"آه فلسطين، يا اسم التراب ويا اسم السماء.. ستنتصرين.." هذه النتفة الشعرية المنتقاة من قصيد "كحادثة غامضة" للشاعر محمود درويش، ردّدها بهمّة الرجال وبصوت سامق ومدوٍّ تلميذ تونسي وهو يخطب في جمهرة من زملائه أمام أحد المعاهد الثانوية بالعاصمة تونس في الأيام الأولى من انطلاق المقاومة عزفها لسوناتا "طوفان الأقصى" من أرض غزة يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ذاك العزف البديع الذي أعاد الروح إلى روحها وتوازنها المفقود.
خرج التلميذ التونسي المنتفض من أجل حق الشعب الفلسطيني من المنطقة المعتمة التي كان يقيم فيها طيلة العقود الأخيرة
لقد أعاد هذا التلميذ التونسي توازنات لا مرئية كدنا نفقدها داخل المدرسة التونسية، لقد كان رمزًا مميزًا لأنشطة ومظاهرات تلمذية سمتها العفوية، عمّت كامل البلاد وشرّعت على المعنى وأزاحت كلسًا بذرته الآلة الصهيونية بعناية لا توصف من شدة تعقيداتها وارتباطها الوثيق بأذرع الرأسمالية والمنظمات الدولية و"المانحين" وغيرهم كثر.
لقد خرج التلميذ التونسي المنتفض من أجل حق الشعب الفلسطيني من المنطقة المعتمة التي كان يقيم فيها طيلة العقود الأخيرة، واجترح له صوتًا صدّاحًا يصل الأرض بالسماء فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والقيم الإنسانية الكبرى.
لقد خلنا أن المدرسة التونسية دُجّنت إلى الأبد وخفت ضجيجها ووعيها وتحولت إلى فضاء كئيب للتعلّم المعرفي والتقني بعيدًا عن الروح التربوية التي من أجلها تُبعث المدارس في كل الدنيا، لكن يبدو أنه "تحت الرماد اللهيب"، فمنذ انبلاجة "طوفان الأقصى" توهجت المدارس في تونس وعاد إليها الجدّ وأزهر على أديمها الربيع، وأينعت سنابل الحرية في ساحاتها.
ومع انتشار الوعي بالقضية الفلسطينية بالأوساط التلمذية التونسية، سعى أبناء المعاهد الثانوية إلى ربط المشهديات الثقافية والفرجوية التي استحدثوها بمفردهم في السنوات الأخيرة والتي تعبرّ عن الهويه الجديدة داخل المدرسة على غرار "الكراكاج" و"الدَّخلة" و"الجداريات".. بحدث "طوفان الأقصى" وتحويله إلى مصدر إلهام جمالي للسترات المميزة للشُّعب أو الاختصاصات الموجودة في التعليم الثانوي وهي: الآداب والعلوم التقنية والاقتصاد والتصرف والرياضيات وعلوم الإعلامية والعلوم التجريبية والرياضة.
سعى أبناء المعاهد الثانوية إلى ربط المشهديات الثقافية والفرجوية التي استحدثوها بمفردهم في السنوات الأخيرة بحدث "طوفان الأقصى"، مع انتشار الوعي بالقضية الفلسطينية بالوسط التلمذي
وقد باتت السترات أمرًا حيويًا بالنسبة للتلميذ التونسي في مستوى المعاهد الثانوية حيث لم تعد حكرًا على تلامذة السنوات النهائية كما كانت في البدايات، بل طالت بقية المستويات من الاختصاص نفسه أو الشعبة نفسها، إذ أصبح تلميذ السنة الثانية والثالثة مهتمًا بها ويبحث عن هويته من خلال امتلاكها، وذلك منذ بدايات التوجيه المدرسي مع نهاية السنة الأولى بالمعهد، فنجده ينجذب إلى بني اختصاصه من خلال هذه السترات.. وهي تُلبس عادة مع بداية تظاهرة "الكراكاج" التي تنطلق مع شهر فيفري/ شباط من كل سنة ليتواصل استعمالها طيلة الموسم الدراسي.
هذه السترات لا يقع اقتناؤها من المحلات التجارية ولا تُباع جاهزة، بل هي نتيجة بحث جمالي ونقاشات مطوّلة بين التلاميذ أنفسهم، فيختارون الألوان المميزة لشعبتهم والشعارات المميزة التي ستُكتب عليها والصور واللغة..
النقاش حول "السترات التلمذية" ينطلق منذ بداية السنة الدراسية، والأمر فرصة للتواصل والتعرّف بين أبناء الاختصاص الواحد، إذ تتشكل لجنة للإشراف على إنجاز ما يسميه التلاميذ "البرودوي" (le produit).
- التلاميذ: السّترات هي هُويّتنا داخل المعهد، وفلسطين نجمتنا لهذه السنة..
ولمزيد فهم هذا الأمر، تواصل "الترا تونس" مع بعض التلاميذ التونسيين المساهمين في إعداد سترات السنة الدراسية الحالية، وقد أفادنا التلميذ نزار المكني الذي يدرس بالسنة الرابعة (البكالوريا) ضمن شعبة الاقتصاد والتصرف بمعهد باردو بالعاصمة تونس، أنّ السترات أصبحت جزءًا أساسيًا من الفعل والحضور التلمذي المتعلق بالتظاهرات الاحتفالية التي تُنجز داخل المعهد سواء قبل الامتحانات أو بعدها أو تلك التي تتعلق بامتحان "البكالوريا رياضة" (الباك سبور)، وأضاف محدّثنا أن ارتداء السترات فيه نوع من التباهي والفخر بالاختصاص الذي توجّه إليه التلميذ منذ قدومه إلى المعهد.
نزار المكني (تلميذ بكالوريا) لـ"الترا تونس": ارتداء السترات فيه نوع من التباهي والفخر بالاختصاص الذي توجّه إليه التلميذ منذ قدومه إلى المعهد
أما التلميذة رنيم العياري التي تدرس بالسنة الرابعة ضمن شعبة علوم تقنية بمعهد ابن أبي ضياف من ولاية منوبة، فقد أوضحت لـ"الترا تونس" أن إعداد هذه السترات يأتي تحت شعارات التميّز التي يرفعها التلميذ التونسي وذلك ضمن فضاء نقاش على منصات التواصل الاجتماعي الذي يبعث خصيصًا لتبادل الآراء والأفكار والأذواق وهو عادة ما يكون مفتوحًا لأبناء الاختصاص دون غيرهم، ويتّسم بالديمقراطية وتقبّل الآخر المختلف.. وأيضًا وضع آجال حاسمة لتخيّر كل الأمور التي تتعلق بالسترات قبل دفعها للمصنع من أجل تحويلها إلى حقيقة ملموسة.
وأضافت رنيم العياري أنّ القضية الفلسطينية كانت طاغية على النقاشات الافتراضية والمباشرة التي جمعت التلاميذ التونسيين من مختلف الاختصاصات فيما يتعلق بسترات هذه السنة، وأشارت العياري إلى أنّ فلسطين ستُحمل هذه المرّة على صدور الأجيال الجديدة بما يليق بتاريخها وحقها المسلوب وكشف الظلم الذي تعرضت له طيلة ما يناهز القرن من الزمن أمام كل العالم.
محمد المثلوثي تلميذ السنة الرابعة آداب بمعهد حي الزهور بالعاصمة تونس، أوضح أن شعبة الآداب مطالبة أمام باقي الشعب العلمية بتقديم شعار يليق بفلسطين وتاريخها وحقها المسلوب. وأضاف أنهم وبعد نقاش طويل، اتفقوا على أن يكتبوا على ستراتهم مقطعًا من مدوّنة الشاعر محمود درويش، أما اللون ونوع الخط فلم يقع الاتفاق حولهم بعد.
أما التلميذة علياء الغرياني التي تدرس بمستوى السنة رابعة ضمن شعبة العلوم التجريبية بمعهد خزندار بالعاصمة تونس، فقد قالت إن سترات هذه السنة تفانى في وضع تصوراتها عدة أطراف بما فيهم أساتذة وطلبة كليات الفنون الجميلة والهندسة، وذلك حتى تكون جميلة بما يليق بفلسطين.. وأضافت التلميذة علياء أن جديد هذه السنة بمعهدهم بخصوص السترات والدخلة هو وضع خطة اتصالية تتسم بالحرفية من أجل ترويج عملهم ليكون له الوقع المطلوب على الانترنت وخصوصًا شبكات التواصل الاجتماعي نصرة لفلسطين وغزة الأبية.
رنيم العياري (تلميذ بكالوريا) لـ"الترا تونس": القضية الفلسطينية كانت طاغية على النقاشات الافتراضية والمباشرة للتلاميذ، وفلسطين ستُحمل هذه المرّة على صدور الأجيال الجديدة عبر السترات
التلميذ أمين بوحافة الذي يدرس بشعبة علوم الإعلامية بمعهد منفلوري بتونس هو رئيس لجنة تنفيذ مشروع سترات اختصاصه، أفاد بأنه وبعد أن استقر الأمر على الألوان والشعارات والتي ستحيّي المقاومة الفلسطينية هذه المرة، اتصل بأحد المصانع التي ستنفذ المشروع وتباحث معه حول الأسعار ومواعيد التسليم.
وفيما يتعلق بجمع الأموال الخاصة بالسترات، أوضح بوحافة أن أبناء الاختصاص بالمعهد يعدّون أقلية لذلك كانت المنابات المالية مرتفعة بعض الشيء حيث حُدّدت بـ60 دينارًا تونسيًا، مضيفًا أنّ السترات ستشمل أبناء السنوات الثالثة والثانية.
- علم الاجتماع: "التلميذ التونسي المقيم في العراء الثقافي المدرسي يحيّي فلسطين على طريقته"
اتصل "الترا تونس" بالأستاذ "سفيان الفراحتي" المختص في علم الاجتماع والباحث بالجامعة التونسية بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس من أجل مزيد فهم ظاهرة السترات التلمذية والذي أوضح أن "المجتمع التلمذي" أصبح يقيم في العراء الثقافي داخل المؤسسة التربوية التي لازالت تتعاطى مع الشأن الثقافي والرياضي تعاطيًا متقادمًا ومحافظًا على كلاسيكيته من قبيل النوادي المتسمة بالرتابة والبطء.. الأمر الذي دفع بالتلاميذ أنفسهم إلى استنبات أجنحة ثقافية خاصة بهم والبحث لهم عن أشكال جديدة تتماشى وأهوائهم وأمزجتهم واللحظة التاريخية التي يعيشونها والتي تأتي مصبوغة بإيقاعات الثورة الاتصالية.
وأضاف الأستاذ سفيان الفراحتي أن الامتحان النهائي للتربية البدنية أو "الباكالوريا رياضة" والمعروفة لدى عامة التونسيين بـ"الباك سبور" كانت هي المنطلق لأغلب المشهديات الفرجوية الثقافية الكبرى التي تعيش على وقعها المعاهد طيلة السنة الدراسية مثل الكراكاج والدّخلة.
سفيان الفراحتي (مختص في علم الاجتماع) لـ"الترا تونس": فكرة "السترات التلمذية" حسب الاختصاص، يبدو أنها جاءت لتعوّض "الميدعة" التي بات التلميذ التونسي يتهرّب من ارتدائها
وأكد أن فكرة "السترات التلمذية" حسب الاختصاص، والتي باتت متفشية من شمال البلاد إلى جنوبها، في ارتباط بالتظاهرات المذكورة آنفًا، يبدو أنها جاءت لتعوّض "الميدعة" التي بات التلميذ التونسي يتهرّب من ارتدائها وخصوصًا تلميذات المعاهد. وأشار المختص في علم الاجتماع إلى أنّ وزارة التربية لم تنتبه بعد إلى هذه المسائل لمزيد فهمها وتأطيرها والعمل على تطويرها لصالح تكوين التلميذ، وهي بعد مازالت تعوّل على الأساتذة والإطار التربوي من أجل تأطير العمل الثقافي والاجتماعي داخل مؤسساتها، وشدد على أنّه حان الوقت لدخول المختصين والمؤطرين الحقيقيين للمدرسة التونسية من أجل مساعدتها حتى تنهض بدورها الحضاري باعتبارها مؤسسة مجتمعية أساسية.
وبخصوص فلسطين واستثمارها في موضوع السترات، أوضح المختص في علم الاجتماع أن ذلك يعتبر ظاهرة صحية وعلامة دالة بأن الوعي التلمذي بحقوق الإنسان والحق الفلسطيني على وجه الخصوص لم يخفت كما وقع اعتقاده، بل هو كامن وجاءت أحداث غزة لتوقظه.
مختص في علم الاجتماع لـ"الترا تونس": استثمار فلسطين في موضوع السترات يعتبر ظاهرة صحية وعلامة دالة بأن الوعي التلمذي بالحق الفلسطيني لم يخفت كما وقع اعتقاده
واعتبر الأستاذ سفيان الفراحتي أن استثمار التراث الفلسطيني الرامز للتاريخ مثل الكوفية والخريطة واللباس النسائي والموسيقى والشعر.. وتحويله إلى علامات جمالية وفنية توشّي صدور الشباب، يعدّ تحية صادقة ونابضة من الأجيال التونسية الجديدة إلى فلسطين وإشارة قوية بأن الشعب الفلسطيني لا يقاوم لوحده، بل هناك من يسنده ويرفع من همته ولو معنويًا.
إن ما يحدث داخل المدرسة التونسية من متغيرات لافتة للانتباه بخصوص الأنشطة الثقافية والفنية والرياضية الموازية، ونهوض التلاميذ أنفسهم بالنشاط الثقافي مبتدعين لهم تظاهرات كبرى جامعة وموحدة فيها الغناء والرسم والمسرح والسينما والابداع، يأتي وسط غياب كليّ لرؤى جديدة لوزارة التربية التونسية بهذا الخصوص، ولعلّ فكرة السترات وارتباطها بأنشطة أخرى خير دليل على ذلك.
