27-يوليو-2023
دار سيباستيان في الحمامات

الدار مكسب لتونس ولثقافتها وتاريخها

 

تصدير: "إن هذا البيت هو شعاع الجمال" (من وصف المهندس المعماري السويسري لو كوربوزييه لدار سيباستيان بالحمامات عندما زارها بداية ستينيات القرن العشرين).

متخيّل القصة: 

"إنها نهايات الحرب العالمية الأولى، الشتاء يخيّم ثقيلاً على كامل مملكة رومانيا. يقف الملك "فرديناند الأول" قرب شرفة قصر موجوسوايا بالعاصمة بوخارست يطيل النظر في اتجاه الأفق البعيد إلى مياه نهر الدانوب وقد تجمدت بالكامل.. يتحسس أقفال معطفه الأسود المطعّم في مستوى رقبتة بفرو دبّ روسي بني اللون وفي ذهنه تجول هواجس عدة تهم عرشه، ثم يلتفت إلى ابنه جورج سيباستيان الجالس خلفه ويقترح عليه بصوت هادئ ثابت أن يسلمه ثروة طائلة تمكنه من العيش في سلام مقابل أن يختفي عن الأنظار في بلد آخر وأن لا يطالب بشيء بعد موته.. ثم سرعان ما استدرك واقترح عليه الإقامة في إيالة تونس لأن صداقة متينة تجمعه بالعائلة الحسينية التي تحكم البلاد في ذلك الوقت.

صمت الابن الذي تجري داخله دماء أمريكية من جهة أمه إيميلي التي تعرف عليها والده ذات زيارة إلى روما وكان هو ثمرة حبهما. ليس للشاب جورج من خيار غير الموافقة على مقترح الملك خاصة وأنه يدرك مصيره بعد رحيل والده ومدى تشعب الصراعات بين ورثة الحكم.

وفي ظرف أسابيع معدودة وانتهاء ترتيبات الرحلة وجد الأمير جورج  سيباستيان نفسه على مركب ملكي يشق البحر الأبيض المتوسط متجهًا إلى أرض تونس وضيفًا على ملكها محمد الناصر باي الذي مكنه من العيش بتونس ومكّنه من تخيّر مكان إقامته بكل حرية..".

القصة كما وردت: 

بعد وصول جورج سيباستيان إلى تونس كانت الحياة هشة ومهشمة جراء ما خلفته الحرب العالمية الأولى من أسى، قام بجولات عديدة في ربوع تونس متعرفًا على طبيعتها، فكانت له زيارات إلى نابل الوطن القبلي والكاف وسوسة وطبرقة وقابس وجرجيس وجربة والمكناسي، فتنته البساطة التي كان عليها التونسيون وهم يمارسون حياتهم اليومية وخاصة أساليب عيشهم المتسمة بالبداوة في مستوى الملبس والمأكل وبناء المنازل وإنشاء البساتين.

لم يختر الثري الروماني حاضرة تونس أو مدينة أخرى كبيرة للإقامة بالإيالة وإنما تخيّر ريف مدينة الحمامات لتناسق طبيعته وشاعريتها وأيضًا لقربه من هوى نفسه وانجذابه العاطفي للمكان، فاقتنى قطعة أرض تطل على الشاطئ الجنوبي للمدينة تناهز مساحتها الجملية 10 هكتارات وشرع في تهيئتها وبنى في وسطها الدار الكبيرة ( الفيلا )مستوحيًا هندستها من "دار عربي" كان قد شاهدها في جرجيس بالجنوب التونسي وخصوصًا استعماله للأقواس والأسقف المتقاطعة لكنه أضاف من خياله الشاعري ملحقات أخرى مثل المسبح المستطيل المحاط بسلسلة من الأقواس المرفوعة على أعمدة من رخام والتي تنعكس على صفحة الماء فتبدو كلوحة تشكيلية ساحرة. 

 

دار سيباستيان ـ الدار الكبيرة

بناء الدار الكبيرة ( الفيلا )كان مستوحيًا من "دار عربي" في جرجيس بالجنوب التونسي مع إضافة ملحقات أخرى

 

"الدار الكبيرة" حيث نعمة الانخطاف تبدو لزائرها كنبوءة هندسية تهيم بها الروح والجسد والضوء واللغة والإيقاع والمشاعر فهي متاهة صغيرة تتكون من مجموعة من الغرف أطلق عليها جورج سيباستيان بنفسه تسميات خاصة في علاقة بالمفردات المعمارية والتزويقية التي صيغت بها فنجد الغرفة البرتقالية والغرفة الرومانية والغرفة السوداء وهي غرفته الشخصية وقد زينت بمرمر أسود حالك وأيضًا حمامها الأسود المصنوع من الخزف، ومطبخ مجهز بمدفأة طبيعية ثم قام بطلائها "بالجير " التونسي الأبيض المستعمل في قرية سيدي بوسعيد وفي قرى الجنوب التونسي  فبدا المنزل كخال أبيض على ضفة المتوسط.  

لم يكتف جورج سيباستيان ببناء الدار الفريدة التي تلخص وجهًا مضيئًا من المعمار التونسي القديم بل أفنى السنوات في هندسة بستان الدار على طول مساحة 10 هكتارات في تناغم مع المحيط الطبيعي المطل على البحر المتوسط

لم يكتف سيباستيان ببناء الدار الفريدة التي تلخص وجهًا مضيئًا من المعمار التونسي القديم بل أفنى السنوات في هندسة بستان الدار على طول مساحة العشرة هكتارات في تناغم مع المحيط الطبيعي المطل على البحر المتوسط فقام باستجلاب أشجار من بلدان عديدة على غرار القصب الأسيوي من أندونيسيا والصنوبر الحلبي والسرو من لبنان، وأنواع من القوارص من أستراليا والصفصاف من جنوب إيطاليا، كما كثّف من زراعة أشجار الكلاتوس الذي أضفى روح الغابة على المكان بأسره. 

 

بستان دار سيباستيان

قام سيباستيان بهندسة بستان الدار على طول مساحة 10 هكتارات في تناغم مع المحيط الطبيعي المطل على البحر المتوسط

 

جورج سيباستيان لم يكن ثريًا نمطيًا يبذر المال من أجل متعه الشخصية المبتذلة بل كان أميرًا أنيقًا، تجمعه صداقات كبيرة بكبار الفنانين والشعراء والسياسيين والرسامين. ومن بين أصدقائه كان الدبلوماسي اللبناني سيسيل حوراني وهو أيضًا صديق للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وقد ساند القضية التونسية من أجل التحرر من الاستعمار الفرنسي عندما كان سفيرًا للبنان لدى منظمة الأمم المتحدة.

 

 الدبلوماسي اللبناني سيسيل حوراني

الدبلوماسي اللبناني سيسيل حوراني وقد كان صديقًا للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وساند القضية التونسية من أجل التحرر من الاستعمار 

 

رخامة تدشين المركز الثقافي الدولي بالحمامات

رخامة تدشين المركز الثقافي الدولي بالحمامات

 

"حوراني" الذي تعددت زياراته لتونس وللحمامات خصوصًا التي كان مقيمًا بها بشكل متقطع وأقنع "جورج سيباستيان" سنة 1962 بالتفويت في بيته بالحمامات للدولة التونسية حتى تحافظ عليه من بعده، فاقتنع. وفي نفس الوقت، اقترح على بورقيبة تحويل البيت إلى مركز ثقافي دولي  على غرار قصر المسيدس بإيطاليا الذي أصبح قبلة الفنانين والمبدعين يقضون فيه الأسابيع الطويلة من أجل إنتاج الفن.

"جورج سيباستيان" قام بالتفويت لاحقًا في بيته بالحمامات للدولة التونسية حتى تحافظ عليه من بعده وقام بورقيبة بتحويله إلى مركز ثقافي دولي بالحمامات

وهو ما تم فعلاً، حيث بعث الحوراني، الذي اتخذه بورقيبة مستشارًا سياسيًا له لمدة 10 سنوات ما يعرف اليوم "بالمركز الثقافي الدولي بالحمامات" وذلك حسب ما تشير إليه رخامة التدشين التي وضعها الرئيس بورقيبة بنفسه سنة 1964.

وبعث الحوراني أول مهرجان ثقافي دولي بدار سيباستيان وسماه  في البداية "الموسم الثقافي" وعمل جاهدًا حتى يقنع منظمة اليونسكو وإحدى المؤسسات الخاصة بالبرتغال بإنشاء مسرح للهواء الطلق بالدار وقام بدعوة المخرج المسرحي والسينمائي الفرنسي الشهير "روني أليو"  من أجل تصميم ركح المسرح وشهد الفالاز الذي شيّد في خاصرته المسرح قبالة البحر  نقاشات مطولة بين المسرحي التونسي علي بن عياد وروني أليو وتم الاتفاق على أن يكون الركح مزيجًا بين تصاميم المسارح الشهيرة اليوناني والشكسبيري والروماني في تناغم مع الفضاء والخضرة وزرقة البحر.

 

مسرح دار سيباستيان

كان ركح دار سيباستيان مزيجًا بين تصاميم المسارح الشهيرة اليوناني والشكسبيري والروماني في تناغم مع الفضاء والخضرة وزرقة البحر

 

وبذلك ولد مسرح من أجمل المسارح في العالم. وقد دعا سيسيل الحوراني المهندس الفرنسي "بول شيمتوف" لتنفيذ مخطط مسرح دار سيباستيان وذلك سنة 1964 و"شيمتوف" هو من أشهر مهندسي القرن العشرين وقد شيّد العديد من البناءات الشهيرة في فرنسا وخارجها من بينها مقر وزارة المالية الفرنسية.

مسرح "دار سيباستيان" أتى في شكل محارة مطلة على البحر، وطيلة نصف قرن من النشاط اعتلى ركحه مئات الفنانين والمسرحيين من مشاهير العالم من بينهم علي بن عياد وماجدة الرومي ومرسيل خليفة والأمين النهدي والشاب خالد والشاب مامي وغيرهم

هذا المسرح الذي أتى في شكل محارة مطلة على البحر، وطيلة نصف قرن من النشاط اعتلى ركحه مئات الفنانين والموسيقيين والمسرحيين نذكر منهم المسرحي التونسي علي بن عياد والمطربة اللبنانية ماجدة الرومي والفنان مرسيل خليفة والكوميدي الأمين النهدي والشاب خالد والشاب مامي من الجزائر والموسيقى الفرنسي جون ميشال جار وغيرهم.

 

مسرح دار سيباستيان

هكذا ولد مسرح من أجمل المسارح في العالم

 

دار سيباستيان زارها العديد من الشخصيات وأقام بها كتاب وشعراء ورسامون وفنانون، مثل الكاتب أندري جيد والصحفي جورج برنانوس والنحات جياغو مونتي والكاتب جون كوكتو والرسام بول كلي وواليس سمبسون دوقة وندسور ذات الأصول الأمريكية وملك بريطانيا إدوارد الثامن والملك جورج السادس ورئيس الوزراء البريطاني ونستن تشرشل الذي كتب فيه جزءًا من مذكراته وسكنه القائد العسكري رومل والرئيس الأمريكي ايزنهاور وغيرهم من المشاهير. 

زار "دار سيباستيان" في الحمامات العديد من المشاهير وأقاموا بها ومن بينهم دوقة وندسور ذات الأصول الأمريكية وملك بريطانيا إدوارد الثامن والملك جورج السادس ورئيس الوزراء البريطاني ونستن تشرشل الذي كتب فيه جزءًا من مذكراته وسكنه القائد العسكري رومل والرئيس الأمريكي ايزنهاور

وقد كرّم المركز الثقافي الدولي بالحمامات سيسيل الحوراني بعد الثورة في الذكرى 51 لتأسيسه في سنة 2014 اعترافًا ومحبة وتقديرًا لجميل ما قدم لتونس ولثقافتها وإشعاعها بين البلدان.

دار سيباستيان هي قصيدة معمارية لا تدرك بالعقل وحده وإنما بتاريخها المميز الذي يوشي حاضرها ومستقبلها، هي غنائية هندسية تجرف كل التناقضات وتصهرها في بوتقة هدير واحد هو هدير الجمال المنسكب على الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط في واقعية تمس كل الإنسانية. والدار مكسب لتونس ولثقافتها وتاريخها ونبض مشحون بتشوّف ثقافات الآخر المختلف ، إنها مرفأ فردوسي وكيان متآلف أمام العين والحدس في نفس الوقت.       

 

التكريم

كرّم المركز الثقافي الدولي بالحمامات سيسيل الحوراني بعد الثورة في الذكرى 51 لتأسيسه في سنة 2014 اعترافًا ومحبة وتقديرًا

 

مسبح دار سيباستيان

            مسبح دار سيباستيان