مقال رأي
تعالى الضجيج في صفحات التواصل الاجتماعي بعد إعلان حركة النهضة عن ترشيح الأستاذ عبد الفتاح مورو رئيس مجلس نواب الشعب بالنيابة للانتخابات الرئاسية المبكرة، اجتمعت المكاتب السياسية لكل التنظيمات الحزبية وتأهبت مؤسسات سبر الآراء، فقد وقع تحريك سيكولوجيا الجماهير مرة أخرى بعد صفقة طبخت على نار هادئة بين راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة، ونبيل القروي، رئيس حزب "قلب تونس"، طمعًا منهما بعد استشارات دولية في مواصلة عقد التوافق السابق الذي حُكمت به تونس في الخمس السنوات الفارطة.
لكن التساؤل الذي يراود كل مواطن تونسي خاوي البطن ومفرغ الجيب، هل نحتاج لتوافقات تقاسم كعكة السلطة كي لا نعيش خمس سنوات عجاف أخرى؟ فلنبادر أولًا بقراءة عقلانية للحقل السياسي التونسي بعد أن شهدت البلاد حدثين هامين: يتمثل الحدث الأول في وفاة رئيس الجمهورية محمد الباجي قائد السبسي رحمه الله وما نتج عنه من درس ديمقراطي تونسي سواءً بالانتقال السلس للسلطة طبقًا لدستور الجمهورية الثانية من جهة، ووحدة الشعب التونسي حكومة ومعارضة زمن الأزمة وهو ما تجلى في الجنازة الوطنية التي واكبها الإعلام العالمي من جهة ثانية، مما ساهم في تحريك الحس المواطني الشعبي لدى عموم التونسيين، الذي سيؤدي بالضرورة إلى ارتفاع نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة.
التساؤل الذي يراود كل مواطن تونسي خاوي البطن ومفرغ الجيب، هل نحتاج لتوافقات تقاسم كعكة السلطة كي لا نعيش خمس سنوات عجاف أخرى؟
ويتمثل الحدث الثاني في قرار حركة النهضة تقديم مرشح رئاسي من داخل مؤسساتها لأول مرة في تاريخها بعد أن كانت تلتجئ إلى سياسة المهادنة أو ما يسميه التونسي بـ"الباراشوك السياسي". أتفهم غضب بعض الجماهير وفرح البعض الآخر، إذ سيحدد هذا القرار الناخب المفترض لحركة النهضة ويضعها ضرورة على الميزان الانتخابي، كما لا أعتقد أن مرشح حركة النهضة قادر على تجاوز 500 ألف صوت حين تنافس الحركة بكامل ثقلها، وأكاد أجزم أن هذا العدد من الناخبين غير قادر على إيصال المرشح عبد الفتاح مورو إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية.
إن العنصر الإيجابي الوحيد بالنسبة لحركة النهضة بتقديم مرشح رئاسي في هاته المحطة الانتخابية هو ضمان كتلة نيابية بين الأربعين والخمسين نائبًا في المجلس النيابي القادم تمكنها من التفاوض على تشكيل الحكومة القادمة، والعنصر الثانوي هو توجيه ناخبيها في الدور الثاني إلى أحد المرشحين الذي ستتم معه توافق اقتسام السلطة.
اقرأ/ي أيضًا: مورو.. وصية السبسي!
أما بالنسبة للجماهير الغاضبة والتي تتمثل أساسًا في مريدي المرشحين الذين لا يملكون تنظيمات حزبية متماسكة وماكينات انتخابية، وأذكر أساسًا المرشحين مصطفى بن جعفر، وقيس سعيد، ويوسف الشاهد، وحمادي الجبالي، ومنصف المرزوقي، وعبد الكريم الزبيدي، وسيف الدين مخلوف، فقد كانوا جميعًا ينتظرون عدم ترشيح حركة النهضة لشخصية من داخلها أو دعم أحدهم ممّا أدى ضرورة إلى نهايتهم السياسية ومجرد المشاركة الرمزية في المحطة الانتخابية الرئاسية، ولن تكون لهم تمثيلية غالبًا في المجلس النيابي القادم.
في المقابل، يصطف مرشحو "السيستام"، بعد تفتت نداء تونس حزب الرئيس الراحل محمد الباجي قائد السبسي وصراع وراثة الإرث الانتخابي بين المؤسسين التاريخيين للنداء الكبير، وراء نبيل القروي صاحب قناة "نسمة"، عبير موسي مرشحة الدستوري الحر، وعبد الكريم الزبيدي المدعوم من نداء تونس وآفاق تونس ومهدي جمعة مرشح البديل التونسي. ورغم تصدر نبيل القروي صاحب جمعية "خليل تونس"، "الملياردير زعيم الفقراء"، لكل نتائج سبر الآراء المفترضة، فإن معركة كسر العظام ستدلي بدلوها لبلوغ الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية إذ لم يعد هناك ما يجمعهم رغم خطورة وضع ملفاتهم على الطاولة.
إن العنصر الإيجابي الوحيد بالنسبة لحركة النهضة بتقديم مرشح رئاسي هو ضمان كتلة نيابية بين الأربعين والخمسين نائبًا في المجلس النيابي القادم تكون قادرة بها على مفاوضات تشكيل الحكومة
ويترشح وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي كما سيترشح رئيس الحكومة يوسف الشاهد ورئيس مجلس نواب الشعب بالنيابة عبد الفتاح مورو يوم الجمعة القادم، وللأسف سيلقى بالميثاق الأخلاقي على الحائط لنواكب حرب التشهير والتسريبات، هو صراع قوة المال من أجل كرسي قرطاج، وهذا ما أرادوه وخططوا له. لكن من المؤكد أن كل من استهتر بذكاء الشعب التونسي سينال جزاءه.
وأتناول في النقطة الثالثة المرشح الرئاسي محمد عبو أمين عام التيار الديمقراطي الذي أعلن منذ 21 أفريل/نيسان 2019 ترشحه للرئاسية إثر قرار المؤتمر الوطني الثاني لحزبه، إذ لم يصطف في طابور العصافير النادرة بمونبليزير كما لم ينتظر رأي "الإيليزي" حتى يتخذ قرار جمع التزكيات الشعبية ثم يقدم ترشحه في مقر الهيئة العليا المستقلة للانتخابات يوم فتح باب الترشحات الرئاسية الجمعة 2 أوت/أغسطس 2019. كثيرة هي الرسائل التي تلقاها المواطن التونسي في تقديري، لقد نجح محمد عبو في مأسسة حزب اجتماعي ديمقراطي متماسك تعلو فيه صوت الديمقراطية الداخلية قادر على أن يكون الواجهة السياسية لكامل العائلة الاجتماعية الديمقراطية، ونجح كذلك في تزعم هاته العائلة مؤمنا بأدبياتها وتصوراتها.
يعرض محمد عبو نفسه كخيار ثالث لطيف واسع من التونسيين قادر إذا اجتمع حوله بقية الفاعلين السياسيين والمجتمعيين على كسر توافق غنوشي-القروي الذي يهندس في الغرف المظلمة
اقرأ/ي أيضًا: "خوانجي".. تهمة في مهبّ المزايدات الانتخابيّة
يعرض محمد عبو نفسه كخيار ثالث لطيف واسع من التونسيين قادر إذا اجتمع حوله بقية الفاعلين السياسيين والمجتمعيين على كسر توافق غنوشي-القروي الذي يهندس في الغرف المظلمة، هم قادرون على مواصلة مأسسة ديمقراطية تونسية حقيقية وليست هاته الديمقراطية الشكلية التي أصبحت مجرد آلية تقنية لأصحاب السلطة للتشبث بكرسي الحكم. يخوض عبو صراع الأجيال الخفي بين جيل الخمسينيات الذي نجح في مأسسة مفهوم الوطن وكان قد أدى دوره بنجاح، وهذا الجيل الجديد الذي تنوط بعهدته مأسسة المواطنة مفهومًا وممارسة. وما يلاحظه المتابعون للشأن السياسي التونسي أن محمد عبو بصدد تزعم هذا الجيل الجديد برؤية الدولة القوية والعادلة، دولة قاطعة مع الزبونية والمحسوبية والبيروقراطية الإدارية. جيل جديد متكاتف في خدمة وطنه يناضل من أجل الابداع في المبادرة والزيادة في نسب الإنتاجية ملتزمًا بواجباته ومدافعًا عن حقوقه
وفي النقطة الرابعة والأخيرة، نتناول مقتضيات المرحلة، الفرصة التاريخية للديمقراطية التونسية المتمثلة في مأسسة الحزب الاجتماعي الديمقراطي الكبير الذي يرى فيه معظم المواطنين أنفسهم محافظين على التنوع والاختلاف مدافعين على الحقوق الكونية في تونس. ما أعتقده أنه قبل 31 من شهر أوت/أغسطس الحالي تاريخ إعلان الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عن القائمة النهائية للمرشحين للانتخابات الرئاسية، بالإضافة إلى رفض المترشحين غير الجديين، فإن بعض المرشحين الآخرين سيسحبون ترشحهم على سبيل الذكر لا الحصر رئيس الحكومة السابق حمادي الجبالي، كما من الممكن أن لا يقدم بعض المرشحين الذين أعلنوا سابقًا استعدادهم لخوض غمار الانتخابات الرئاسية وثائقهم لهيئة الانتخابات، مما سيؤدي ضرورة إلى ضراوة التنافس في الدور الأول بين أربعة مرشحين جديين أذكرهم حسب تقديري ومستندًا على معطيات الحظوظ كالآتي عبد الكريم الزبيدي، ومحمد عبو، ونبيل القروي وعبد الفتاح مورو.
ستشهد الساحة الانتخابية "الاستقطاب الرباعي" بين مرشح التيار الإسلامي، ومرشح التيار الدستوري، ومرشح التيار الاجتماعي الديمقراطي، ومرشح التيار الشعبوي، فكل ناخب سيمتصه إعصار هاته التيارات
أعتقد أن هاته الوضعية في فن الممكن بحكم وجود أربعة أقطاب جامعة تقتضي ثلاثة أشياء، أولها أن الكثير من الفاعلين سواء كانوا مدونين أو إعلاميين أو فنانين أو ممثلين سيترجلون من ربوة المتابعة والمشاهدة لإعلان دعمهم العلني وسيستفيد كل منهم من هذا الحزام الاجتماعي الثقافي وأولهم مرشح العائلة الاجتماعية الديمقراطية محمد عبو. وثانيًا، سيحاول العديد من السياسيين والتنظيمات الحزبية لباس طوق النجاة قبل النهاية السياسية، فالتاريخ الحديث لن يجر وراءه تركة الماضي فستشهد هاته المحطة دعم فاعلين في الشأن السياسي مرشحين بعينهم مما سيؤدي إلى تواجد حزام سياسي لكل من أصحاب الحظوظ الأربعة وسيتحصل عبو على الحاصل الأكبر من الحزام السياسي نظرًا لتاريخه النضالي وانعدام عداواته فقد أصبح÷ في تقديري، رمز القاطرة الجامعة لطيف سياسي واسع والقادر على تشكيل تعبيرة واقعية لرئيس جمهورية يمثل كل التونسيين.
أما ثالثًا، ستشهد الساحة الانتخابية "الاستقطاب الرباعي" بين مرشح التيار الإسلامي، ومرشح التيار الدستوري، ومرشح التيار الاجتماعي الديمقراطي، ومرشح التيار الشعبوي، فكل ناخب سيمتصه إعصار هاته التيارات حسب متابعي الشأن العام السياسي.
ختامًا، تخطو تونس يومًا بعد يوم محو تجذير ديمقراطيتها رغم كل المخاطر التي تهدد هاته التجربة الفريدة في الربيع العربي بعد ثورة 17 ديسمبر/ 14 جانفي التي أطاحت بنظام الدكتاتور بن علي معبرة عن المثال التونسي كبصيص نور في دول العالم الثالث وفي الوطن العربي. إن ما يجمع ويوحد الشعب التونسي هو وعيه، وهو اليوم يحث خطاه صابرًا متماسكًا من أجل دولة قوية وعادلة، دولة علوية القانون والمؤسسات، ودولة الاختلاف والمساواة، دولة منتجة يطيب فيها العيش الكريم.
اقرأ/ي أيضًا: