة والطفولة لأنها تحتاج إلى آليات كبيرة لمراقبة الطفولة.

من جهته، يؤكد مندوب حماية الطفولة أنه على الدولة مراعاة قطاع مندوبي حماية الطفولة وحمايته من التهميش ليتمكن القائمون عليه من تطوير آلياته لصالح الطفل.

تقول مي زيادة "إن دموع الطفل لأشد إيلامًا من دموع الرجال"، ولكن يبدو أن لا أحد يشعر بحرقة هذه الدموع ولا أحد يحترم كرامة هذا الطفل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الطفل التونسي يتيم ثقافيًّا..

بائع الورد الصغير.. طفل يبيع الحب ويشتري "الموت"