20-ديسمبر-2018

عرض موسيقي في اختتام الندوة السنوية الثالثة للهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب (الإدارة العامة للسجون والاصلاح)

عازفون اعتلوا ركح مسرح الجهات بمدينة الثقافة، لا شيء يوحي أنهم مساجين باستثناء الحراسة المشدّدة في مدخل المسرح، وأعوان السجون والإصلاح المنتشرين في كل الزوايا.

وافدون من سجن برج الرومي، ذلك الجحيم الذي شيّده الاحتلال الفرنسي للتنكيل بالمقاومين الذين ناهضوا وجوده، وورثته السلطات التونسية بعد الاستقلال فضاءً لتعذيب المعارضين، قدموا وزادهم حلم بأمتار من الحرّية.

هم 16 سجينًا كانوا أبطال لحظات إبداعية لا تحدّها قضبان الزنازين ولا تشوّهها ذكرى برج الرومي الدموية

محمّلين بمشاعر يعرفونها ولا نعرفها، شجن السجن وهوس الانتظار وما بينهما من أمل ويأس وتوق إلى الحرّية وشوق للأهل واشتهاء العفو، خلقوا موسيقى فيها من السحر ما يجعل جميع لغتنا عاجزة وصدحت حناجرهم بكلمات ليست كالكلمات.

هم ست عشرة سجينًا كانوا أبطال لحظات إبداعية لا تحدّها قضبان الزنازين ولا تشوّهها ذكرى برج الرومي الدموية، صقل مواهبهم ظافر غريسة عرّاب المجموعة الموسيقية ومؤطر العرض الذي حاكته حناجرهم وأياديه.

وليس الحفل الموسيقي الذي أحياه السجناء، إلا اختتامًا للندوة الدولية السنوية الثالثة للهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب بعنوان "الآليات الوقائيّة الوطنيّة في مواجهة الاكتظاظ داخل الأماكن السّالبة للحرّية -المقاربات والاستراتيجيّات".

اقرأ/ي أيضًا: أيام قرطاج المسرحية.. سجناء حرّرهم المسرح

تجربة إنسانية لا تعترف بالجدران

الحفل الذي أحيته المجموعة الموسيقية ببرج الرومي هو تجربة إنسانية لا تعترف بالجدران، تتحسس من بين الأنغام نبرات شجن وحنين وندم ورغبة في الانعتاق وسط أعين تنظر باسمة ولا يخفّ بريقها، أعين عرفت دربها إلى الأهل فعانقتهم دون انقطاع.

بالموسيقى والحلم، صافح المساجين الحرية، أطلقوا العنان لحناجرهم فانسابت الكلمات من حلوقهم حرّة طليقة كأطياف النسيم وعانقت النغمات، ربّما تختلف حاجتهم إلى الموسيقى عن حاجتنا نحن الواقفون على الضفة الأخرى من القضبان، هم يحتاجونها حتى لا ينسوا أن الحرّية فكر وعقيدة وأنهم وحدهم القادرون على المشي في دواخلهم حيث تسكن أشياء لا يطالها إلا هم لأنها تعنيهم فقط.

كان المدّ الثقافي الذي شهدته السجون التونسية في السنوات الأخيرة فسحة لأنسنتها والقطع مع ماض أليم ارتبط بالتعذيب والتنكيل

وكان المدّ الثقافي الذي شهدته السجون التونسية في السنوات الأخيرة فسحة لأنسنتها والقطع مع ماض أليم ارتبط بالتعذيب والتنكيل. فالسجين اليوم، إنسان يقضي عقوبة سلبت منه حرّيته دون أن تسلب إنسانيته، هو مبدع وفنّان يتجاوز صدى صوته أسوار السجن.

وأن يغنّي سجناء برج الرومي في مدينة الثقافة في قلب العاصمة التونسية، ليس تجربة ذاتية فحسب بل هي تجربة موضوعية ودليل على أن الأمل في التغيير مازال قائمًا.

أن تخلق أغان من خاصرة الوجع

يؤلف المساجين، في السجن، "الزندالي" أو أغاني السجون، يكتبون ويعبرون بل هم يحاربون اليأس ويهزمونه، وتلك الألحان التي ينظمونها أمل يتحسّسونه مع كل نغمة تتحرّر من أفئدتهم دون أصوات آلات موسيقية، لكنّها نغمات يفوح منها أريج الحرّية.

اقرأ/ي أيضًا: "الزندالي.. نشيد السجون التونسية".. حفر في ثقافة الهامش

وقد أدى سجناء برج الرومي أغنيتين من تأليف وألحان أحدهما، أغنيتان ترشحان وجعًا وشوقًا ومعاناة وقهرًا وضيمًا وندمًا ورجاءً وأملًا وهروبًا وشكوى ومشاعر أخرى لا يفقهها إلا نزلاء السجون.

تغنّت الأغنية الأولى بالأم، بحنانها، وحضنها الدافئ الذي ينسي السجين برد الزنزانة ما إن يرتمي فيه، وتقول كلماتها "هانا جينا من بعد سنين تلمينا..الحنينة كنشوفك تدمع عينينا ..برشا بكينا وحنانك والله مانسينا.. اه يا زينة فراقك والله كاوينا.. ارضي علينا كرجعنا سماحك يزينا ..كي تضميني في شقايا وتعبي تنسيني.. الروح غريبة فراقك يما حكاية صعيبة..يا لحبيبة عليك نغني فراقك يما لا عاد نطيقا".

فيما صوّرت الأغنية الثانية خيانة حبيبة السجين وهجرها بعد أن أعلن القاضي حكمه، تحمل كلمات الأغنية مزيجًا من المشاعر المتناقضة، ألم الغدر والنكران وأمل في غد أفضل وتقول كلماتها " قالوا الغزال في طريق الليل ماضي.. باع الدلال وبالرخص صار راضي.. راح الغرام من يوم حكم القاضي.. قاسية الأيام وهي زادت أمراضي يا حسرة يا زمان القلب كان صافي.. تبدل الحال والجيب صار فاضي.. انا فجر حياتي يبان وانت آخر احزاني".

نفوس جُبلت على حبّ تونس

لا يكمن جمال الموسيقى فقط في السحر المنبعث من الأنغام بل في ذلك الإحساس الذي يحرّرك من سطوة الواقع ويطلق العنان لخيالك، إحساس لا يمكن سلب السجناء منه، إحساس ترجموه إلى صرخة حرّية لا تعترف بالقضبان.

أنامل وأصوات السجناء خطّت مدى من الحرّية لا يفقه عمقه إلا بسماتهم ونظرات أعينهم وهم يلوّحون بين الفينة والاخرى لأهاليهم الذين واكبوا العرض، عرض يحملك إلى عالم آخر تحوّل فيه مسرج الجهات بمدينة الثقافة إلى برزخ بين السجن وخارجه.

لا يكمن جمال الموسيقى فقط في السحر المنبعث من الأنغام بل في ذلك الإحساس الذي يحرّرك من سطوة الواقع

لا أحد يمكن أن يخبر ما يعتمل بنفوس السجناء وأهاليهم من أحاسيس، ولا أحد يملك القدرة على كبح انفعالاته وهو يرقب سجينًا يغالب دمعه ونظراته مشرئبة إلى ذويه، هي لحظات بحجم عمر من الأمل التقوا فيها بعائلاتهم خارج أسوار السجن، عزف بعضهم وغنّى ثلاثة اخرون فيما شاركهم بقية السجناء الغناء.

"يا تونس الخضراء جئتك عاشقًا"، ردّدها أحد نزلاء سجن برج الرومي وهو موشّح بعلم تونس، لا تعرف هويّته ولن تراودك الرغبة في معرفتها، ربّما قد تتساءل عن السبب الذي رمى به خلف القضبان، ولكنّك في لحظة تطرد عنك كل الأسئلة وتتأمّل ذلك الإنسان الفنان، والمواطن الذي يحمل في قلبه حبّ تونس.

بين صور ميناء بنزرت، وقباب المساجد والأضرحة، وسهول تونس وجبالها في الشاشة خلف الركح وأصوات الفنّانين الثلاث، تعانق العلياء متجولة بين أغان تحتفي بتونس بلادًا وإن جارت علينا عزيزة. وبين "جئتك عاشقًا"، و"أم السواعد سمر يا تونس الخضراء" و"مانسيت"، تستشفّ من سكنات السجناء وحركاتهم أنّ نفوسهم جبلت على حبّ الوطن.

"يا لائمة على الزين"، و"حبي يتبدّل يتجدّد" و"أوّل نظرة درباني" و"صيد الريم"، أغان وفّق أعضاء الفرقة الموسيقية ببرج الرومي في اختيارها، أغان مزجت بين اللوم والبوح وما بينهما من فرح مخفي.

وبأغاني "خالقي مولاي"، و"مظلومة " و"أرضي علينا يا لميمة" في توزيع موسيقي جديد، عرّج السجناء على شجن الحرّية المسلوبة، وبرودة حيطان السجن، ونيران الضيم التي لا تنطفئ، قبل أن يردّدوا النشيد الوطني على إيقاع البيانو في خشوع تقشعر له الأبدان.

كالضحكات المنهمرة من قلوب الاطفال ودموعهم التي لا تستأذن، بدا ركح مسرح الجهات بمدينة الثقافة واسعًا ممتدًا، وصارت أمتار الحرّية التي تولّدت عن العرض حرّية لا تعرف حدا، حرّية تشظت فيها المآسي والأوجاع وتماهت مع الأمال والأماني حتى اختلطت دموع الانبهار ببسمات التأثر.

حينما تكون الإنسانية البوصلة

"الموسيقى قد تكون يومًا اللغة العالمية للجنس البشري" مقولة لأفلاطون لم يكن يعلم أنها ستخرج من باب الافتراض إلى التأكيد في العرض الذي قدمته الفرقة الموسيقية ببرج الرومي في إطار الندوة الدولية السنوية الثالثة للهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب.

وتصب الندوة التي تحمل عنوان "الاليّات الوقائيّة الوطنيّة في مواجهة الاكتظاظ داخل الأماكن السّالبة للحرّية -المقاربات والاستراتيجيّات"، في باب الاهتمام بإنسانية الإنسان بغض النظر عن الجريمة التي ارتكبها والتي سلبت حرّيته، فأن تكون سجينًا لا يعني أن تتعرض لممارسات لا إنسانية.

 أن تكون سجينًا لا يعني أن تتعرض لممارسات لا إنسانية

وتسعى الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب إلى بلورة استراتيجيات ومقاربة لمواجهة الاكتظاظ داخل السجون عبر آليات وقائية وذلك عبر الاستفادة من الخبرات الدولية في هذا المجال.

وبالتوازي مع أنشطة الندوة الدولية، نظّمت الهيئة معرضًا عرضت فيه رسوم المساجين لتقدّم وجهًا آخر للسجن ونزلائه، وجه تغلّب فيه الجانب الابداعي على الواقع وسطوته، وحفلًا موسيقًيا اختتمت به الندوة وعانق فيه فنّانو برج الرومي حرّية تلألأ بريقها في أعين ذويهم ودوّى صوتها في صدى تصفيقهم.

وبعيدًا عن هويّة المساجين، وعن القضايا التي أدّت بهم خلف القضبان، حينما تكون الإنسانية بوصلة تخترق عذاباتهم كل الحواجز وتنتقل إلينا، ويشعّ بريق فرحهم في أعيننا، وتتحول تجربتهم الذاتية إلى تجربة موضوعية نتماهى فيها حتّى تتداخل مشاعرنا.

أثناء العرض (الإدارة العامة للسجون والاصلاح)

اقرأ/ي أيضًا:

"سوبيتاكس".. فيلم هامش الإدمان والبذاءة في مواجهة مركز أشدّ بذاءة

أيّام عقارب السينمائيّة: إذا عقارب يومًا أرادت السينما فلا بد أن يستجيب القدر