13-يناير-2020

حكومة الرئيس قد تكون محطّة الهروب الجماعيّ من المسؤوليّة

 

في كتابه حول الشّخصيّة التونسيّة، يشير المنصف ونّاس إلى خاصّية التهرّب والهروب من المواجهة في الشخصيّة القاعديّة التونسيّة، وهو ما يُطلق عليه النّزعة الالتفافيّة لدى التونسيّين. وبمعزل عن النّقد المُوجّه لهذا الكتاب داخل أسوار الجامعة وخارجها، فإنّ الأحداث السياسية المتسارعة منذ الانتخابات الرئاسيّة والبرلمانيّة ومسار النّقاشات حول تشكيل الحكومة وتفاعل المسؤولين مع السياق الإقليميّ والدوليّ المتأزّم، لا يمكن توصيفه إلاّ بحالة من الالتفاف الجماعيّ على المسؤوليّة والهروب الدّائم إلى الأمام.

وحالة الهروب هذه لا تقتصر على بُعد سياسيّ واحد، إذ يبدأ الأمر بفكرة تكليف شخصيّة لا يكاد يعرفها أحد بتشكيل الحكومة ولا ينتهي عند تهرّب تونس من كلّ موقف أو توضيح رؤية بخصوص ليبيا أو قضايا المنطقة والإقليم بصفة عامّة.

في اللّحظة التي تُجمع فيها الطّبقة السياسيّة على ضرورة أن تكون الشخصيّة المكلّفة برئاسة الحكومة مستقلّة دون توضيح المطلوب من هذه الاستقلاليّة، يبدأ التساؤل العميق عن المغزى من وجود أحزاب سياسيّة في تونس جملة وتفصيلًا

اقرأ/ي أيضًا: اغتيال قاسم سليماني والمشهد السياسي التونسي.. أي تفاعل؟

وحالة التهرّب هذه ليست مسؤوليّة حزب أو طرف واحد، وإنّما يشترك فيها الجميع، ربّما بما يضمن هروبًا أكثر سلاسة. ففي اللّحظة التي تُجمع فيها الطّبقة السياسيّة على ضرورة أن تكون الشخصيّة المكلّفة برئاسة الحكومة مستقلّة دون توضيح المطلوب من هذه الاستقلاليّة، يبدأ التساؤل العميق عن المغزى من وجود أحزاب سياسيّة في تونس جملة وتفصيلًا.

وعلى وجه الدقّة، فإنّ تكليف شخصيّة مستقلّة برئاسة الحكومة ضمن إجماع وطنيّ أو تحالف حزبيّ واسع قد يكون مقبولًا في حال تمّ الاتّفاق الاستثنائيّ بين مجموعة من الأحزاب على برنامج سياسيّ غير شعبيّ، لا تتمكّن الأحزاب من تنفيذه بسبب علاقتها المعقّدة بالضغط الشعبيّ المُجتمعيّ. وهو ما يعني وخلافًا للسّائد، أنّ حكومات المستقلّين هي حكومات برنامج سياسيّ بامتياز تُكلّف بتنفيذه في أجل زمنيّ مُحدّد، وفي إطار عقد تتمتّع بمقتضاه بدعم الأحزاب بسبب إكراهات ظرف استثنائيّ.

وفي الحالة التونسيّة، فإنّ ذلك لا يستقيم إلاّ في حال الاتّفاق على برنامج مؤلم وغير شعبيّ يتمّ بمقتضاه اتّخاذ قرارات حاسمة في التّعاطي مع خصخصة الشركات العمومية والحدّ من سياسات التبذير في الدعم والتغطية الاجتماعيّة وجرايات التقاعد، أي عمليًّا ما يوصي به صندوق النقد الدولي من إصلاحات وما تجمع الطبقة السياسية على تجاهله والنأي بنفسها عن رفضه أو قبوله بشجاعة.

ومع فشل الشخصيّة المكلّفة، الحبيب الجملي، في امتحان الثقة والتكليف في البرلمان التونسيّ تنتقل اللعبة إلى الرئيس ولكن بذات القواعد وربّما بتهرّب أكبر. فمن ناحية تتحدّث الأحزاب عن حكومة الرئيس، موحية للرأي العامّ بكون الاختيار قد خرج من دائرة قرارها، ومن ناحية ثانية تحرص الدوائر المقربة من الرئيس، رغم خفوت صوتها، على التذكير بأنّ الدستور لا يتحدّث عن حكومة الرئيس وإنّما عن دوره في تكليف الشخصيّة الأقدر أي تلك التي تتمتّع بأكبر الحظوظ في تجميع الأغلبيّة المطلوبة لنيل الثقة.

تحرص الدوائر المقربة من الرئيس، رغم خفوت صوتها، على التذكير بأنّ الدستور لا يتحدّث عن حكومة الرئيس وإنّما عن دوره في تكليف الشخصيّة الأقدر

على أنّ الحقيقة تكمن في أنّ المسؤولية السياسيّة في تشكيل الحكومة مزدوجة: فمن ناحية سيتعيّن على رئيس الجمهوريّة لعب دور سياسيّ بامتياز يتمثّل في الإشراف على تشكيل تحالف بين الأحزاب الممَثّلة في البرلمان واتّفاقها على شخصيّة يتمّ تكليفها برئاسة الحكومة، ومن ناحية ثانية سيتعيّن على الأحزاب أن تتفاعل سياسيًّا وبتقديم أسماء إلى الرئيس قصد تسهيل مهمّته أو مواجهة مصير حلّ البرلمان وإعادة الانتخابات.

إنّ هذه المسؤوليّة السياسيّة المشتركة بين كلّ الأحزاب بإشراف الرئيس وقيادته لا يمكن ولا يصحّ أن تقتصر على الأسماء وذلك الفهم السّخيف والرائج تونسيًّا باعتبار السياسة حربًا حول التموقع داخل الدولة ومؤسّساتها المتنفّذة. وبهذا المعنى فقد آن الأوان لتفتح النّخب السياسيّة نقاشًا شجاعًا وصريحًا حول ما الذي يجب فعله؟ ماهي الأولويّات؟ ما هي الخيارات؟ ومن يتّفق أو يختلف حول خيار أو أكثر من الخيارات المُتاحة؟

اقرأ/ي أيضًا: قراءة في حكومة الجملي المقترحة في تونس.. تحدّي نيل ثقة البرلمان

على أنّ المؤشّرات لا تبدو مشجّعة بخصوص فتح هذا النّقاش السياسيّ المطلوب بخصوص تشكيل الحكومة وبصفة أعمّ الوجهة السياسيّة المنشودة للسنوات الخمس المقبلة. فمن ناحية يتبنّى رئيس الجمهوريّة رؤية هي أشبه بالصّيام عن كلّ موقف أو توجّه أو سياسة لصالح تصوّر مثاليّ حول إرادة شعبيّة ستقرّر الأصلح بالضرورة إن هي مُكّنت من ذلك عبر آليّات تمثيليّة أكثر فاعليّة.

ومن ناحية ثانية، لا يكاد الخطاب الحزبيّ في تونس ودون استثناء يُفصح عن توجّه ذي مغزى بخصوص التحدّيات الكبرى التي تواجه البلاد: ما هو الموقف من الإصلاحات الكبرى والتي أدّى التّعثّر فيها إلى تأجيل القسط الأخير من قرض صندوق النّقد الدّولي؟ هل ثمّة أصلًا فهم لمعنى الإصلاحات الكبرى يستجيب لشروط الدّقّة والتّفصيل خارج بعض الجمل الرنّانة على غرار توجيه الدّعم لمُستحقّيه؟ ماذا عن تحديد المستحقّين وبياناتهم وكلفة دعمهم مباشرة؟ ولتبيان التعقيد الذي يكمن وراء إعلان النوايا هذا، تكفي الإشارة إلى أنّ جلّ كبار المهرّبين وأثرياء التجارة غير القانونيّة كثيرًا ما تفيد بياناتهم الجبائية والاجتماعيّة الرسميّة بأنّهم من المعوزين.

آن الأوان لتفتح النّخب السياسيّة نقاشًا شجاعًا وصريحًا حول ما الذي يجب فعله؟ ماهي الأولويّات؟ ما هي الخيارات؟ ومن يتّفق أو يختلف حول خيار أو أكثر من الخيارات المُتاحة؟

يختلف التونسيّون في المواقف وتحتدّ اختلافاتهم أحيانًا، ولكنّهم يتوافقون على التهرّب من المسؤوليّة والاقتصار في ممارسة السّياسة على إعلان النوايا والرؤى العامّة الضبابيّة والمعارك الصّغيرة بهدف التموقع داخل مؤسّسات دولة متضخّمة، مريضة ومتهالكة.

لم تحظ حكومة الحبيب الجملي بالثقة المطلوبة ويأمل المتفائلون في أنّ ما هو آت قد يكون أكثر متانة. ولكنّ الأرجح هو أنّ تغيير الشخص والتركيبة لن يكون ذا أثر يُذكر على البيان الحكوميّ: إعلان نوايا حسنة للجميع دون أيّ تدقيق لأيّ توجه أو تحديد لأيّ موقف قابل للتقييم أو تحمّل المسؤوليّة. وبهذا المعنى فإنّ حكومة الرئيس قد تكون محطّة الهروب الجماعيّ من المسؤوليّة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الأحزاب التونسية والأزمة الليبية.. اختلافات حد التناقض

السياحة الحزبية.. مواقف حربائيّة وقنّاصة جدد