في الجزء الثاني من حوار القيادي السابق بحركة النهضة والرئيس الحالي لمنتدى آفاق جديدة عبد الحميد الجلاصي، مع "الترا تونس"، كشف لنا بعض كواليس الانتخابات الأخيرة، التشريعية والرئاسية، والهواجس والمحطات التي كانت محددة آنذاك في الترشيحات وفي تشكيل الحكومة.
الجلاصي تحدث أيضًا عن الفرص التي أضاعتها الطبقة السياسية، حسب رأيه، في أن تتحول من تنظيمات سرية وقوة احتجاج إلى أحزاب سياسية تملك قوة بناء ، تخطط، تصنع القيادات وتحكم، كما سلط بعض الضوء على العبث والاعتباطية إن جاز التعبير في طريقة إدارة الحكم.
وفي ما يلي الجزء الثاني من المقابلة:
- حذر البعض أيام الانتخابات، من أن يمثل قيس سعيّد خطرًا محتملًا على التجربة الديمقراطية، وربما الدولة، حتى من قبل قيادات في النهضة، لماذا صمتت النهضة أو تماهت مع هذا الخطر المحتمل؟
الموضوع سابق لشهري أوت/أغسطس، وسبتمبر/ أيلول 2019، تقصير الأحزاب السياسية وعدم قيامها بدورها كما ينبغي يترك فراغات تملؤها قوى غير سياسية أو القوى الشعبوية. الشعبويات هي دليل عجز السياسة والأحزاب، وفي هذا تتحمل الطبقة السياسية مسؤوليتها.
في التاريخ التونسي بعد الثورة، يمكن أن نرى ظاهرتين، الأولى هي التمدد الرهيب للاتحاد العام التونسي للشغل، رغم أني لا أجادل في دوره الوطني، لكني أجادل في الدور السياسي له، من خلال اختيار رؤساء الحكومات ومناقشة برامجها، وهذا دليل على فراغ تركته القوى السياسية، فالأحزاب تبيع السياسة وتصنع القيادات وتحكم، وفشل الأحزاب خلق حكومات هشة وأعطى الحكم للمستقلّين، أما الظاهرة الثانية فهي الشعبوية.
عبد الحميد الجلاصي لـ"الترا تونس": في التاريخ التونسي بعد الثورة نلاحظ ظاهرة الشعبوية فضلًا عن التمدد الرهيب لاتحاد الشغل وهو الدليل على الفراغ الذي تركته القوى السياسية
الأوضاع الداخلية للأحزاب دائمًا ما تؤثر على أدائها الوطني، وحركة النهضة ليست بمعزل عن ذلك، في تلك الفترة (أوت/ أغسطس، وسبتمبر/ أيلول 2019) النهضة كانت نتاج محطتين، المجزرة التي حدثت في القائمات الانتخابية للتشريعية، والتصفية السياسية الداخلية لاعتبارات المواقف الناقدة لطريقة الإدارة، كل ذلك ترجم أساسًا الوهن الذي شهدته الحركة، فلأول مرة منذ 2011، وجدت نفسها تعاني من نوع من التفكك، وأصبح عدد من القيادات يفكرون آنذاك في الاستقالة، لكن التقدير الوطني منعهم.
المحطة الثانية المحددة كانت الرئاسية وهل سترشح النهضة شخصية أم لا؟ شخصيًا، كنت من المدافعين عن ترشيح عبد الفتاح مورو للانتخابات الرئاسية، فالنهضة عند الكثيرين كانت عبارة عن مجموعة من مواطنين من الدرجة الثانية، وهي بدورها استمرأت ذلك الوضع، سؤال هل سترشح النهضة أم لا؟ كان عبثيًا، فالأصل أن لا يُطرح على حزب سياسي، وإنما تُسأل الأحزاب عن مرشّحها؟
تقديرنا، من خلال ترشيح مورو، كان القطع مع هذا العبث وإنقاذ الانتخابات التشريعية لأنها كانت الرهان الرئيسي في ذلك الوقت، عدم ترشيح شخص من النهضة كان سيشتت ويقسم القاعدة الانتخابية للحركة، خاصة مع ترشح عديد الإسلاميين ،كما لم نكن ندري إن كان مورو سيترشح بصفة مستقلة أم لا.
عبد الحميد الجلاصي لـ"الترا تونس": كان على مؤسسات النهضة في الدور الثاني من الرئاسية أن لا تدعم سعيّد رسميًا كي لا تخسر فرصة أخذ مسافة منه فيما بعد
في الدور الثاني من الرئاسية، ناقشنا في مجلس الشورى الموقف الذي سنتخذه، كنت قد أبديت تحفظي من الأستاذ قيس سعيّد، كان واضحًا بالنسبة إليّ من طريقة أدائه منذ سنوات، أنه شخص لا يمكن التواصل معه، واقترحت أن لا يكون للنهضة موقف رسمي وأن تفوض الأمر لجمهورها، كان على مؤسسات النهضة أن لا تدعم سعيّد رسميًا كي لا تخسر فرصة أخذ مسافة منه فيما بعد.
لكن رأي الأغلبية ذهب في الوقوف مع سعيّد، وكان الوقوف معه غير مبني على اقتناع، وإنما محاولة لإنقاذ الانتخابات التشريعية بعد الهزيمة في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية، مع العلم أن الهزيمة في الدور الأول في جزء منها كانت مما كسبت أيدي الناس.
في تقديري، كان بالإمكان أن يكون عبد الفتاح مورو في الدور الثاني من الرئاسية، لربما كان شكل الانتخابات مختلفًا، كان من الممكن أيضًا أن يفوز سعيّد ولكن ليس بـ2.7 مليون صوت.
لست متأكدًا إن كان دعم سعيّد في الدور الثاني قد أثّر على نتائج الانتخابات التشريعية للنهضة.
- من رشح الحبيب الجملي لمجلس شورى النهضة؟ لماذا الجملي؟ ولماذا سقطت الحكومة؟ هل أسقطها الغنوشي حقًا؟
دار الكثير من الحديث حول "الماكينة" في ذلك الوقت، وأنها وراء ترشيح الجملي، لكني قلت للكثيرين ستجدون أن "الماكينة" هو راشد الغنوشي.
بعد صدور نتائج الانتخابات، نصحت أن نتعامل مع وضعية البرلمان والحكومة بمنهج الحزمة، ففي وضعية معقدة كان لا بدّ من العمل مع أغلبية برلمانية وحكومية متجانسة.
في اجتماع الشورى، قدّم المكتب التنفيذي قائمة بـ5 خيارات من بينهم الحبيب الجملي، وحُصر الخيار بين شخصين: الجملي ومنجي مرزوق.
في الأثناء، خرجت إشاعة أن لمنجي مرزوق شخصية قوية، وأنه غير مضمون ولا يخدمنا، هنا لم يعد الموضوع متعلقًا بالكفاءة، إنما بـ"مضمون" أو "غير مضمون"، هذا لتفهموا كيفية إدارة الحكم.
عبد الحميد الجلاصي لـ"الترا تونس": الغنوشي والطبوبي والسبسي وسعيّد ينتمون لنفس الجيل ويشتغلون بنفس الطريقة وكلّهم يريدون رئيس حكومة يتحكمون فيه
بعد حوالي 5 تدخلات من بعض الأعضاء الذين يعرفون الجملي، ذهبت المعادلة لصالحه، وتحصل على 80 صوتًا في مجلس لا يتجاوز عدد حضوره 120، سأفشي لك سرًا: أنا كنت من بين المصوتين لمنجي مرزوق.
الشورى من جهته لم يضف أي اسم على القائمة التي جاء بها المكتب التنفيذي، والغنوشي كان يريد شخصًا آخر، بعد تصويت الشورى على الجملي، اتصل (الغنوشي) بالحبيب كشو ليعلمه بتكليفه رئيسًا للحكومة وأنه سيتوجه للرئيس بإعلامه بقرار التكليف، لكنه تراجع في آخر لحظة خوفًا من أن تثور ثائرة الشورى.
وكما ترك حالة من الفراغ عند ترشيح مورو، أراد خلق حالة فراغ بعد تسمية الجملي، مما اضطر الأخير لسرقة برنامجه الحكومي، فقدم له كل من رضا السعيدي وعامر العريض المساعدة لوضع تشكيلة الحكومة وبرنامجها، وخرجت إشاعة في ذلك الوقت، أن هذه الحكومة هي حكومة أبناء العريض والسعيدي وعبد الحميد. أنا التقيت بالجملي مرة واحدة سرًا وبعيدًا عن أنظار الإعلام في منزل أصهاره، تحادثنا وقدمت له بعض النصائح.
راشد الغنوشي ونور الدين الطبوبي والباجي قائد السبسي وقيس سعيّد ينتمون لنفس الجيل ويشتغلون بنفس الطريقة وكلّهم يريدون رئيس حكومة يتحكمون فيه.
لما وجد الغنوشي الجملي رجلًا ذا شخصية، أسقط الحكومة واتفق مع نبيل القروي على فاضل عبد الكافي كبديل له.
هل فشلت حركة النهضة في التحول من جماعة إلى حزب؟
إحدى أكبر إشكاليات العشرية الماضية أننا لم ننجح في صناعة أحزاب سياسية، إذ انتقل الصراع من مربع الإيديولوجيا والتاريخ إلى مربع السياسة.
عندما انطلقتُ في صياغة كتابي "من الجماعة إلى الحزب" اكتشفتُ أن فكرة "الفرقة الناجية" عند الجميع، ليس عند النهضة فحسب، عند النهضة وحزب العمال والوطد والتيار، أتفهم ذلك في مرحلة الاستبداد، لكن بعد الثورة كان على الجميع مغادرة ذلك المربع.
ما كان يجب علينا أن نولي قضايا الهوية والعلمانية وغيرها كل تلك الأهمية، لم تكن هي الأساس، بل قضية الحكم كمنجز، وكيف يمكن إنجازه، عدة أحزاب فشلت في ذلك. الأحزاب مؤسسات عَقْدِيّة مبنية على الإنجاز، أحزابنا تفتقر لفكرة التقييم والاعتراف بالخطأ ناهيك عن المحاسبة.
عبد الحميد الجلاصي لـ"الترا تونس": حزب نداء تونس كان فرصة كبيرة بالنسبة للبلد ليصبح ممثل القاعدة الحداثية في مقابل القاعدة المحافظة، لخلق التوازن، لكن للأسف، لم يكن للسبسي أن يكون ديمقراطيًا حقيقيًا
أعتبر أن الجيل الذي أعطته الثورة فرصة الانتقال من الاحتجاج إلى البناء، ومن السرية إلى العلنية، ومن الإيديولوجيا إلى السياسة، ومن الجماعة إلى الحزب، فرّط في هذه الفرصة.
على سبيل المثال، حزب نداء تونس كان فرصة كبيرة بالنسبة للبلد ليصبح ممثل القاعدة الحداثية في مقابل القاعدة المحافظة، لخلق التوازن، لكن للأسف، لم يكن للباجي قائد السبسي أن يكون ديمقراطيًا حقيقيًا.
من ناحية أخرى، التوافق بين الشيخين كان شبيهًا بلعبة "الشيش بيش" (النرد)، حتى التجارب الحديثة كآفاق تونس فوتت فرصة خلق بديل غير معني بالمعارك التاريخية والإيديولوجية، وغرقت في معارك الهوية والإيديولوجيا رغم أنها لم تكن معنية بذلك، أرى أن الفاضل عبد الكافي الآن بصدد استعادة ذلك الخط.
- الكثيرون يعتبرون حركة النهضة حركة غير تونسية، وينتزعون عنها صفة الوطنية، كيف تردون على ذلك؟
كل التنظيمات الوطنية التي قاومت الاستبداد لم تكن تونسية عند نشأتها، وهذا لا يدخل في باب الخيانة أو العمالة.
اليسار كان أمميًّا وإلى حد الآن مازال بعيدًا في أدبياته ومرجعياته عن المزاج الوطني التونسي. القوميون مسألة أخرى موضوعهم يتجاوز الأدبيات لارتباطات وعلاقات مع الأنظمة كالنظام البعثي في العراق، وفي ليبيا سابقًا وبسوريا، كانت السفارات وملحقيها الثقافيين يجوبون البلاد لإقامة شبكات تأطير، هذا موثّق حتى في بعض الكتب.
النهضة في البداية، كانت أكثر أدبياتها مشرقية، لكنها تحولت فيما بعد إلى حركة تونسية، بل إن حركة النهضة في وقت ما بالغت في تونسيتها، حتى أنني أسميتها على سبيل التندّر "حركة ما يطلبه المستمعون، عندكش عندي". الضغط الذي سُلّط على النهضة خلق عندها عقدة اعتراف الآخرين بها، في وقت لم يكن المطلوب أن يعترف بها خصومها ومنافسوها، المطلوب هو التسامح والتعايش فيما بينهم.
عبد الحميد الجلاصي لـ"الترا تونس": حركة النهضة لم تنجح في التخلّص العقلاني من تاريخها، ممارستها السياسية خاصة بعد 2013 بقيت محكومة وسجينة مخاوف التسعينات والأحداث في مصر
- هل كانت حركة النهضة ضحية تجربتها والعقد التي خلّفتها لها؟
نعم، أعتبر أن حركة النهضة لم تنجح في التخلّص العقلاني من تاريخها. في تقديري، الممارسة السياسية لحركة النهضة خاصة بعد 2013 بقيت محكومة وسجينة مخاوف التسعينات والأحداث في مصر، التاريخ الكبير شيء جميل، لكنه قد يتحول إلى حاجز كبير يحول دون التقدم.
- كيف يصف الجلاصي -رجل تنظيم النهضة وأحد المساهمين في بعثها- تجربة الخروج من الحزب؟
مررت بتجربة ثرية في حركة النهضة وفي الساحة الوطنية، سعيد بها، أنا لا أهرب من تاريخي، وأعتقد بكل تواضع أنني الأكثر فهمًا لحركة النهضة على الرغم من أن الكثيرين يعتبرونني "جزارًا" .
تنظيم حركة النهضة تنظيم يجر 20 سنة من المآسي والدمار، كان من الواضح أن ما يسمى بـ"الماكينة" لا يمكن أن يتقدم بنا أكثر، كنت أعي جيدًا وجوبية تطوير هذه "الماكينة"، وكان مخطط تطويرها واضحًا بالنسبة إليّ.
لكن في 2016، وبعد معركة المؤتمر العاشر، غادرتْ المجموعة المُلمّة بالتنظيم واحتياجاته، وأتت أخرى تعاملت مع السابق كأنه لم يوجد، وصار التنظيم بالنسبة إليهم "ماكينة انتخابات".
قرار استقالتي من حركة النهضة كان جاهزًا منذ 2013، فقراءتي وقراءة الأستاذ راشد الغنوشي لمنصب نائب رئيس الحركة مختلفتان، أنا أرى أن نائب رئيس الحركة هو ثاني أقوى شخص في الحزب، وهو يرى أنه يجب أن يكون تابعًا له.
عبد الحميد الجلاصي لـ"الترا تونس": قراءتي وقراءة الغنوشي لمنصب نائب رئيس الحركة مختلفتان، أنا أرى أن نائب رئيس الحركة هو ثاني أقوى شخص في الحزب، وهو يرى أنه يجب أن يكون تابعًا له
حاولت الإصلاح لسنوات، ووضعت عصارة تجربتي في خطة لإنقاذ الحركة خلال المؤتمر العاشر، لكنها جوبهت بالرفض.
بعد مدة انتبهت إلى أن مواصلة المعركة التنظيمية مع تغيير قوانين اللعبة لن يفضي إلى أي شيء، لن يعقد المؤتمر الحادي عشر، ولن يقع أي تداول قيادي، وإن وقع سيكون على شاكلة بوتين/ فيلفيداف، وجدت نفسي أمام خيار التصعيد الذي سيمزّق الحركة أو الاستقالة، فخيرت الاستقالة في 4 مارس/ آذار 2020.
- لماذا لم يلتحق الجلاصي بديلو والمكي في وقت تشير فيه الكواليس إلى توجههم لتكوين حزب مع عدد من المستقيلين من النهضة؟
لا أعتبر وجود كتلة تدعى المستقيلين من النهضة، كل استقالة لها خصوصياتها ودوافعها، ديلو والمكي أصدقائي، لكن أنا استقلت منذ مارس/ آذار 2020 وذلك زمن سياسي، كما أنه من ناحية التموقع بيننا بعض الاختلافات.
أرحّب بكل المبادرات، لكن أريد أخذ الوقت الكافي للتفكير، ولست متأكدًا إن كان التونسيون في حاجة للأحزاب في الوقت الراهن.
- لماذا منعت النهضة التحاق ديلو والمكي بـ"مواطنون ضد الانقلاب"؟
انزعج المكي وديلو من وقوف قيادة النهضة للحيلولة دون التحاقهم بالهيئة التنفيذية لـ"مواطنون ضد الانقلاب"، لكنني أتفهم ذلك، فوجود ديلو والمكي ليس كوجود الحبيب بوعجيلة وجوهر بن مبارك، النهضة متى أرادت استرجاع قواعدها سيكون لها ذلك، لكن وجود المكي وديلو قد يصعّب ذلك، وربما يشتّت قاعدة النهضة، بمجرد الاستقالة من الحزب، يجب تفهّم أنك صرت في منزلة الخصم أو المنافس.
- هل هزم الغنوشي "الماكينة"؟ وماذا بقي من النهضة اليوم؟
لا، الغنوشي لم يهزم "الماكينة" ولم أشعر يومًا أن المعركة شخصية، أعتبر أن الغنوشي هزم تاريخه. الغنوشي رجل التنظيم هزم الغنوشي السياسي والمفكّر، الموضوع كان متعلقًا بطريقة نظر للسلطة لا بالأشخاص.
أعتبر أن النهضة تجربة وثروة وطنية ملك للبلاد، كانت تستحق مآلًا أفضل بكثير مما حصل، روح النهضة انتهت ولن تقدر على تجديد رسالتها.