16-أكتوبر-2023
الإصلاح التربوي الاستشارة الوطنية لإصلاح التعليم

غابت عن استشارة إصلاح التعليم في تونس الاستراتيجية الواضحة والخاصة بالإنصات للتلميذ (فتحي بلعيد/ أ ف ب)

 

ضمن الديباجة التي تفسر للمواطنين التونسيين مبادئ "الاستشارة الوطنية حول إصلاح نظام التربية والتعليم في تونس" الجارية الآن إلكترونيًا بين عموم الناس وبشكل مباشر بين المربّين والتي بُسطت للشعب تحت شعار "من أجل نظام جديد للتربية والتعليم"، نجد أن الهدف الأسمى المُحدد هو: "التعرّف على آراء التلاميذ والطلبة والمتكونين والمدرّسين والأولياء وكل المهتمّين بالشأن التربوي، قصد تحديد التوجهات العامة المستقبلية التي من شأنها أن ترفع من أداء المنظومة التربوية في التربية والتكوين المهني والتعليم العالي فضلًا عن تكريس مبادئ تكافؤ الفرص والتعلّم مدى الحياة وتأمين استمرارية تنمية الكفاءات وفتح آفاق أوسع لتشغيل الخرّجين".

لم تعرف المنظومة التربوية التونسية منذ تاريخ صدور القانون التوجيهي المدرسي في 2002 وإلى اليوم، إصلاحًا عميقًا يتماشى مع التحولات التي عرفتها البلاد والتغيرات المتعددة التي يعرفها العالم

وبالعودة للمسار التاريخي للتعليم النظامي بتونس الذي انطلق مع دولة الاستقلال، نجد أن نفس الأهداف والأفكار الجوهرية الكبرى هي ذاتها، تُكرّر نفسها منذ إصلاح الأديب الوزير محمود المسعدي سنة 1958 والذي تميّز بقرار إجبارية التعليم من سن السادسة إلى الثانية عشر، ونشر المدارس في عمق الريف التونسي، ومن بعده "محمد مزالي" صاحب مجلة الفكر والذي قاد وزارة التربية مباشرة بعد فشل تجربة التعاضد سنة 1969 وأبرز ما جاء في الإصلاح التربوي الذي قام به هو "تعريب التعليم" و"استرداد الهوية الوطنية والحفاظ على الخصوصيات الثقافية".

 أما إصلاح الوزير محمد الشرفي أستاذ القانون وأحد رموز آفاق اليسارية ورئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والذي تولى وزارتي التربية والتعليم العالي والبحث العلمي بداية من سنة 1989 أي سنتين بعد تولي زين العابدين بن علي للحكم في تونس بعد انقلاب أبيض على الرئيس بورقيبة، وفضلًا عن المبادئ العامة المستعادة والتي نجد لها صدى في القانون الإصلاحي الذي أصدره سنة 1991، فإن أهم ما ميّز مروره هو مراجعة البرامج الدراسية بما يتلاءم مع رؤية مصالحة الدولة مع مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.

 

 

في سنة 2002، ذهبت تونس إلى إصلاح جديد قدم تقريبًا المبادئ نفسها، وقد أشرف عليه الوزير منصر الرويسي وأهم ما ميّزه هو تطوير الجوانب البيداغوجية على غرار المقاربة بالكفايات وبيداغوجيا المشروع والاشتغال على التوجيه المدرسي.. وتوج إصلاح الرويسي بالقانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي الذي صدر سنة 2002.

ورغم المحاولة الجادة التي قام بها وزير التربية الأسبق ناجي جلول في حكومة يوسف الشاهد من أجل إصلاح منظومة التربية وصدور الكتاب الأبيض والتي قُبرت جرّاء تجاذبات سياسية ونقابية عرفتها تونس سنة 2017، فإنه منذ تاريخ صدور القانون التوجيهي المدرسي في 2002 وإلى اليوم، لم تعرف المنظومة التربوية التونسية إصلاحًا عميقًا بما يتماشى مع التحولات التي عرفتها تونس والتغيرات التي يعرفها العالم على أكثر من صعيد.

وتعتبر الاستشارة الوطنية حول إصلاح نظام التربية والتعليم الجارية الآن في تونس، مقدمة هامة لإصلاح تربوي قد يكون مجديًا للمجتمع التونسي في قادم السنوات، لكن هناك شرط أخلاقي لا بدّ منه وهو الالتزام بالتشاركية، وإلى حد الآن، ما يلفت الانتباه هو غياب الجدية في تشريك جانب من الفاعلين الأساسيين وعلى رأسهم التلاميذ.

اللافت للانتباه إلى حد الآن، هو غياب الجدية في تشريك جانب من الفاعلين الأساسيين وعلى رأسهم التلاميذ في الاستشارة الوطنية لإصلاح التعليم في تونس

"الترا تونس" تنقل حيث يوجد التلاميذ أمام معاهد جهة منوبة وضاحيتي باردو وخزندار بالعاصمة تونس واستمع إليهم بخصوص مواقفهم وآرائهم من الإصلاح التربوي القادم وآلية الاستشارة التربوية.

أمام معهد باردو، ومع نهاية الحصة الدراسية المسائية، التقينا مجموعة من التلاميذ اليافعين وعددهم ثمانية، كانوا يمازحون بعضهم البعض وهو يستعدون للعودة لديارهم، استبقيتهم قليلًا للحديث عن الاستشارة التربوية والإصلاح التربوي المرتقب. ثلاثة منهم لا علم لهم بما يدور حول الإصلاح والاستشارة، إذ أكدت "لميس" وهي تلميذة بالسنة الثانية ثانوي أنها لا تعلم بالأمر برمّته، وأضافت أنها حتى لو علمت به، فلا أحد ينصت للتلميذ ويأخذ برأيه حتى لو كان هذا الرأي بسيطًا.

لميس (تلميذة سنة ثانية ثانوي) لـ"الترا تونس": لا علم لي باستشارة إصلاح التعليم، وحتى لو علمت، فلا أحد ينصت للتلميذ ويأخذ برأيه في كل الأحوال

أما زميلها "أحمد" فأوضح أنه قرأ منذ أيام إعلامًا على سبورة الإعلامات الموجهة للتلاميذ داخل معهده تدعو الجميع وبدون استثناء للحضور مساء الجمعة من أجل المشاركة في جلسة حوار كبرى مع الأولياء والأساتذة حول الإصلاح التربوي، لكن يبدو أنّ قلة قليلة حضرت هذا الاجتماع، وهنا تقاطعه "سامية" وهي تلميذ بالسنة الثالثة من شعبة الاقتصاد والتصرف قائلة إنها حضرت مع والدتها ولاحظت أن عدد التلاميذ قليل جدًا فهو لم يتجاوز العشرين تلميذًا من جملة 1500 تلميذ من أبناء المعهد، وأضافت أن الحوار لم يكن ممنهجًا فهم يتنقلون من موضوع إلى آخر دون تدوين الأفكار والمقترحات، ومن التلاميذ الحاضرين تدخل نزر قليل منهم من دون رؤية أو تدبر مسبق. وبينت التلميذة "سامية" بأنه كان الأجدى أن يتم إعلامهم مسبقًا بالمحاور كي يقدموا أفكارهم مكتوبة.

"محمد مجد" تلميذ بالسنة الثالثة من شعبة علوم تقنية تدخل فقط من أجل تقديم اقتراح يهم الإصلاح التربوي وخصوصًا مراجعة المواد بالنسبة للشعب العلمية واستبدال ساعات اللغات والتاريخ والتربية المدنية بالتربصات والتدريبات الميدانية التي تبدو غائبة تمامًا، مشيرًا إلى أن التلميذ التونسي في مستوى البكالوريا تقنية لا يزور مصنعًا أو ورشة ميكانيك أو شركة صناعية أو يرى أمامه محركًا طيلة سنوات الاختصاص.

سامية (تلميذة سنة ثالثة اقتصاد وتصرف): حضرتُ اجتماع الأولياء والأساتذة حول الإصلاح التربوي ولاحظت أن عدد التلاميذ قليل جدًا فهو لم يتجاوز العشرين 

أما "سليم" فأكد أن أفكار الإصلاح التربوي التونسي جزء منها يجول في أذهان التلاميذ، وما دامت وزارة التربية تفكر لوحدها في أمر الإصلاح وأنّ تشريك التلميذ هو شكلي لا غير، فإن كل التوجهات الإصلاحية القادمة ستكون بعيدة عن الواقع المعاش. واقترح "سليم" أن يتم إحداث منصة إلكترونية خاصة بالتلاميذ دون غيرهم ومن ثمة تُرفع الأفكار، واقترح في مجال الإصلاح أن تتحول مواد اللغات والعلوم الإنسانية إلى مواد اختيارية مع تبني فكرة أن يكون لكل تلميذ في البكالوريا "مشروع" في اختصاصه يقدمه نهاية السنة وذلك بدل الاختبارات التطبيقية التي لا طائل منها، وفقه.

الطريق المؤدية إلى معهد خزندار مزدحمة بالمؤسسات التربوية والمقاهي والمطاعم الصغيرة، جلست بإحداها وهناك التقينا مجموعة أخرى من التلاميذ الذين كانت لهم آراء متجددة حول التربية والتعليم في بلادهم، وهذا "قصي" وهو تلميذ بكالوريا علوم تجريبية، أشار إلى أن التعليم العمومي إلى انحدار ما لم تنظر تونس حولها إلى أنظمة التعليم المتطورة مثل كوريا الجنوبية واليابان والبلدان الاسكندنافية، وتحاول النسج على منوالها مع مراعاة كل خصوصية. وأوضح "قصي" أن مناهج التعليم في تونس متقادمة جدًا، وأنّ شكل الدرس بات مضحكًا حيث تغيب الدروس التطبيقية والزيارات الميدانية ودعوة الخبراء لعرض تجاربهم. أما ما يثير "قصي" فهو تعاطي المدرسة التونسية مع الهواتف الذكية في مستوى استعمالها في الدرس إذ يقول: "تجبد تليفونك باش تصور المنسوخ على السبورة أو تقوم بالبحث حول معلومة تهم الدرس تتعاقب".

محمد مجد (تلميذ سنة ثالثة علوم تقنية): يجب مراجعة المواد بالنسبة للشعب العلمية واستبدال ساعات اللغات والتاريخ والتربية المدنية بالتدريبات الميدانية الغائبة تمامًا حاليًا

من جهته، تحدث "يوسف" وهو تلميذ الثالثة آداب عن تفشي ظاهرة الدروس الخصوصية مؤكدًا أن الإصلاح القادم لن يحل هذا المشكل، وطالب بتطوير القوانين الزجرية الخاصة بهذا الموضوع.

أمّا "ألفة" وهي تلميذة الثانية علوم، فقد أشارت إلى أن مشغل التربية والتعليم هو من المشاغل الحارقة، لكن التعاطي معه يبقى رهين أخلاق الواقفين على الاستشارة الحالية وحسن استنطاق مخرجاتها، وتضيف أنها حضرت اللقاء الذي خُصص للأولياء والتلاميذ معًا ولاحظت غياب المدير وأن القيّم العام هو من أشرف على الجلسة ولم يتم الاستماع إلى التلاميذ أصلًا، لقد كان اللقاء مجرد دردشات بين الأولياء وبعض الأساتذة. 

واعتبرت التلميذة "ألفة" أن توقيت اللقاء لم يكن مناسبًا، وكان من الأجدى أن يناقش كل قسم مع أساتذته موضوع الاستشارة والإصلاح وأن ترفع الأفكار مكتوبة، وطالبت أن لا تغفل عملية الاصلاح عن الأنشطة الثقافية الغائبة تمامًا عن كل المدارس العمومية، واقترحت أن يتم تشريك وزارة الثقافة في هذه النقطة موضحة أن يكون التواصل مقننًا بين دور الثقافة والمكتبات العمومية ونوادي الأطفال.

سليم (تلميذ): طالما أنّ تشريك التلميذ هو شكلي لا غير، فإن أي إصلاح تربوي قادم سيكون بعيدًا عن الواقع المعاش خاصة إذا كانت وزارة التربية تفكر لوحدها في هذا الأمر

وأمام أحد معاهد مدينة منوبة، التقينا "أكرم" وهو تلميذ بالسنة الأولى ثانوي حيث نفى أن يكون قد اطلع على فحوى الاستشارة أو محاور الإصلاح المرتقب لأنه لا علم له بذلك، وفي معهدهم لم تتم دعوتهم لأي جلسة حوار، لكن وبعد أن وضحنا له الأمر طالب بأن يتم التفكير في تعميم معاهد الرياضة أو بعث مسالك لبعض الرياضات بمختلف المؤسسات التربوية.

أما التلميذ "محمد أمين" وهو يدرس بمستوى الثانية تكنولوجيا الإعلامية، فهو الآخر ليست لديه أدنى فكرة حول الإصلاح التربوي واعتبر أن إقصاء التلميذ من الاستشارة يجعل من الإصلاح منقوصًا واقترح أن يتم تفريع مسلك الإعلامية إلى عدة اختصاصات مثل البرمجة والصيانة ووضع تصورات للتطبيقات الإعلامية، مع زيادة عدد المخابر في المعاهد.

  • مختص في فلسفة التربية: المدة التي حددتها وزارة التربية للاستماع بخصوص الإصلاح التربوي غير كافية

كل هذه الهواجس التلمذية المتعلقة بالإصلاح التربوي المرتقب وآليات رصد الأفكار عبر الاستشارة الإلكترونية واللقاءات المباشرة وغيرها، حملناها إلى الأستاذ عماد العباسي المختص في فلسفة التربية والباحث بالجامعة التونسية الذي أوضح منذ البداية أنه لا يوجد إصلاح تربوي ينطلق من فراغ، إذ لا بدّ أن يمرّ بمراحل تمهيدية تتجمّع في محور التشخيص وتستند إلى النقائص التي ظهرت سواء على مستوى تدهور النتائج أو عزوف التلاميذ على التحصيل أو التسرّب المدرسي أو سريان العنف.

مختص في فلسفة التربية لـ"الترا تونس": حشر التلاميذ مع الأولياء ضمن يوم مفتوح في إطار استشارة إصلاح التعليم، أمر لا يستقيم

وبالنسبة للخطة التي وضعتها وزارة التربية لمعالجة لتنفيذ الإصلاح والتي انطلقت منذ السنة الدراسية الفارطة مع المتفقدين والفنيين فيما يتعلق بالبرامج، فقد أوضح المختص التربوي أن تخصيص ثلاثة أشهر للاستماع وحصد المقترحات غير كافية.

وأشار إلى أن التلميذ الذي يظل دائمًا "محور العملية التربوية" بمقتضى القانون التوجيهي لسنة 2002 لم يتم الاستماع إليه جيدًا، وأن حشره مع الأولياء ضمن يوم مفتوح أمر لا يستقيم، واقترح الأستاذ عماد العباسي بهذا الخصوص أن تخصص ربع ساعة من كل حصة درس للتوعية بأهمية الحدث، مع بعث لجان جهوية من الخبراء لرصد مقترحات التلاميذ وتقييمها وتنظيم ندوات مفتوحة لممثلي المدارس والمعاهد من التلاميذ.

وتطرق محدثنا إلى الدور الذي يمكن أن يلعبه الإعلام العمومي في عملية الإصلاح التربوي المرتقب حيث يمكنه تخصيص فوروم ثابت للإصغاء إلى مقترحات التلاميذ.

مختص في فلسفة التربية لـ"الترا تونس": من الممكن تخصيص فوروم ثابت للإصغاء إلى مقترحات التلاميذ واستغلال الإعلام العمومي في عملية الإصلاح التربوي

  • رأي علم النفس التربوي: التلميذ التونسي، من التعويل على المدرسة إلى التعويل على نفسه

الأستاذ سوسن درين المختصة في علم النفس التربوي أوضحت لـ"اترا تونس" أن فكرة المدرسة مبنية على فلسفة الأمل والسعي نحو مدارات المثالية وذلك لبلوغ المعنى الشهير الذي يتردد أمامنا دائمًا وهو "رسالة المدرسة" وأنه لا يمكن بلوغ كل ذلك من دون مبدأ الثقة المتبادل، وهذا المبدأ الذي يربط كافة الفاعلين التربويين بما فيهم التلميذ نفسه قد تشظى منذ مدة طويلة، لذلك أصبحت المدرسة التونسية "طاردة".

أما الإصلاح التربوي المرتقب والذي سيتعلق به المجتمع التونسي لسنوات قادمة، أشارت الأستاذة درين إلى أنه أقصى التلميذ من دائرة الاستماع وتم حشره في يوم مفتوح رفعًا للكلفة، لذلك عبّر التلميذ التونسي عن خوالجه وأفكاره ومقترحاته على شبكات التواصل الاجتماعي من خلال "مجموعات" وصفحات المعاهد والمدارس "والتي بدت لي زاخرة وتحتمل القراءات والتأويلات فيما يتعلق بالواقع التربوي الحالي، وهنا أدعو المشرفين على عملية الإصلاح أن ينتبهوا لذلك وأن يستثمروا في الفكر التلمذي".

مختصة في علم النفس التربوي لـ"اترا تونس": الإصلاح التربوي المرتقب أقصى التلميذ من دائرة الاستماع وتم حشره في يوم مفتوح رفعًا للكلفة

وأكدت المختصة في علم النفس التربوي أن التلميذ التونسي بات يعوّل على نفسه في كل شيء، فهو ينجز أنشطته الرياضية والثقافية ويبحث عن الدروس التكميلية ضمن الشبكات الموازية بنفسه، وهي إشارة لا بدّ للمشرفين على وزارة التربية أن يلتقطوها قبل فوات الأوان لأنها مؤذن بالانهيار الكبير، وفقها.

إن الإصلاح التربوي الهيكلي الذي شرعت فيه تونس منذ أشهر وحاولت من خلاله تشريك جميع الفاعلين يبدو أنها لم تولِ الاستماع إلى الطرف الأساسي وهو التلميذ العناية اللازمة سواء داخل مدارس التعليم العمومي أو الخاص، حيث لم تكن هناك استراتيجية واضحة وخاصة بالإنصات للتلميذ الأمر الذي قد يجعل من المخرجات المرتقبة غير ملائمة للتلاميذ والمجتمع فيما بعد.