ما وراء شبه المشاورات حول تشكيل الحكومة حقيقة تكاد تكون ثابتة: تخشى بعض الأحزاب التونسيّة الحكم في إطار ائتلافيّ ويخشى البعض الآخر على غرار حركة النّهضة الانفراد به. ومن زاوية المعارضة، فإنّ الحكومة رئاسة ووزراء هي محنة أو فخّ صعب التّجاوز في المرحلة القادمة، وقد يجاهر البعض بدعوة غرمائه لتحمّل مسؤوليّة الحكم كاملًا غير منقوص ملوّحًا إلى فشله المحتوم نظرًا لكون تحدّيات المرحلة القادمة لا تحتمل إلاّ الحلول الصّعبة: إمّا الاستكانة واستدامة اختلال التوازنات المالية والاقتصادية الاجتماعية أو مباشرة الإصلاح بكلفة اجتماعية وسياسيّة لا تصمد أمامها أيّة شعبيّة.
تشكيل الحكومة القادمة ليست فرصة مُحتملة أو عرضًا مغريًا وإنّما محنة لا تُقبل إلاّ بشروط واضحة وعسيرة
اقرأ/ي أيضًا: هل نسير إلى حكومة مهام وطنيّة؟
في بعض الحسابات السياسيّة المكتومة، ثمّة رغبة لدى أكثر من طرف في تشكيل حكومة تجمع الغرماء السّياسيّين وتقوم بما لا بدّ منه من إجراءات غير شعبيّة ضروريّة يخلو بعدها الجوّ الانتخابيّ لمعارضة تبني شعبيّتها الكاسحة المأمولة بمفعول سنوات من المعارضة لحكومة ستكون فشلًا محتومًا. وعلى هذا الأساس، فإنّ تشكيل الحكومة القادمة ليست فرصة مُحتملة أو عرضًا مغريًا وإنّما محنة لا تُقبل إلاّ بشروط واضحة وعسيرة. وإذا كان ثمّة من حافز لتحمّل مسؤوليّة الحكم في المرحلة القادمة فهو تفادي صورة الرّافض على الدّوام وما قد يُفضي له من مصير الجبهة الشعبيّة أي الاختفاء وإعطاء انطباع يُفيد بعدم الجدّية. وسواء كان الخيار هو المشاركة في الحكم أو المعارضة فإنّ الحسابات داخل كلّ الأحزاب تخضع إلى جملة من الاعتبارات يتقاطع فيها السياسيّ العامّ بالحزبيّ والشخصيّ.
تجد حركة النّهضة في موقع المهندس الأوّل لصيغة الحكم المقبلة باعتبار موقعها الأوّل في نتائج الانتخابات التّشريعيّة. ورغم نسبيّة ما اعتُبر انتصارًا انتخابيًا لحركة النّهضة فإنّ ديناميكيّات النّقاش السياسيّ تتمحور حول مواقف الحركة ومُختلف التيّارات داخلها وإلى حدّ مّا رهاناتها الدّاخليّة.
فتشكيل الحكومة وموقع النّهضة وغيرها من الأحزاب فيها أو في المعارضة ليس محض همّ وطنيّ أو مآلات سياسيّة كبرى، ولكنّها أيضًا شؤون حزبيّة داخليّة وطموحات شخصيّة. ففي حركة النّهضة يعني وجود رئيسها في منصب رسميّ من المستوى الأوّل على غرار رئاسة البرلمان بداية الإعداد لخلافة سلسة في رئاسة الحركة.
تشكيل الحكومة وموقع النّهضة وغيرها من الأحزاب فيها أو في المعارضة ليس محض همّ وطنيّ أو مآلات سياسيّة كبرى، ولكنّها أيضًا شؤون حزبيّة داخليّة وطموحات شخصيّة
فالنّقاش حول الحكومة داخل حركة النّهضة هو أيضًا نقاش حول اقتسام السلطة داخل الحزب على إثر المؤتمر القادم وتهيئة موقع مُحترم لرئيس الحركة يسمح بالتّداول داخل الحركة دون تقاعد الأستاذ راشد الغنّوشي عن الدّور السياسيّ. ففي حال أصبح راشد الغنّوشي رئيسًا للبرلمان، وهو ما تأكد اليوم، فإنّه لن يحتاج لموقع رئيس الحركة ليواصل لعب دوره السياسيّ أو التْنظيميّ الحزبيّ وستكون خلافته أكثر سلاسة وأبعد ما تكون عن القطيعة الحادّة بين مرحلة راشد الغنّوشي وما بعدها على إثر المؤتمر المؤتمر المُرتقب سنة 2020.
وبالإضافة إلى الاعتبارات الحزبيّة، فإنّه لا تجدر الاستهانة بما هو شخصيّ وما يتعلّق بطموحات الدّور التاريخيّ. فرئيس حركة النّهضة الحاليّ وهو أستاذ زيتونيّ التكوين قضًى عمره في تأسيس حركة عبرت السجون والمنافي لم يتحمّل قطّ مسؤوليّة في الدّولة. ورغم أنّ الدّاخل والخارج يعتبر الرّجل رقمًا صعبًا ومحدّدًا في جلّ المعادلات التونسيّة فإنّه لا يحظى ولم يحظ قطّ بأيّ موقع رسميّ. وإذا كان القياديّ في الحركة العجمي الوريمّي قد صرّح بأنّ النّهضة متردّدة في ترشيح رئيسها لكونه أكبر من رئاسة الحكومة، فإنّه ثمّة قراءة أخرى ممكنة مفادها أنّ رئيس الحركة قد وصل إلى مرحلة يحتاج فيها لتحمّل مسؤوليات الدّولة مباشرة كأيّ زعيم سياسيّ في ديمقراطيّة عاديّة وهو ما قد يقتضيه أيضًا التمييز بين الشيخ والسياسيّ.
على أنّ هذه الحسابات الحزبيّة والشخصيّة في تشكّل صيغ الحكم لا تقتصر على حركة النّهضة دون غيرها. ففي حزب التيّار الديمقراطيّ على سبيل المثال، ورغم القرار الواضح للمجلس الوطني والذي يشترط حقائب الدّاخليّة والعدل والإصلاح الإداري وتعيين رئيس حكومة من خارج النّهضة فإنّه من المتوقّع والمعلوم أن يكون داخل التيّار من يضع هذه الشّروط للتّعجيز في حين ثمّة من يضعها كسقف أعلى قصد التوصّل إلى أحسن اتّفاق ممكن في حال الدّخول للحكومة. وإذا ما أمعنّا النّظر، فإنّ التركيبة الحالية للتيار الديمقراطيّة تضمّ مجموعتين: مجموعة أولى تنحدر من تجربة حزب المؤتمر من أجل الجمهورية كانت قد اكتوت من قبل بتجربة التّحالف مع النّهضة، وأوّل هذه المجموعة هو محمّد عبّو الذي استقال بصفته وزيرًا للإصلاح الإداريّ من حكومة التّرويكا الأولى.
يبدو للبعض أنّ حكمًا رماديّ اللون وراء شخصيّة مستقلّة أو معارضة تطمئنّ للاحتجاج ستيسّر الطّريق لخسائر أقلّ أو لربح أكبر ولكنّ الشّعب التونسيّ قد أثبت في أكثر من محطّة أنّ مفاجآته تتجاوز كلّ الحسابات
أمّا المجموعة الثانية فهي سليلة تجربة الحزب الجمهوري ثمّ التحالف الديمقراطي وزعيمه محمّد الحامدي وهي مجموعة لم تخض قطّ تجربة السّلطة وعرفت البرلمان في عُهدتين في موقع المعارضة، وهي تتقاطع من هذه الزاوية مع تجربة الأمين العامّ غازي الشواشي. وسواء كان الحزب في الحكم أو المعارضة/ فإنّ ذلك سيكون محدّدا لوضعه الداخليّ وبنائه المستقبليّ. إذ لا يزال تفكّك من تحالفوا مع النّهضة شاخصًا في الأذهان وهو ما قد يعني ضرورة تفرّغ قيادة الحزب لاستكمال البناء التّنظيميّ وافتكاك موقع المعارض الأوّل في حال عدم المشاركة في الحكم.
قد تتعدّد حسابات الحكم والمعارضة وتتفرّع وقد لا يكون لهواجس التونسيّين الموقع الأوّل فيها، وقد يبدو للبعض أنّ حكمًا رماديّ اللون وراء شخصيّة مستقلّة أو معارضة تطمئنّ للاحتجاج المتواصل ستيسّر الطّريق لخسائر أقلّ أو لربح أكبر ولكنّ الشّعب التونسيّ قد أثبت في أكثر من محطّة أنّ مفاجآته تتجاوز كلّ الحسابات.
اقرأ/ي أيضًا: