بعد تمحيص ثبت للفلسفة باعتبارها مكمنًا ومقصدًا للتفكير والعقلنة والتأمل، أن البشرية طيلة حقبها التاريخية المتعاقبة عاشت ثلاث مراحل كبرى لم تحدث بينها قطيعات إبستمولوجية حاسمة، فهي مازالت تتجاور وتغالب حركة التاريخ إلى اليوم فنجدها تؤدي إلى بعضها البعض عبر قنوات اتصال في أكثر من مكان على كوكب الأرض.. وهذه المراحل الكبرى هي:
"مرحلة الأسطورة" ثم "مرحلة السحر" وأخيرًا وإلى حد الآن "مرحلة العلم".
وهذه المرحلة الأخيرة التي يشار إليها ترميزًا بـ "العلم" كانت نتيجة حتمية لعدة ثورات علمية حاسمة عرفتها الإنسانية خلال القرون القليلة الماضية على غرار الثورة الكوبرنيكية وثورة الجغرافيا وثورة المكننة واكتشاف المحرك البخاري والكهرباء.. والثورة التكنولوجية الرقمية وأخيرًا الثورة الاتصالية السيبرنية، لكنّ رمزًا واحدًا يجمع كل تلك الثورات العلمية المتوجة في تلك المرحلة الثالثة وهو "المدرسة".
فالمدرسة وبالرجوع إلى المفاهيم السوسيولوجية هي مؤسسة ثابتة في المجتمع مثل مؤسسة القانون ومؤسسة العائلة، داخلها يتلقى الفرد المعارف والعلوم ويتشرّب منظومة القيم المجتمعية والإنسانية التي يعتبرها العلامة عبد الرحمان بن خلدون أساس العمران وأساس "الاجتماع". المدرسة تعلّم قاصدها أيضًا، فنون طرح الأسئلة وتلقّي الأجوبة الكافية والشافية لكل حيرة.. إنها درب للبحث عن الذات الشريدة.
أصبح الوصف المستحق للمدرسة في تونس، هو ما قدمه الأستاذ الراحل أحمد شبشوب في العديد من دراساته، حين قال إنها تحوّلت إلى "مدرسة طاردة"
هذه المؤسسة المجتمعية التي "تبقى بعد أن يفنى كل شيء" عاشت بدورها أطوارًا تاريخية ورؤى متقاطعة كانت نتيجة لنظريات تربوية عديدة وبراديغمات تفكير حول المدرسة جعلتها بمثابة "المصنع الأوحد للإنسان الحديث والمعاصر..".
داخل هذا "المصنع" يتشكل كل شيء وتتراءى من ضجيج ساحاته وانتباه التلاميذ داخل الفصول آفاق المجتمع ومستقبله في أبعاد متعددة، لذلك راهنت كل مجتمعات الدنيا التي رامت لنفسها التقدم على "المدرسة".
وتونس تلبست بها المدرسة منذ القدم، وقد أثبتت كل الدراسات التي اعتنت بالحضارات المتعاقبة على هذه الأرض أن التعليم كان صنوًا لتقدم نوميديا وقرطاج وتونس الرومانية وكل المرحلة الإسلامية، فكان جامع الزيتونة بمثابة الأكاديمية الكبيرة تنير كل العالم. أما مرحلة الاستعمار، فإن أغلب المدارس بعثت من أجل أبناء المعمّرين دون غيرهم إلى حين الاستقلال ومن ثمة الشروع فعليًا في إرساء تعليم نظامي تونسي صميم.
هذه المدرسة التونسية التي راهنت عليها دولة الاستقلال وجعلتها عمومية وإلزامية لكل أبناء الشعب، والتي أثمرت أجيالًا من العقول والأدمغة التي أسهمت في بناء المجتمع التونسي طيلة أكثر نصف قرن، عاشت نجاحاتها وتميزها وانتصاراتها وعرفت أيضًا انكساراتها التي سرعان ما تتجاوزها، لكنها في هذه السنوات الأخيرة وفي ظل الأزمات السياسية المتعاقبة، أصبح وصفها المستحق هو ما قدمه الأستاذ الراحل أحمد شبشوب في العديد من دراساته، حين قال إنها تحوّلت إلى "مدرسة طاردة"، وهو مصطلح تلخيصي دقيق وخطير يتطلب من المجتمع التفكير حول مدرسته وإعادة ترتيب وجودها.
تحولت المدرسة التونسية إلى فضاء موحش يقدم النزر القليل من المعارف والعلوم والتقنيات وتغيب عنه كل المهارات الحياتية والتواصلية الأخرى في ظل غياب رؤية إصلاحية شاملة لكل أركانها
وفي ظل غياب رؤية إصلاحية شاملة لكل أركان المدرسة، تكون واضحة وملائمة لمتطلبات الأجيال الجديدة، تحولت المدرسة التونسية إلى فضاء موحش يقدم النزر القليل من المعارف والعلوم والتقنيات وتغيب عنه كل المهارات الحياتية والتواصلية الأخرى التي تحدث عادة في ظل أنشطة ثقافية وفنية ورياضية متنوعة.. لكن التلاميذ في تونس لم يكتفوا بالصحراء، بل ابتكروا لهم أدوات تواصلية جديدة غير نمطية وغير كلاسيكية، يشرفون عليها بأنفسهم ويرتبونها بالطرق والأساليب التي يرونها مناسبة.
ومنذ ما يقارب العشر سنوات خلت، تحولت المناسبة السنوية لامتحان "البكالوريا رياضة" والمعروفة لدى عامة التونسيين بـ"الباك سبور"، إلى حدث احتفالي تلمذي جماعي خاص بكل تلامذة البكالوريا سمّي بـ"الدخلة " وهي استعارة من احتفاليات مشجعي فرق كرة القدم التي تسبق المباريات الكبرى وخاصة "الدربيات" وتنطلق دخلات التلاميذ التونسيين أواسط شهر أفريل/ نيسان من كل سنة فيتم اقتناء أزياء موحدة ومميزة لكل شعبة من شعب البكالوريا، وتُرفع الشعارات وتدق الطبول وتتعالى الأهازيج في ساحات المدرسة وتتعطل الدروس لساعات وذلك في ظل غياب نصوص قانونية تعترف بهذه التظاهرات، لكنّ التلاميذ فرضوها فرضًا!
ومع تتالي السنوات، انقسمت "دخلة الباك سبور" إلى "دخلات"، إذ أصبح لكل شعبة يوم خاص بها فتقدم استعراضًا من الألوان والرقصات وتطلق الشماريخ ويُرفع شعار خاص بتلك المجموعة فيكرّمون أنفسهم وبعض المربّين المميزين.
واصل التلاميذ في تونس اكتساحهم للحياة المدرسية بخلقهم لتظاهرة جديدة باتت تسبق احتفالية "الدخلة" واختير لها شهر فيفري/ شباط عنوانًا، وتسمى "الكراكاج"، وخلال هذه التظاهرة تعلن المجموعات عن ألوانها وشعارها، ويُدعى لها باقي التلاميذ حسب الاختصاص، وهكذا توسعت الدائرة لتصبح هذه الاحتفالات تهم كل التلاميذ.
ويتواصل خلق التظاهرات الجديدة من قبل التلاميذ أنفسهم، لكن هذه المرة نحوا منحى آخر أكثر رمزية وهو في نفس نهج "الكراكاج" و"الدخلة"، ويتمثل في تخيّر أبناء كل اختصاص (آداب، علوم تقنية، علوم تجريبية، رياضيات، اقتصاد وتصرف، علوم إعلامية) لجدار بالمعهد حيث يدرسون، ويرسمون فوقه جدارية السنة ليتحول في بعض الأحيان إلى المكان حيث يقضون أوقات الراحة، فيلتقطون الصور حذوه وينشرونها على منصات التواصل الاجتماعي.
- فما قصة هذه الفوتوبيا التلمذية بالمعاهد التونسية؟
مباشرة وبعد الأيام الأولى من السنة الدراسية والموسومة بتعارف التلاميذ على بعضهم البعض، سواء أبناء الأقسام أو أبناء الاختصاص، يتداول هؤلاء فيما بينهم أمر الصورة الذهبية التي ستميّزهم وتُنتخب لجنة تمثيلية لكل أقسام الاختصاص، وتوكل إليها مهمة اختيار الصورة والشعار الذي ستحمله والجدار الذي ستُرسم فوقه وتكلفتها النهائية.
بعد الاتفاق على الصورة ورمزيتها وشعار قوتها، يتم الاتصال برسامين من الشباب التلمذي، اختصّوا في رسم هذه الجداريات العملاقة، فيتم الاتفاق على الحجم وعدد الألوان والثمن الذي سيتقاسمه جميع أبناء الاختصاص. ومن ثمة الشروع في رسمها ليلًا باستعمال أجهزة بث مرئي بواسطة الحاسوب وقد يتواصل رسمها لأيام متتالية.
يتخيّر أبناء كل اختصاص جدارًا بالمعهد حيث يدرسون، ويرسمون فوقه جدارية السنة ليتحول في بعض الأحيان إلى مكان يقضّون حذوه أوقات الراحة، ويلتقطون لأنفسهم الصور بجانبه
وعادة ما تسمح إدارات المعاهد للتلاميذ برسم هذه اللوحات والجداريات بعد التقدم بمطلب كتابي والاطلاع على مضمون الشعار والصورة.
- مختص في علم النفس التربوي: "تلميذ اليوم يرفض كل أشكال الوصاية على أفكاره وأنشطته.."
اتصل "الترا تونس" بالمختص في علم النفس التربوي الأستاذ نوفل بوصرة الذي أوضح منذ البداية أن المدرسة التونسية آخذة في التغير من الداخل بواسطة التلاميذ أنفسهم الذين يئسوا من إصلاح حقيقي يراعي مطالبهم البسيطة في الثقافة والرياضة. وأضاف أن تلميذ اليوم يرفض كل أشكال الوصاية على أفكاره ومواهبه ومهاراته، فقط هو يريد فسح المجال حتى يعبّر عن حضوره كمتعلم وكفرد من المجتمع بكل حرية.
مختص في علم النفس التربوي لـ"الترا تونس": تلميذ اليوم يرفض كل أشكال الوصاية على أفكاره ومواهبه ومهاراته، فقط هو يريد فسح المجال حتى يعبّر عن حضوره
وبيّن الأستاذ نوفل بوصرة أن ما يحدث في تونس نجد له أمثلة عديدة في عدة بلدان أوروبية وعربية وهو دليل على أن المدرسة ستتشكل في قادم السنوات على نحو مغاير وسيصبح التلميذ مساهمًا إسهامًا مباشرًا في كل تغيير.
وبخصوص الجداريات التي تُرسم مع مفتتح السنة الدراسية على جدران المعاهد التونسية أشار المختص في علم النفس إلى أن هيمنة ثقافة الـ"ألتراس" المتأتية من عوالم رياضة كرة القدم، هي الملهم الأساسي لكل الاحتفالات التي أنشأها التلاميذ التونسيون في علاقة بـ"الباك سبور" (اختبارات التربية البدنية الخاصة بمناظرة البكالوريا) بما في ذلك رسم الجدارية التي تعتبر شكلًا من أشكال التعبير عن الذات، وهي في النهاية موقف مما يحدث حوله، حتى أننا نلاحظ في بعض الصور نصرة لقضايا بعينها أو إشارات سياسية أو غيرها، تهم البيئة أو الدراسة.
مختص في علم النفس التربوي لـ"الترا تونس": هناك هيمنة لثقافة الـ"ألتراس" المتأتية من عوالم رياضة كرة القدم، وهي الملهم الأساسي لكل الاحتفالات التي أنشأها التلاميذ في تونس
وأوضح الأستاذ نوفل بوصرة أن التلميذ التونسي اليوم لم يعد ذاك التلميذ الخامل الذي يتلقى كل شيء داخل المدرسة ثم يغادر، بل أصبح فاعلًا، وفي ذلك نحت لشخصيته وتأهيل له للحياة الجامعية والمهنية فيما بعد، مشيرًا إلى أن هذه الاحتفاليات هي فرصة للتلميذ حتى يكتشف قدراته القيادية ومهاراته التواصلية.
إن هذه الجداريات والصور التي يرسمها التلميذ التونسي مع بداية العام الدراسي وما تلاها من احتفاليات أخرى موزعة على كامل السنة الدراسية، بقدر ما تعبّر عن نضج التلميذ التونسي وتعويله على نفسه في خلق مناخات ثقافية وفنية ورياضية خاصة به، فإن المدرسة مطالبة بتقنين هذه التظاهرات وتحديد مواعيد واضحة لها وجعلها مناسبات للتعبير ضمن إطار عام من الحرية وتفنيدًا لمقولة الأستاذ الراحل الباحث في علوم التربية أحمد شبشوب، فتصبح المدرسة التونسية جاذبة وليست طاردة.