05-يوليو-2021

رسام كاركاتير لـ"الترا تونس": كلمة أوتاكو التي نطلقها على متابعي الأنمي لها مدلول سلبي (Getty)

 

لا شكّ أنّ أبناء جيل الثمانينات والتسعينات قد تأثروا أيما تأثر بمسلسلات كرتونية، عشقوها فحفظوا شارات بداياتها وغنوها سرًا وعلانية، ما دفع الكثيرين لحضور حفل  الفنان طارق العربي طرقان بمدينة الثقافة ذات أحد، ضمن تظاهرة أيام قرطاج الموسيقية لعام 2018، ليهتف طرقان في ذاك الجمهور الصارخ والراقص على شاراته المفضّلة: "يبدو أنكم تحفظون الأغاني أكثر منّا".

ولئن غمرتنا السعادة في أيام طفولتنا ونحن نتابع أبطال مسلسلاتنا بشغف منقطع النظير، فإننا لم نكن نتوقع بتاتًا أنّ هذا الشغف سيتواصل إلى مراهقتنا، وشبابنا.. بل وكهولتنا. لم نكن نعلم شيئًا عن الصناعة الكاملة التي تقف وراء هذه الصور المتحركة، التي عرفنا فيما بعد أنها تدعى "أنمي".

الأنمي هي كلمة تفيد الصور المتحركة اليابانية على وجه الخصوص، وهي اختصار لكلمة أنيميشين الإنجليزية (Animation).. عرفت تونس جمعيات تعنى بالثقافة اليابانية عمومًا والأنمي خصوصًا

والأنمي هي كلمة تفيد الصور المتحركة اليابانية على وجه الخصوص، وهي اختصار لكلمة أنيميشين الإنجليزية (Animation)، وقد عرف العالم هذا التصاعد الصاروخي لشهرتها، ولم تكن تونس بمعزل عن هذا، فعرفت البلاد جمعيات تعنى بالثقافة اليابانية ككلّ، وتنظّم ملتقيات وتظاهرات تجمع المهتمّين، فضلًا عن عديد الصفحات والمجموعات الفيسبوكية، وككلّ ظاهرة، كان لزامًا أن تختلف بخصوصها الآراء، وهو ما حاول "الترا تونس" رصده.

تقول مؤسسة الجمعية التونسية للفعاليات الثقافية اليابانية، (JET - Japanese Events in Tunisia) ناردين الزواوي في حديثها لـ"الترا تونس" إن القصة بدأت حين نشرت على "فيسبوك" دعوة إلى الحضور في تظاهرة تضمّ محبّي الثقافة اليابانية، "فوجئتُ بأن الأمر أخذ صدى أكثر مما كنت أتوقعه، واكتشفت حينها أن هناك شريحة كبرى موجودة من محبّي الأنمي والثقافة اليابانية عمومًا لكنها كانت شريحة متشظية لم تكن تعرف بعضها" وفق وصفها.

مؤسسة الجمعية التونسية للفعاليات الثقافية اليابانية ناردين الزواوي لـ"الترا تونس": لم يكن سهلًا على اليابان أن انفتحت على العالم وهي التي عرفت بثقافة منغلقة على نفسها، لكنها دخلت في سوق العولمة

وتابعت الزواوي: "قبل أن أعرف أنه يدعى أنمي، كنت أشاهده على أنه صور متحركة عادية أو كرتون، أو ما يطلق عليه "الكوميكس"، لأكتشف فيما بعد الفرق حين انجذبتُ أكثر للأنمي الياباني بشخصياته وألوانه وقصصه التي تربّينا عليها كلّنا من الكابتن ماجد إلى ساسوكي وغيرهم.. أجد نفسي كثيرًا لدى مشاهدتي الأنمي، إذ لديه قدرة فريدة على اللعب على المشاعر والأحاسيس".

لكنه سوق في نهاية المطاف، يخضع إلى قاعدة العرض والطلب في العالم، نجحت اليابان في إحكام سيطرتها عليه بلا منافسة جادّة تقريبًا، ما جعلها قادرة على بثّ ما شاءت من الرسائل عبر هذه الأنميات، تتفاعل الزواوي مع هذه النقطة بقولها: "أمر بديهي حين نتحدث في عصر العولمة عن تواصل بين الثقافات.. وهذا التواصل يحوي جانبًا ثقافيًا بلا شكّ، ويجب التشديد على أنه لم يكن سهلًا على اليابان أن انفتحت على العالم وهي التي عرفت بثقافة منغلقة على نفسها، لكنها دخلت في سوق العولمة، وبدأت تقطف ثمار ذلك بالتأكيد".

اقرأ/ي أيضًا: غوص في عالم "كوسبلاي" تونسية: ثقافة اليابان تنتشر

وتساءلت الزواوي عن اللغة اليابانية: "من كان يتحدثها في العالم غير اليابان؟ اليوم نشهد إقبالًا كبيرًا على تعلم هذه اللغة حتى في تونس، الأمر يبدو أقرب للنينجا والساموراي الذين كانوا قديمًا يوفدونهم لتعلم اللغات الأخرى ثم يعودون بما تعلموه إلى اليابان، وما حدث اليوم هو العكس، حيث قرّرت اليابان أن تشارك الشيء الكثير من ثقافتها عبر الإنمي".

وتحدّثت مؤسسة الجمعية التونسية للفعاليات الثقافية اليابانية، أن "اليوم لدينا مانجاكا (رسامو الأنمي) تونسيون، لكن السوق صغيرة ولهذا يجب أن نوحّد السوق المغاربية وهو ما يحتاج جهدًا كبيرًا، خاصة وأن الجمعيات الناشطة في مجال الثقافة اليابانية لم تعد فاعلة مثل السابق، وسط رفض دور النشر إصدارات المانغا (الرسوم التي تتحوّل إلى أنمي فيما بعد) هذا الصنف". كما لم تنكر الزواوي أن الجودة تتدنى مع بعض الاستثناءات، وقالت: "المنطق التجاري أصبح غالبًا، واشتقت إلى الأنميات القوية القديمة" وفق وصفها.

رئيس الجمعية التونسية للفعاليات الثقافية اليابانية زياد الشابي لـ"الترا تونس": الأنمي قد يبدو للبعض وسيلة للمتعة، لكنه يمثّل نوعًا من الإلهام بالنسبة إليّ.. تأثرت بأخلاقهم ونمط عيشهم، وأقول مرحبًا بأي ثقافة تؤثر فينا بهذا الشكل الإيجابي

وبخصوص التحول من مجرّد متابعين شغوفين للأنمي إلى جمعية تُعنى بكل ما يتعلق بالثقافة اليابانية، حاور "الترا تونس" الرئيس الحالي للجمعية التونسية للفعاليات الثقافية اليابانية زياد الشابي الذي أكد بدوره عدم توقعه النجاح الباهر للتظاهرة الفيسبوكية التي جدّت في جويلية/ يوليو 2010، وقال: "كانت أول تظاهرة للثقافة اليابانية عامة في تونس، وحضر حوالي 500 شخصًا، ومن فرط حماسنا يومها قلنا يجب الذهاب إلى التنظّم بشكل رسمي حتى يسهل قيامنا بالأنشطة المطلوبة".

وتابع الشابي: "تعاملنا مع السفارة اليابانية في وقت لاحق حين أثبتنا جدّيتنا ومجهودنا خاصة في ظل غياب مركز ثقافي ياباني في تونس، فكنا واجهة الثقافة اليابانية في تونس، ولم نكن نتحدث عن الأنمي فقط، بل ألعاب الفيديو والتكنولوجيا وطريقة العيش وغيرها..".

وبخصوص دافعه الأكبر لهذا الهوس بالثقافة اليابانية عامة، أجاب الشابي أنها قد تبدو للبعض وسيلة لتزجية الوقت والمتعة، "لكنه يمثّل نوعًا من الإلهام بالنسبة إليّ.. تأثرت بأخلاقهم ونمط عيشهم، وعديد الصفات الإيجابية الأخرى ومن أولها تقديسهم للعمل، وأقول مرحبًا بأي ثقافة تؤثر فينا بهذا الشكل الإيجابي" وفق تعبيره.

وعن سرّ هذا الاكتساح العالمي للأنمي قال الشابي في تصريحه لـ"الترا تونس": "الشعب الياباني ليس من ذلك الصنف من الشعوب الذي يظهر سيئاته، فهو حريص جدًا على تصدير صورة لامعة وإخفاء عيوبه، وهو قد استثمر في الأمر الذي لقي رواجًا في العالم، لا غير، وربما لم يكن ليواصل في هذا الاستثمار لو لاحظ عدم الاكتراث بمنتجه، لكنه يواصل مادام يغمرنا الشغف نفسه كلما بدأنا الفرجة" وفق وصفه.

اقرأ/ي أيضًا: أشهر 10 مسلسلات كرتونية أثرت في جيل الثمانينيات في تونس

على أنّ هذه الصورة الوردية التي يصدّرها الأنمي قد تكون قطعة الثلج البارزة التي تخفي جبل الجليد أسفلها، يقول رسام الكاريكاتير والمهتم بالثقافة اليابانية أحمد الشعانبي: "جاحد هو من ينكر هذا النجاح الباهر لصناعة الأنمي حول العالم، وثقافة الأنمي نفسها انطلقت مع اليابان لكنها لم تعد حكرًا على اليابانيين فحسب، بل أصبحت مطلبًا من كلّ العالم خاصة مع ظهور منصات عالمية جديدة مثل نتفليكس.. ولا بأس من التذكير بأن بعض الأنميات تصدّرت 'التريند" العالمي لفترة، مثل أنمي هجوم العمالقة على سبيل الذكر لا الحصر، لكن مع كل هذا، هناك جانب مظلم يغفل عنه الكثيرون أو يتغافلون عنه" وفق تعبيره.

وأبرز الشعانبي في تصريحه لـ"الترا تونس" أنّ محرّكي الصور مثلًا، الذين يحوّلون رسوم المانغا إلى أنمي، ظروفهم قاسية، وبيّن تقرير للتلفزة اليابانية أنهم يشتغلون بمعدّل 400 ساعة في الشهر، وهناك من وصل إلى 600 ساعة، فضلًا عن أمثلة تظهر عمل بعضهم لـ 37 يومًا بلا أي يوم للراحة، وإذا ما أضفنا لذلك ضعف الأجور والتي تصل إلى أقل من 2 دولارات في الصورة الواحدة، نجد أن هناك من يصل إلى الوفاة أو الانتحار" وفق قوله.

رسام الكاريكاتير والمهتم بالثقافة اليابانية أحمد الشعانبي لـ"الترا تونس":  تنتج اليابان 200 أنمي في السنة تقريبًا، لكن تصنيفاتها غريبة وتلبّي منطق "الأوتاكو" وأصبحت تتشابه مؤخرًا لأنها تسير بمنطق (الجمهور عاوز كده)

وأشار الشعانبي إلى أن الشركات المنتجة للأنمي تفضّل التعامل مع "الفريلانسر" لأنّ أجره أقل، "ويغنيها عن تعقيدات إدارية، فتكون الشركات في حل من كل قيد" وفق تعبيره، مضيفًا: "ما يجب أن نعلمه هو أن المشهد الواحد يستغرق أكثر من ساعة، وأغلب الرسوم يدوية ولهذا هي مميّزة وخاصة جدًا، وحتى مع دخول الكمبيوتر اليوم ليسهّل الأمر، فإنّ الكثيرين استهجنوا هذا التدخّل المسمّى بالـCGI (Computer-generated imagery)‏ أو الصور المنشأة بالحاسوب، وبالتالي فإن الرسم اليدوي ثم التحريك، أمر أساسيّ في صناعة الأنمي".

يتحدّث الشعانبي عن عيوب الأنمي فيقول إنها مؤخرًا أصبحت تتشابه، إذ تنتج اليابان 200 أنمي في السنة تقريبًا، لكن تصنيفاتها غريبة وتلبّي منطق "الأوتاكو" وفق قوله. ويتابع: "للأسف نحن نطلق كلمة أوتاكو على كل من يشاهد الأنمي، دون أن نعلم أنها كلمة لها مدلول سلبي في اليابان، وهي الشخص المنعزل اجتماعيًا والمنقطع عن العالم، والذي لا يخالط الناس بسبب الأنمي.. نعم، هؤلاء الأوتاكو هم الفئة المستهدفة التي تدرّ أموالًا على الشركات، وفي سبيل ترضيتهم، هم يلبّون كلّ رغباتهم بمنطق (الجمهور عاوز كده)، فنجد أبطالًا بإيحاءات غريبة يطلبها المشاهدون أنفسهم" حسب تصريحه.

رسام الكاريكاتير والمهتم بالثقافة اليابانية أحمد الشعانبي لـ"الترا تونس": البعض من متابعي الأنمي يعيشون فراغًا ثقافيًا وروحيًا كبيرًا ما جعلهم وعاءً مثاليًا لملئه بالعديد من الأفكار التي ربما حتى تتعارض مع ثقافتنا وهويّتنا أحببنا هذا أم كرهنا

وبيّن الشعانبي أن الأمثلة على التأثير السلبي متعددة للغاية، "إذ يكفي أن نعلم أن هناك من تزوج بشخصية من الأنمي فعليًا، وفي تونس لم نبلغ هذا الحدّ بعد، لكننا للأسف نأخذ القشور السلبية ونترك اللبّ، فالجمهور أصبح سامًا ومتعصبًا لأنمي على حساب آخر فغابت ثقافة النقد. وإن ما يراج من كونها مؤامرة من اليابان لتدمير هويتنا وثقافتنا لا أساس له من الصحة، لأننا أصلًا لسنا سوقًا لليابان، إذ نشاهد كل ما تنتجه بشكل مقرصن، وإن كان تأثرنا يدخل في باب التأثير والتأثر، فالأمر منطقيّ وعاديّ، لكننا نتأثر ولانؤثر للأسف" وفق تصريحه.

ولفت رسام الكاريكاتير إلى أن "البعض من متابعي الأنمي يعيشون فراغًا ثقافيًا وروحيًا كبيرًا ما جعلهم وعاءً مثاليًا لملئه بالعديد من الأفكار التي ربما حتى تتعارض مع ثقافتنا وهويّتنا أحببنا هذا أم كرهنا، وهناك من يغيّر في شكله وطريقة كلامه ليغدو نسخة مشوّهة من الأبطال الذين يشاهدهم"، متسائلًا: "أتساءل لمَ لا ننتج نحن؟ السعودية مثلًا بدأت في شراكات في هذا الإطار، عبر فيلم الرحلة الذي يوفّر متعة الأنمي والإثارة المطلوبة والحماس، مع احترام ثقافتنا ومراعاتها" وفق وصفه.

وبين منبهر بهذه الثقافة وناقد لها، تواصل اليابان تصدير الأنمي لكل العالم، خاصة وأنه يعود عليها بمبالغ مباشرة ضخمة، عدا العائدات غير المباشرة، والتي تتمثّل في نشر ثقافتها ولغتها وترويج سياحتها، ولن يكون غريبًا بعد كل هذا أن نعرف أن مدينة بأسرها تدعى أكيباهارا في العاصمة اليابانية طوكيو، تسمى مدينة الأنمي، هي مقصد لعشاق التكنولوجيا والألعاب الإلكترونية حول العالم.

معلقة حائطية من مدينة أكيباهارا اليابانية (Getty)

 

اقرأ/ي أيضًا:

"أنا حلومة".. مسلسل كرتون تونسي بلمسة شابة

من الكابتن ماجد إلى "الأيباد": كيف أصبح الطفل وحيدًا؟