25-ديسمبر-2018

نجح منظمو "سينما الريف" في تقويض المركزية على وقع ضحكات الأطفال

يقول محمود درويش "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، ويقول أبناء المكناسي "على "الهامش" ما يستحق الحياة، لأننا أبناء المكناسي فنحن نستحق الحياة"، شباب يؤمنون أن الثقافة سبيل للتغيير ويسعون إلى فك عزلة الجهة الواقعة خارج سياق المركز، ضمن جهات خطّت الدولة معالمها على خارطة النسيان.

مهرجان سينما الريف الذي ولد من رحم جمعية فن المكناسي، انطلقت دورته الثانية في التاسع عشر من شهر ديسمبر وتتواصل إلى السابع والعشرين من الشهر نفسه

هم سليلو جمعية فن المكناسي التي تأسست منذ سبتمبر/ أيلول 2015 وتم الإعلان عنها في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية في شهر جوان/ حزيران 2016، حبّهم للفنّ لا يضاهيه إلا حبّهم لجهتهم التي تعلموا منها الصمود في وجه نسيان الدولة وصمودها، تعلّموا من مقاومي منطقة "النصر" أنّ الانتماء إلى أرض تونس من شمالها إلى جنوبها عقيدة ودين.

مجموعة من الشباب زادهم الحلم والشغف وبعض من الأمل في غد أفضل، غد تكون فيه جهتهم المهمّشة على خطّ الثقافة مع جهات أخرى حالفها الحظّ وجاد عليها المركز بنظرة ود، تختلف هيئاتهم وقد تختلف زوايا نظرهم ولكن بريق الحماسة يسكن في أعين كل فرد فيهم دون استثناء، فحب الفن والتوق إلى صناعة مشهد ثقافي يكون امتدادًا لجهة المكناسي ورصاصة يطلقونها في وجه ااسلطات التي لا تغريها ثقافة "الهامش".

أن تضاء شمعة الفن في المكناسي، وأن تحطّم أسوار التهميش التي أغرقت الجهة في عزلة ثقافية، حلم تشاركه شباب الجهة وعاهدوا أنفسهم على جعله حقيقة لا تعرف تشكيكًا ولا حدودًا، وكانت تظاهرة سينما الريف أوّل الغيث.

"سينما الريف" تعبيرة فنية واحتجاجية في الآن ذاته فهي تحاول زعزعة الركود الثقافي الذي تشهده الجهة والاحتجاج على التهميش الثقافي الذي تكرسه السلطة

اقرأ/ي أيضًا: بـ"غاليري" قصر خير الدين.. عبد العزيز القرجي ينهض كطائر الفنيق مزهرًا ومبهجًا

سينما الريف.. تعبيرة احتجاجية وفنية

غياب قاعة سينما في الجهة يتوجّه إليها محبّو الفن السابع، لم يثن الشباب الذي صقلت وطأة التهميش عزيمتهم، فأبوا إلا أنّ ينظّموا تظاهرة سينما الريف في مدينة المكناسي وأريافها ليكسروا جدار المركزية داخل " الهامش" أيضًا.

المهرجان الذي ولد من رحم جمعية فن المكناسي، انطلقت دورته الثانية في التاسع عشر من شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري وتتواصل إلى السابع والعشرين من الشهر نفسه، و"سينما الريف" تظاهرة برهن فيها شباب الجهة على أنّ الإيمان بفكرة ما وحده قادر على افتكاك الحق في الثقافة دون قيد زماني أو مكاني ودون حدود البيروقراطية.

ترى الأطفال يدخلون أفواجًا أفواجًا إلى المدارس لمشاهدة الأفلام

للتعبيرة الفنية وقع الرصاصة إذ هي بدرت من أشخاص يسكبون أرواحهم في الأفكار ويبذلون طاقتهم في سبيل كسر جدار البرود والملل في الجهة " المتصحّرة" ثقافيًا. وجولة خاطفة في المكناسي والأرياف المتناثرة حولها كفيلة بأن تكشف لك من أين يأتي إصرار القائمين على جمعية فن المكناسي، إصرار لا وليّ له ولا سيّد.

طلبة وتلاميذ، بإمكانيات محدودة جدًّا على عكس شغفهم وطموحهم، الذي لا تحده سماء المكناسي التي تصاعد إليها دخان العجلات المحترقة خلال احتجاجات ليلية بالمنطقة على خلفية التهميش وانعدام التنمية بالجهة بالتزامن مع الذكرى الثامنة للثورة.

و"سينما الريف" تعبيرة فنية واحتجاجية في الآن ذاته، فهي من ناحية تحاول زعزعة الركود الثقافي الذي تشهده الجهة في علاقة بالفن السابع، ومن جهة أخرى احتجاج على التهميش الثقافي الذي تكرسه السلطة في بعض الجهات، وافتكاك لحق أهالي الجهة في الثقافة.

لرواد المقاهي أيضًا نصيب من السينما، رغم أنه ليس من الهين تهيئة مقهى لعرض فيلم

لكم قاعات السينما ولنا المقاهي والمدارس

على غرار جهات أخرى في الجمهورية التونسية، تغيب قاعات السينما عن المكناسي، وحتى دار الثقافة في الجهة تعيش حالة موت سريري، ليولي القائمون على تظاهرة "سينما الريف " في دورتها الثانية وجوههم شطر المقاهي والمدارس يعرضون فيها الأفلام للأهالي والأطفال.

لم يكتف منظمو "سينما الريف" بعرض أفلام للأطفال وإنما أمنوا عروضًا تنشيطية زرعوا من خلالها البسمة في وجوه أطفال تناستهم الدولة

اقرأ/ي أيضًا: مسرح قصر الجم.. من فضاء للموت إلى منبع للحياة

وفي المدارس المنتصبة في أرياف المبروكة والكرمة والغريس والمشاركة والنصر، ترى الأطفال يدخلون أفواجًا أفواجًا إلى المدارس. ولم يكتف منظمو التظاهرة بعرض افلام للأطفال وإنما أمنوا عروضًا تنشيطية زرعوا من خلالها البسمة في وجوه أطفال تناستهم الدولة في غمرة عشقها للمركز.

لأنهم يؤمنون بحق الأطفال في الثقافة، سدّوا تلك الفجوة التي مضت سياسات الدولة في توسيعها، وقوضوا مركزية المركز على وقع ضحكات الأطفال وبريق الفرح لا يغادر أعينهم. بعض الأفعال لا يمكن توصيفها لأنك تقف أحيانًا عاجزًا عن ترجمة وقعها على الآخر، فاللغة جمعاء قد تعجز عن وصف شرود طفل وهو يتابع فيلم شارلي شابلان أو بكاء طفلة وهي تشاهده يغادر الشاشة ويقتحم قاعة العرض رفقة شبيه له.

تكاد تظاهرة "سينما الريف" تصرخ "أأسمعت لو ناديت حيًا لكن لا حياة لوزارة الثقافة"

وشباب المكناسي أثبتوا أن فاقد الشيء يعطيه بسخاء، فالأطفال الذين لم ينعموا بالسينما في صغرهم ولم تتح لهم فرصة مشاهدة فيلم في المدرسة، وهبوا الأطفال ما حرموا منه في طفولتهم، وجسدوا لهم شخصية شارلي شابلان ولاعبوهم بحماس الطفولة.

ولرواد المقاهي أيضًا نصيب من السينما، رغم أنه ليس من الهين تهيئة مقهى لعرض فيلم، فالأمر قد يستغرق ساعات يبدو فيها منظمو المهرجان مثل خلية نحل، يسدون منافذ الضوء ويعلقون الستائر وينضدون الكراسي.

إمكانيات مادية ولوجستية محدودة جدًا وفق ما عيناه، ولكنك لن تستشعر ذلك إذا ما رأيت هيئة التنظيم تهبّ هبة رجل واحد، وأنت قطعًا لن ترى إلا البسمة على وجوههم رغم الصعوبات والنقائص.

لرواد المقاهي أيضًا نصيب من السينما ضمن فعاليات "سينما الريف" 

سينما القرب

ومن بين الأفلام التي عرضت في المقاهي فيلم "جهة" للمخرج رضا التليلي أصيل ولاية سيدي بوزيد، والاختيار غير الاعتباطي في محله إذ يراعي قيمة القرب التي قد تخاطب بعض المشاعر الكامنة في نفوس رواد المقهى.

فأن يسمع أصيل المنطقة "قوالة" أي جملة غنائية يردّدها فارس من المكناسي مهد تربية الجواد العربي الأصيل، فمن المؤكد أن الأمر سيقترن في مخيلته بذكرى ما ويحثه على مشاهدة الفيلم الوثائقي. والفيلم يروي مشاكل تربية الخيول في المكناسي، تذمر المربين من التضييق عليهم وما بينهما يلقي عينا "الخربڨة" اللعبة المفضلة لأجدادنا، وطقوس نحر الجمل والخرفان، ويوثق الموروث الغنائي وأهازيج النسوة ذوات الوشم والمدح والرقصات التقليدية، والحلي واللباس التقليدي.

جولة بين الرقاب والمكناسي وبوزيان وعين دراهم تأخذنا إليها كاميرا رضا التليلي، وإن كان الجزء الأعظم من الفيلم يوثق لجهة المكناسي إلا أنها لم تكن عنوانًا الفيلم الذي ربما أراده صاحبه غير محدد ليتمثل المتفرج نفسه في الجهة التي تداعب أوتار ذاكرته.

لقد أسمعت لو ناديت حيًّا لكن لا حياة لوزارة الثقافة   

مهرجان "سينما الريف" في دورته الثانية لاقى دعمًا من المركز الوطني للسينما والصورة ومؤسسة روزا لوكسمبورغ  والاتحاد العام التونسي للشغل ونادي " ciné B"، ولكن ميزانيته ظلت محدودة جدًا رغم تطورها عن مثيلتها في الدورة الأولى التي لم تحظ إلا بدعم أهالي الجهة، وفق ما أفاد به به مدير التظاهرة معاذ الڨمودي "الترا تونس".

والإمكانيات المادية واللوجستية لم تثبط من عزائم  شباب الجهة ولم تنقص ذرّة من شغفهم بتغيير المشهد الثقافي في المكناسي، شغف قادر على فك العزلة الثقافية للجهة، وهو عهد يتقاسمه أعضاء جمعية فن المكناسي.

من سيدي بوزيد التي أطلقت الشرارة الأولى للثورة منها، يواصل الشباب مقاومة الواقع الذي يقترب شيئًا فشيئًا من السوداوية

و"سينما الريف" في دورته الثانية التي تحمل عنوان " شكون قال السينما تصير كان في الصالات"، ولّد حركية ثقافية في الجهة التي تعيش في الآونة الأخيرة على وقع احتجاجات مطالبة بالتشغيل والتنمية.

والمهرجان يسعى إلى تغيير واقع الجهة الثقافي وكسر الركود والجمود الذي يسمه منذ زمن طويل، مهرجان مبني على الإيمان بالثقافة رافدًا للتغيير وتنمية الوعي المواطني، وملاذًا من اليأس والقنوط الذي يمكن أن يتسلل إلى نفوس أبناء الجهة الذين يعانون البطالة والتهميش.

يقول الشاعر "أأسمعت لو ناديت حيًا لكن لا حياة لمن تنادي" وتكاد تظاهرة "سينما الريف" تصرخ "أأسمعت لو ناديت حيًا لكن لا حياة لوزارة الثقافة" فالدعم الذي حظيت به التظاهرة من المركز الوطني للسينما والصورة وإن كان متنفسًا للقائمين على المهرجان، إلا أن وزارة الثقافة مطالبة بإيلاء مزيد الاهتمام لمثل هذه المبادرات الثقافية التي من شأنها أن تساهم في تغيير واقع الجهة بشكل أو بآخر.

ومن سيدي بوزيد التي أطلقت الشرارة الأولى للثورة، يواصل الشباب مقاومة الواقع الذي يقترب شيئًا فشيئًا من السوداوية، محملين بالصبر على نسيان الدولة الجهة وإيمانهم بالفن أداة للنضال.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بائع الورد الصغير.. طفل يبيع الحب ويشتري "الموت"

من فسقية مهملة إلى مسرح أثري.. شرارة في ثورة المواطنة