11-نوفمبر-2019

حيل عديدة يلجأ إليها الفاسدون للإفلات من العقاب (ناصر طلال/وكالة الأناضول)

 

بلغ الفساد في تونس ذروته قبل الثورة وبعدها حتّى تحوّل إلى منظومة شديدة الانتشار والتعقيد والتجذّر، فأصبح حديث المواطنين والمحلّلين، وبات موضوع دعاية ومزايدة وتشكيك على ألسنة السياسيين.

وقد اتّفق الجميع على اعتبار الفساد واحدًا من أوكد أسباب الإفلاس والفوضى والتخلّف في سائر القطاعات والمجالات، فأفضى هذا الإجماع إلى خطوات تشريعيّة ومدنيّة وإجرائيّة عديدة للحدّ من هذه الظاهرة، غير أنّ الإفلات من العقاب ظلّ انطباعًا مترّسبًا في النفوس والأذهان.

بلغ الفساد في تونس ذروته قبل الثورة وبعدها حتّى تحوّل إلى منظومة شديدة الانتشار والتعقيد والتجذّر  فأصبح حديث المواطنين والمحلّلين

هذا الانطباع يرقى إلى مرتبة الحكم اليقينيّ بالعودة إلى أرقام السرقات والاختلاسات ومسار الإيقافات والمحاكمات، وهو ما يحثّ على تبيان الحيل التي يستفيد منها الفاسدون في النجاة من السجن ومصادرة الأموال وغيرها من العقوبات التي تليق بمن تورّط في الإثراء غير المشروع ونهب المال العام.

اقرأ/ي أيضًا: حينما تصبح الديوانة التونسية ممرًا آمنًا للتهريب!

نظاميّون ومغامرون وذئاب منفردة

يعتقد الكثيرون أنّ الخوف في عهد بن علي مثّل حافزًا مساهمًا في الحدّ من انتشار الفساد وجعله حبيس أطراف وهيئات ومنظمات مضبوطة احتكرت النفوذ والسلطة والسرقة والنصب والغصب معًا، ومارست كلّ ضروب الشرّ والقبح والباطل.

هذا الرأي لا يخلو من وجاهة، فالمتجرئون على الفساد قبل الثورة كانوا يحظون بحماية شبكة إجراميّة متناغمة منسجمة مترامية يصل بينها رأس النظام، فهي مركزيّة الأصل رغم تفرّعها عنكبوتيّة الشكل وإن تنوّعت، وهو ما أكّده عبد الفتّاح عمر رئيس اللجنة الوطنيّة لتقصّي الحقائق حول الرشوة والفساد ( من2011 إلى 2012) قائلًا في مقدّمة تقريره حول هذه المحنة الوطنيّة "لقد تكوّنت منظومة الفساد بصورة تدرجيّة، وتدعّمت شيئًا فشيئًا، فأحكمت قبضتها على الدولة والمجتمع، وتجسّدت عناصرها خاصّة داخل عدد من المؤسّسات السياسيّة والإداريّة والقضائيّة للدولة، وكذلك في عدد من الجماعات والمؤسّسات والمنشآت العموميّة".

لئن راهن الفاسدون قبل الثورة على التحصّن بالنظام أو الفرار فقد راهن الفاسدون بعد الثورة على حيل تبدو الأخطر منها الحيل التشريعيّة

هذه الفئة الطاغية من الفاسدين في نظام السابع من نوفمبر، نافستها أطراف استثنائيّة موازية من قبيل المغامرين أو المخطّطين للإفلات من العقاب دون المراهنة على الانخراط الكلّي في النظام. وهي فئة يمكن نعتها بالذئاب المنفردة للفساد، يتّصف عناصرها بالاندفاع ويعوّلون على التخفّي والاستعداد الدائم للفرار وقد يعوّلون على  الرشوة أو تبادل المصالح مع شخصيّات ذات نفوذ أسريّ قويّ، وهو ما كشفت عنه شهادة عماد الطرابلسي صهر الرئيس الأسبق الذي سهّل للكثير من صغار الفاسدين وكبارهم طرائق التهريب وسبل التهرّب الجبائيّ، وقد أدلى بهذه الشهادة في جلسة استماع علنيّة لدى هيئة الحقيقة والكرامة سنة 2017.

ولئن راهن الفاسدون قبل الثورة على التحصّن بالنظام أو الفرار أو المغامرة فقد راهن الفاسدون بعد الثورة على حيل تبدو أخطر وأغرب منها الحيل التشريعيّة.

قانون المصالحة و قيس سعيّد وجنازة العدالة

"التشغيل استحقاق يا عصابة السّراق" هذا الشعار الذي رفعه المنتفضون في ديسمبر/كانون الأوّل سنة 2010 ينطوي على دعوة ملحّة إلى محاسبة الفاسدين الذي تسبّبوا في تفقير التونسيين وحرمان الشباب من الحريّة والشغل والكرامة.

 لم يشكّ أحد في الأيّام الأولى لثورة الحريّة والكرامة في المصير العادل الذي ينتظر الناهبين والمختلسين وظنّ الجميع أنّ العقاب سيطال كلّ من بسط لهؤلاء اللصوص سُجّاد الإفلات الإداريّ والأمنيّ والتشريعيّ والقضائيّ لبلوغ مآربهم.

علّق رئيس الجمهورية قيس سعيّد قبيل المصادقة على قانون المصالحة عام 2017: "إنّ تمّ تمرير قانون المصالحة، فستكون جنازة العدالة في تونس"

أمام هذا القصاص الذي بدا حصوله مؤكّدًا محتومًا لم يكن بدّ أمام المجرمين غير الفرار أو التخفّي وإن لزم الأمر المرور بطور "السفساري" حتّى يأتي اليوم الموعود، يوم إخراج الفاسدين من عنق المحاسبة "خروج الشعرة من العجين"، فلا هرب ولا مطاردة ولا محاصرة.

ففي فترة التوافق لا شي يعلو فوق لغة الإيهام والابتزاز والمناورة، فقد خضع المجلس النيابيّ المنتخب سنة 2014 إلى إملاءات وضغوطات وتهديدات دفعته إلى المصادقة على قانون المصالحة الإداريّة في سبتمبر/أيلول 2017، ، وقد علّق قيس سعيّد أستاذ القانون الدستوريّ في تلك الفترة ورئيس الجمهوريّة الحالي على ذاك القانون قائلًا: "إنّ تمّ تمرير قانون المصالحة، فستكون جنازة العدالة في تونس".

 

رئيس الجمهورية قيس سعيّد يتحدث عن قانون المصالحة عام 2017 بصفته خبيرًا في القانون الدستوري

 

أبواب العدالة ونوافذ البرلمان

لا شكّ أن من يتحمّل الوزر الظاهر العلني لهذه النكسة التشريعيّة مائة وسبعة عشر نائبًا جلّهم من حزب النداء وحركة النهضة فضلًا عن رئاسة الجمهوريّة ممّثلة في الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي صاحب مبادرة المصالحة والأشدّ حماسًا على تمريرها وتفعيلها منذ ألقاها إلى البرلمان سنة 2015.

بهذا القانون نجا بشكل نهائيّ لا رجعة فيه طيف واسع غير محدّد العدد من الإداريين بعد أن عاثوا فسادًا في المال العام، فكانت المصالحة الإداريّة إحدى أيسر المعابر لإفلات الفاسدين من العقاب، وقد عَدّها بعض نوّاب المعارضة في برلمان 2014 واحدة من أكبر نكسات ثورة 2011.

عحزت عن التصدّي لهذه الحيل التشريعيّة العديد من الأحزاب والشخصيات المستقلّة والمنظمات الشبابيّة، ولم تفلح في التّصديّ لانحراف المسار العداليّ التحركات الاحتجاجيّة التي رفعت شعارات صارمة منها"مانيش مسامح" و"ما يتعدّاش" ( لن يمرّ)، وصاح النواب المعارضون لهذا القانون وشاكسوا وعاندوا، ومارسوا كل ألوان الرفض والامتعاض حدّ الاتهام والسباب والغلظة ، فلم تثمر مساعيهم غير بعض التدخلات المتشنجة والعناوين الصادمة التي ظلّت عالقة في الأذهان منها اعتبار النائبة سامية عبو ما حصل "عمليّة غدر للشعب وفعلًا مدنِّسًا لقبّة البرلمان خدمة للمافيات واللوبيات".

 

تصريح القيادية في التيار الديمقراطي سامية عبو بعد المصادقة على قانون المصالحة

 

خُبث الفاسدين وعبقريّة غرفة العمليّات المضادّة للإصلاح والطهارة الثوريّة لم تبدأ من هنا، ولن تتوقّف عند هذا الحدّ، فطرائق الإفلات من العقاب متنوّعة متطوّرة متأقلمة مع المتغيّرات، إذ يدخل المجرمون من أبواب العدالة، فيتمّ تسريبهم من فروج الفوضى والمؤامرات والخيانات والتنازلات و" نوافذ البرلمان".

الحصانة والبرلمان ومسكن ريّا وسكينة

من المفارقات المثيرة التي اقترنت بجرائم ريّا وسكينة بمصر في النصف الأوّل من القرن العشرين التفطّن إلى أنّهما كانتا تقطنان في مسكن متاخم لمركز الشرطة، هذا المعطى تحوّل إلى ما يشبه المثل الذي يمكن اعتماده في أغرب ألوان التخفّي من الملاحقة والمطاردة.

الناظر في سيرة بعض الفاسدين ممّن أنصفهم الصندوق الانتخابيّ واجد أنّ تجربتهم شبيهة بتجربة سفّاحتي مصر، فلئن اختارت ريّا وسكينة التخفّي بجانب المخفر وهو مكان أبعد ما يكون عن توقّع المفتّشين فقد فضّل بعض المتّهمين بالتهريب والتهرب الجبائيّ التخفّي داخل قبة البرلمان، ففيه يستطيع بعض المجرمين بلوغ "مجلس الأمان" والإفلات من قبضة السّجان.

ألم يعلن وزير العدل كريم الجموسي في ماي/أيار 2019 أنّ القضاء قد تلقّى خمسة وعشرين مطلبًا لرفع الحصانة عن نوّاب من البرلمان؟ 

 فقد متّع دستور جانفي 2014 في فصله الثامن والستين سائر النواب بالحصانة، كما نصّ الفصل التاسع والستون على أنّه "إذا اعتصم النائب بالحصانة الجزائيّة كتابة، فإنّه لا يمكن تتبّعه أو إيقافه طيلة مدّة نيابته في تهمة جزائيّة ما لم ترفع عنه الحصانة" حتّى في حالة التلبّس فإنّه "يمكن إيقافه، ويتمّ إعلام رئيس المجلس حالًا على أن ينتهي الإيقاف إذا طلب مكتب المجلس ذلك".

اقرأ/ي أيضًا: عضو هيئة مكافحة الفساد محمد العيادي: لا نتحمّل مسؤولية تباطؤ القضاء (حوار)

مقعد بحوالي ألفي صوت أو أكثر قليلًا تضمن لصاحبها حصانة مدّة خمس سنوات يصول خلالها في المجلس ويجول، ويمدّ صوته في الإعلام وعروقه في السلطة وذراعيه في الإدارة، فيخرج من قبّة البرلمان وقد نبتت له صنوف من الوجاهة والحماية والمنزلة الاعتباريّة.

بات البرلمان منذ سنة 2014 مخبأ يلجأ إليه عشرات الهاربين من العدالة، هذا العنوان ما عاد مجرّد انطباع أو كلامٍا محمولًا على المبالغة والمجاز، بل أصبح حقيقة تؤكّدها أرقام دقيقة وشهادات رسميّة وثيقة، ألم يعلن وزير العدل كريم الجموسي في ماي/أيار 2019 أنّ القضاء قد تلقّى خمسة وعشرين مطلبًا لرفع الحصانة عن نوّاب من البرلمان؟ ألا يعدّ وفقًا لهذه المعطيات حوالي عشرين في المائة من النواب مشبوهين متّهمين بارتكاب جرائم؟

في نفس السياق، أكّد العديد من المتقصّين في سيرة بعض النواب الجدد أنّ برلمان انتخابات 2019 يضمّ عددًا من "الكناتريّة والمتهرّبين من الجباية وغيرهم ممّن التصقت بهم شبهات فساد"، وقد أجمع جلّ المتحمّسين لقانون التعديل الانتخابيّ على أنّ هذه الخطوة التشريعيّة التي ولدت في باردو في يونيو/جوان المنقضي وتمّ وأدها في قرطاج كانت كفيلة بالحدّ من استقطاب البرلمان للهاربين من العدالة.

الحريّة والعمليّات الاستباقيّة

يملك عدد من المجرمين والفاسدين عيونًا تنقل لهم بدقّة سير التحقيقات وما ستفضي إليه من إجراءات، فيتيح لهم ذلك الهرب أو التخفّي، وقد يدفعهم عند المحاصرة والتضييق إلى عمليّات استباقيّة، أمّا الإرهابيون فقد دأبوا على العمليّات الانتحاريّة وتشغيل الأحزمة الناسفة، وأمّا بعض الناهبين والمتحيلين فقد اختاروا مسلكًا آخر قائمًا على المناورة من قبيل الإدلاء بتصريحات خطيرة مثيرة ضدّ السلطتين القضائيّة والتنفيذيّة.

يملك عدد من المجرمين والفاسدين عيونًا تنقل لهم بدقّة سير التحقيقات وما ستفضي إليه من إجراءات فيتيح لهم ذلك الهرب أو التخفّي

 وما إن يتمّ إلقاء القبض على هذا المشبوه في ارتكاب جنح أوجنايات حتّى يخرج مناصروه، ويتمّ التذكير بتلك التصريحات والإمعان في إيهام الناس بأنّ الإيقافات تدخل في باب التضييق على الحريّات، ولأنّ التونسيين قد اكتووا في عهد بن علي من الاستبداد وتكميم الأفواه يجد هؤلاء من يصغي إليهم ويعطف عليهم، فترفع شعارات عادلة لخدمة مسارات مشبوهة جائرة.

ولئن بدا هذا المنفذ مفضوحًا مكشوفًا خاصّة إذا لجأ إليه المتشدّدون والفاسدون أيّامٍا قليلة قبل المحاكمة فإنّ اللجوء إلى ساحة محمّد علي رمز النضال النقابيّ قد بدا لعدد من الواهمين منذ الثورة من المسالك الأمتن والأنجع، فليس أفضل من أن يستنجد المُتحيّل بالنقابات المهنيّة متوخّيًا المزايدة النضاليّة والنفاق السياسيّ. وحاول الكثير من الوشاة والمشبوهين التخفّي بين حجافل الاتحاد، بل فيهم من تمكّن من الصعود إلى مراكز قياديّة في بعض النقابات الأساسيّة بشهادة نقابيين متمرّسين أحرار، فهل في ذلك ما يهزّ هيبة الاتّحاد؟

كلّ العائلات والأحزاب والقطاعات والمنظمات معرّضة للاندساس والتوظيف والوصوليّة، ولا شيء يمكن أن يُسيء لأيّ طرف سياسيّ أو نقابيّ أخطر من حماية الفاسدين والدفاع عنهم ، لذلك سارع نور الدين الطبوبي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل إلى إعلان التبرؤ من هؤلاء الضالّين المتسلّقين قائلًا: " إنّ من يخرّب القطاع لا يلزم الاتحاد ولا يحظى من المنظمة بأي حماية".

 

تصريح لأمين عام المنظمة الشغيلة حول عدم حماية النقابيين الفاسدين

 

اتّضح من خلال هذا العرض أنّ مسالك إفلات الفاسدين من العقاب خمسة على الأقلّ أبسطها الفرار والتخفّي وأخطرها المنظومات والتشريعات وخاصّة المغالطات تلك تحوّل الأنذال إلى أبطال، وبناء على ذلك فإنّ التصدّي لهذه الظاهرة المتشعّبة المتطوّرة المتنامية لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يراهن فقط على أساليب تقليديّة وخطابات وعظيّة وإيقافات استعراضيّة. إذ ينبغي توخّي مناهج عصريّة وخططًا استراتيجيّة تأخذ بعين الاعتبار الطابع المافيوزي الخطير للفساد وتتسلّح في كلّ ذلك بعقيدة وطنيّة وأخلاقيّة صادقة أمينة قويّة.  

 

اقرأ/ي أيضًا:

من المسؤول عن تسريب معطيات المبلغين عن الفساد؟

الفساد في الصفقات العمومية.. سرطان ينخر الإدارة في انتظار استئصاله