شهد مسار تكوين الحكومة، خلال الساعات الأخيرة، منعرجًا حادًا بإعلان حركة النهضة، أكبر أحزاب الائتلاف الحكومي المفترض، انسحابها من المشاورات وسحب مرشحيها من التركيبة الحكومية التي كان من المفترض أن يسلمّها إلياس الفخفاخ إلى رئيس الجمهورية مساء السبت، ليدخل مسار الحكومة نفقًا مظلمًا وذلك قبل أيام قليلة من انتهاء الآجل الدستوري لعرض الحكومة على البرلمان، وهو أجل 20 فيفري/شباط (شهر واحد من تاريخ تكليف الفخفاخ في مدة غير قابلة للتمديد).
وقدم مجلس شورى النهضة سببًا وحيدًا معلنًا لقرار الانسحاب وهو "إصرار رئيس الحكومة المكلّف إلياس الفخفاخ على رفض مطلب الحزب بتكوين حكومة وحدة وطنية لا تقصي أحدًا" في إشارة لحزب "قلب تونس" الذي أعلن بدوره، قبيل قرار مجلس الشورى، عدم منحه الثقة لحكومة الفخفاخ.
شهد مسار تكوين الحكومة، خلال الساعات الأخيرة، منعرجًا حادًا بإعلان حركة النهضة، أكبر أحزاب الائتلاف الحكومي المفترض، انسحابها من المشاورات وسحب مرشحيها من التركيبة الحكومية
وبعيد بضع ساعات من قرار النهضة، خرج رئيس الحكومة المكلّف من قصر قرطاج ليعلن أولًا أن حركة النهضة "انسحبت من الحكومة ساعة قبل إعلانها وذلك بسبب عدم تشريك حزب قلب تونس في الائتلاف الحكومي" وهو "خيار يضع البلاد أمام وضعية صعبة"، وليقدم ثانيًا تركيبته الحكومية عارضًا الخلفية الحزبية لكل وزير مقترح فيما بدا تحديًا لقرار النهضة بسحب وزرائها. ولكن ترك فرصة لتوافق أخير بإعلان اتفاقه مع سعيّد على "استغلال ما تبقى من الآجال الدستورية" وذلك للتمعن في الخيارات الدستورية والقانونية والسياسية المتاحة.
اقرأ/ي أيضًا: حكومة إلياس الفخفاخ.. لا يمكن إلا أن تمر!
وإثر ذلك، استقبل سعيّد رئيس المنظمة الشغيلة نورالدين الطبوبي ورئيس منظمة الأعراف سمير ماجول، في لقاء ثلاثي تحوّل إلى رباعي بعيد التحاق الفخفاخ بهم، ونشرت صفحة رئاسة الجمهورية حديث سعيّد الذي ظهر بلهجة حادّة يحذّر أن "المناورات تحت عباءة الدستور لا يمكن أن تمر"، ويضيف أنه "لن نترك تونس تتقاذفها المواقف والمصالح المعلنة والمخفية".
وبدورهما خرج كل من الطبوبي وماجول، رئيسي أهم منظمتين وطنيتين في البلاد، ليتحدثا بلهجة حازمة تجاه حركة النهضة دون تسميتها، إذ تحدث الأول على أن "تونس ليست رهينة لأي حزب سياسي ومقررات مؤسساته"، فيما أكد الثاني أن "المنظمات الوطنية ستقوم بدورها كي لا تبقى تونس في فراغ" مضيفًا أن "تونس أهم من الأحزاب" واستذكر دور المنظمات الوطنية في حل الأزمة السياسية عام 2013.
وقد توجه الطبوبي وماجول معًا، صباح الأحد، لمقابلة رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان راشد الغنوشي، فيما ظهرت وساطة منهما لإيجاد حل لمأزق تشكيل الحكومة قبيل انتهاء الأجل الدستوري.
وتشهد البلاد بذلك، خلال الساعات الأخيرة، أزمة حادة مفتوحة على كل الواجهات والسيناريوهات ومنها بالخصوص سيناريو الانتخابات التشريعية المبكرة، في ظل تبادل الاتهامات بين الفاعلين الحزبيين حول الفشل في تكوين الحكومة، وأمام رأي عام يتزايد غضبًا تجاه الطبقة السياسية بعد نحو 3 أشهر من أول تكليف لتكوين الحكومة خاصة في ظل وضع اقتصادي واجتماعي يزداد صعوبة.
مشكل النهضة.. طبيعة الحكومة أم تركيبها؟
صدّرت حركة النهضة انسحابها من مشاورات تشكيل الحكومة برفض إلياس الفخفاخ تكوين حكومة وحدة وطنية في إشارة لحزب "قلب تونس" (38 نائبًا)، وكان الفخفاخ ضبط منذ تكليفه الحزام السياسي لحكومته على قاعدة الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية، وهو ما اعتبره "قلب تونس" إقصاء للحزب والتفافًا على نتائج الانتخابات التشريعية، كما رفضته حركة النهضة بعنوان ضرورة تكوين حكومة ذات حزام برلماني واسع. وبين الشد والجذب، انعقد لقاء ثلاثي في بداية الأسبوع الثالثة للمشاورات جمع الفخفاخ والغنوشي والقروي، ولحقه في اليوم الموالي لقاء بين الفخفاخ والقروي، فيما بدا التوجه نحو تجاوز للخلاف عبر تسوية تحفظ ماء وجه "قلب تونس" من جهة، مع محافظة الفخفاخ على حزامه السياسي من جهة أخرى.
تصاعد الخلاف طيلة الأيام الأخيرة بين حركة النهضة والفخفاخ بخصوص نقاط منها تحييد وزارات بعينها ومنها بالخصوص وزارة تكنولوجيا الاتصال مع مطالبتها بترفيع عدد تمثيلتها ورفضها لمقترحين في وزارات السيادة
وإثر ذلك، انطلقت المفاوضات الفعلية في علاقة بتركيبة الحكومة وتوزيع الحصص بين 6 أحزاب في نهاية المطاف هي حركة النهضة (54 نائبًا)، والتيار الديمقراطي (22 نائبًا)، وحركة الشعب (15 نائبًا)، وحركة تحيا تونس (14 نائبًا) وحزبي البديل ونداء تونس (6 مقاعد بينهما) وهي تضم جمعًا 111 مقعدًا فيما أعلن ائتلاف الكرامة (20 مقعدًا) أنه غير معني بالحكومة وعدم منحه الثقة لها بسبب تشريك حزب "تحيا تونس" بل وذهب لاعتبار حكومة الفخفاخ ليست امتدادًا لحكومة يوسف الشاهد. كما انسحب الاتحاد الشعبي الجمهوري، المكوّن الأساسي لكتلة "المستقبل" (9 نواب) من المشاورات.
غير أن ما كان يرجح من تسريبات عدا عن تصريحات الفاعلين السياسيين هو الخلاف الحاد في نصيب كل حزب من التركيبة الحكومية، وقد صدّر الفخفاخ توزيعه باعتماد التمثيلية في البرلمان بتفصيل 5 وزارات للنهضة، و3 للتيار الديمقراطي، ووزارتين لكل من حركة الشعب و"تحيا تونس"، ووزارة وحيدة لكل من حزب البديل وحركة نداء تونس.
وتصاعد الخلاف طيلة الأيام الأخيرة بالخصوص بين حركة النهضة والفخفاخ بخصوص 3 نقاط، أولًا خيار رئيس الحكومة المكلف تحييد وزارات بعينها ومنها بالخصوص وزارة تكنولوجيا الاتصال (يشغلها حاليًا أنور معروف عن النهضة) وما اُعتبر بالتتابع استحواذ الفخفاخ على عدد كبير من الوزارات بمنحها لمستقلين على حساب الأحزاب، وثانيًا بخصوص مطالبة النهضة بزيادة عدد وزاراتها تماشيًا مع تمثيلتها البرلمانية، وثالثًا بخصوص رفض بعد وزراء السيادة المقترحين، وذلك عدا عن رفض الفخفاخ توزير المستشار السياسي السابق لرئيس حركة النهضة لطفي زيتون، وجميع هذه الخلافات أدت إلى مناخ من عدم الثقة.
ولكن ظلّ السؤال، هل رفض النهضة بالنهاية المشاركة في الحكومة يتعلق بمبدأ عدم تكوين حكومة "وحدة وطنية" أي عمليًا عدم إشراك "قلب تونس" وضمان دعمه للحكومة أم يتعلق بالخلاف بخصوص تمثيلتها وموقعها داخل الحكومة؟
عرفت الساعات الأخيرة قبل إتمام الفخفاخ لحكومته تعديلات باتجاه منح حركة النهضة حقيبة سادسة للنهضة مع تحويل الحكم المحلي من وزارة مستقلة إلى وزارة دولة
بعيد إعلان شورى النهضة الانسحاب من الحكومة، خرج أمين عام التيار الديمقراطي محمد عبو متحدثًا عن تمسك النهضة بوزارتي الداخلية والمالية في إشارة لرفضها للاسمين المقترحين، فيما تحدث أمين عام حركة الشعب زهير المغزاوي عن تعرض الفخفاخ لـ"ابتزاز" من النهضة.
وقد عرفت الساعات الأخيرة قبل إتمام الفخفاخ لحكومته تعديلات باتجاه منح حركة النهضة حقيبة سادسة للنهضة مع تحويل الحكم المحلي من وزارة مستقلة إلى وزارة دولة مع فصل الحكم المحلي عن البيئة، غير أن الخلاف بالنهاية وعدا عن الاحترازات بخصوص المستقلين في وزارتي الداخلية (هشام المشيشي) والدفاع (عماد الحزقي)، أي عمومًا بخصوص مسألة التركيبة، يتعلّق بمسألتين جوهرتين لحركة النهضة.
اقرأ/ي أيضًا: التونسيّون ولحظة الهروب الجماعيّ من المسؤوليّة
تتمثّل المسألة الأولى في تكوين حكومة بحزام سياسي تراه ضعيفًا في غياب حزب "قلب تونس" الذي يناور بين إعلانه إمكانية منح الثقة للحكومة وعدم ذلك حتى إعلانه مؤخرًا عدم منح الثقة، وذلك عدا عن انسحاب "ائتلاف الكرامة"، ما يجعل الحكومة غير قادرة بنظرها على توفير قاعدة برلمانية وسياسية صلبة للقيام بالإصلاحات المطلوبة. وتربط حركة النهضة الحزام السياسي للحكومة بالاستحقاقات الدستورية في البرلمان بخصوص انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية وبقية الهيئات الدستورية، وهي تعمل على إسقاط الحزام الحكومي على التوافقات البرلمانية في هذه الاستحقاقات، عدا خشيتها من تكوين معارضة قوية في البرلمان تجمع "قلب تونس" مع الدستوري الحر وبعض الأحزاب الأخرى (مشروع تونس بالخصوص).
أما النقطة الثانية وهي الاعتقاد داخل صف واسع من قيادات النهضة بعدم قدرة الحزب على ضمان تأثيره داخل الحكومة باعتباره أن رئيسها مستقل يظهر متبنيًا بل متحالفًا مع رئيس الجمهورية وأن الحزب يملك وزارات خدماتية دون ضمان تأثيره على وزارات السيادة. وتتابعًا بذلك، توجد خشية صريحة، عبر عنها القيادي في النهضة وصهر الغنوشي رفيق عبد السلام، بتكوين "حزب الحكومة" وإعادة سيناريو "الشاهد 2"، وهي قيام "المستقل" الفخفاخ، ومن موقعه في القصبة، بتكوين حزب اجتماعي يقوده مع ثلة من المستقلين وربما بالتحالف/الانصهار مع أحزاب أخرى (التيار/التكتل)، وهو ما يعني انفلات الوضع من حركة النهضة أمام حزب جديد ينافس بقوة من داخل القصبة. وكان قد طالب رئيس شورى النهضة عبد الكريم الهاروني بضرورة أن يكون لحزبه حضور قوي في القصبة من خلال وزراء مستشارين.
تركيبة حكومة الفخفاخ.. نصف حزبية/نصف مستقلة
بالعودة للتركيبة المعلنة من الفخفاخ، فهي تتكون 29 وزيرًا وكاتبي دولة أي 31 عضوًا مقترحًا إجمالًا بتفصيل 15 وزيرًا متحزبًا و16 وزيرًا مستقلًا.
وتوزعت حقائب المتحزبين على حركة النهضة بـ6 وزارات (الصحة والنقل والتعليم العالي والتجهيز والحكم المحلي والشباب والرياضة) والتيار الديمقراطي بـ3 وزارات (الوظيفة العمومية والتربية وأملاك الدولة) وحركة الشعب بوزارتين (التشغيل والتجارة) و"تحيا تونس" بوزارتين أيضًا (الاستثمار الدولي والبيئة) والبديل بوزارة وحيدة (السياحة) ونداء تونس بوزارة وحيدة أيضًا (العلاقة مع البرلمان).
تتكون 29 وزيرًا وكاتبي دولة أي 31 عضوًا مقترحًا إجمالًا بتفصيل 15 وزيرًا متحزبًا و16 وزيرًا مستقلًا مع تحييد وزارات السيادة الأربع ووزارة المالية ووزارة تكنولوجيا الاتصال بالخصوص
في المقابل، سيطر المستقلون على وزارات السيادة الأربع (الداخلية والعدل والخارجية والدفاع) في إطار مبدأ تحييد هذه الوزارات إضافة لوزارة المالية ووزارة تكنولوجيا الاتصال (التي أثارت جدلًا بعد مطالبة النهضة بإبقاء معروف) وعديد الوزارات الخدماتية (الصناعة والفلاحة والطاقة).
غير أن الجدل ظلّ بخصوص المستقلين، الذين يشتركون في عدم التحزب لكن تختلف توجهاتهم السياسية بل أن العديد منهم محسوب على أطراف معينة. فبخصوص وزارات السيادة، عيّن الفخفاخ المستشار القانوني لرئيس الجمهورية هشام المشيشي في وزارة الداخلية، وقد كان سابقًا مدير ديوان وزيرة الصحة في حكومة الصيد 2015، وهو اسم تحترز عليه حركة النهضة.
وفي خانة المستقلين، يوجد اسم منجي مرزوق وزير الطاقة وهو محسوب عن حركة النهضة، وقد كان اسمه متداولًا لتولي رئاسة الحكومة، كما يوجد اسم الحبيب الكشو وزير الشؤون الاجتماعية وهو مقرّب أيضًا من حركة النهضة وقد كان ضمن قائمة الأسماء التي تتداولها مجلس شورى النهضة في التكليف الأول، وهو مدعوم من اتحاد الشغل.
وتضم الحكومة اسم العياشي الهمامي كوزير لحقوق الإنسان والعلاقة مع المجتمع المدني، وهو من قيادات "حركة 18 أكتوبر" زمن الاستبداد، وقد رُشح لعضوية المحكمة الدستورية في الدورة البرلمانية السابقة مدعومًا من أحزاب النهضة والتيار الديمقراطي على وجه الخصوص.
وأبقى الفخفاخ على وزير وحيد من حكومة الشاهد هو وزارة الشؤون الدينية أحمد عظوم، وظلت في المقابل شبهات التطبيع مع الكيان الصهيوني تلاحق الحكومة في شخص وزيرة الثقافة شيراز العتيري.
السيناريوهات الممكنة
تنتهي الآجال الدستورية لعرض الحكومة المقترحة الثقة في البرلمان يوم 20 فيفري/شباط المقبل، لتظلّ الأيام القليلة المتبقية حاسمة إما بإحياء فرصة الفخفاخ في تحصيل الأغلبية البرلمانية، وإما عكس ذلك وبالتالي فتح الباب أمام انتخابات تشريعية مبكرة أكدت حركة النهضة على أتم الاستعداد لخوضها.
تنتهي الآجال الدستورية لعرض الحكومة المقترحة الثقة في البرلمان يوم 20 فيفري/شباط المقبل، لتظلّ الأيام القليلة المتبقية حاسمة إما بإحياء فرصة الفخفاخ في تحصيل الأغلبية البرلمانية وإما عكس ذلك
ويقتضي سيناريو تراجع النهضة عن قرار عدم المشاركة في الحكومة، التوصل إلى توافق لكن يظل السؤال إن ما كان يتعلق بطبيعة الحكومة بذاتها أي عمليًا إشراك "قلب تونس" سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة، أو بتركيبة الحكومة ذاتها أي توسيع مشاركة النهضة بخصوص عدد الحقائب ونوعيتها ولكن بالخصوص في علاقة بموافقتها على وزراء السيادة.
والمأزق بالنسبة للفخفاخ أن الأمر لا يتعلق بمفاوضات ثنائية مع حركة النهضة، إذ يستلزم أي "تنازل" موافقة بقية أحزاب الحزام السياسي والحديث بالخصوص عن حزبي التيار الديمقراطي وحركة الشعب.
أما حال المضي في عدم مشاركة النهضة في الحكومة وعدم منحها الثقة وبالتالي إسقاط الحكومة، يُفتح الباب أمام رئيس الجمهورية للدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة، ولكن تأتي ملاحظتان جوهريتان في علاقة بهذا التوجه.
أولًا الأمر يتعلق بامتياز لرئيس الجمهورية لحل البرلمان وليس بإلزام دستوري، وثانيًا يتوقف انطلاق سريان هذا الحق بمرور 4 أشهر على التكليف الأول (15 نوفمبر/تشرين الثاني 2019) أي انطلاقًا من منتصف مارس/آذار، وبالتالي يوجد فراغ زمني بين آخر أجل لمنح الثقة لحكومة الفخفاخ (20 فيفري/شباط 2020) ومنتصف مارس مدته 25 يومًا، وخلاله قد يُفتح الباب للاجتهادات وإمكانية تكليف سعيّد لشخصية ثالثة لتكوين الحكومة، بل يذهب البعض لإمكانية سحب البرلمان الثقة من حكومة الشاهد وتقديمه لشخصية أخرى، وذلك في حمى تأويلات دستورية حذر منها سعيّد بقوله إن "المناورات تحت عباءة الدستور لا يمكن أن تمرّ".
اقرأ/ي أيضًا: