تتزين سهول بني حازم في مكثر بولاية سليانة باللون الأحمر لـ"حب الملوك" منذ شهر أفريل/ نيسان وإلى أواخر شهر جوان/ يونيو. إذ يزرع أغلب أصحاب الأراضي هناك أشجاره لا سيما في المناطق الجبلية ذات التربة الرملية، نظرًا لتميُّز تلك الجهة بطقس بارد يُلائم زراعة تلك الثمار. وتشتهر الكثير من المناطق في سليانة بإنتاج أجود الأنواع من "حب الملوك"، مما جعل تلك الولاية تعدّ المنتج الأول لتلك الثمار في كامل الجمهورية.
وكأنها عقد من الياقوت الأحمر فاقع الحمرة، تتدلى ثمار "حب الملوك" لتنحني الأغصان من ثقلها على الأرض. وبين أيادي النسوة البسطاء، تُقطف بعناية فائقة منذ الخامسة فجرًا وحتى ساعات ما بعد الظهيرة.
تشتهر الكثير من المناطق في سليانة بإنتاج أجود الأنواع من "حب الملوك"، مما جعل تلك الولاية تعدّ المنتج الأول لتلك الثمار في كامل الجمهورية
عند الدخول إلى إحدى تلك الضيعات، تجد النسوة وقد اجتمعن تحت شجرة واحدة يقطفن منها ما نضُج. فيما تفترش بعضهنّ الأرض محتميات بظلال شجرة تُمثّل لهنّ الظل والجنّة ومورد الرزق حتى وإن كان الأمر وقتيًا، فيما تُمثل لأصحابها ثروة تدرّ عليهم المال الوفير. منحنيات منكبات، يلتقطن ما وقع من الثمار على الأرض، لتقوم بعضهن بفرز الحبات فاقعة الحمرة عن تلك الصفراء التي ماتزال تتحسس اللون الأحمر على قشرتها الناعمة. وتفرز الأخريات الحبات الصغيرة عن أكبرها حجمًا، لتُرصّف كلّ على حدة في الصناديق الموجهة للبيع.
يقمن بالعمل ذاته يوميًا منذ انطلاق موسم جني ثمار "حب الملوك" أواخر شهر ماي/ آيار ليتواصل إلى نهاية شهر جوان/ يونيو. موسم قصير لكنّه يخلق مورد رزق لعشرات من النسوة في تلك الجهة. ويدر أموالًا كثيرة على أصحاب تلك الأراضي نظرًا لارتفاع سعر تلك الثمار. تقول فاطمة إحدى العاملات بالضيعة لـ"الترا تونس" إنّهن يعملن منذ ساعات الفجر الأولى، يجمعن الثمار برفق حتى لا تُتلف الأغصان، ويقمن بفرزها حسب لونها وحجمها ودرجة نضجها. ليتقاضين في اليوم الواحد مقابل العمل 9 ساعات أجرة لا تتعدى الـ7 دينارات أي سعر الكيلوغرام الواحد من تلك الثمار.
فاطمة (إحدى العاملات بضيعة جني ثمار "حب الملوك") لـ"الترا تونس": نتقاضى في اليوم الواحد مقابل العمل 9 ساعات، أجرة لا تتعدى الـ7 دينارات أي سعر الكيلوغرام الواحد من تلك الثمار
ولا نجد ثمار حبّ الملوك، تلك الثمار النادرة سوى في بعض الجهات التونسية على غرار سليانة والكاف وباجة. وتحتل ولاية سليانة المرتبة الأولى من حيث الإنتاج. وتنتمي هذه الشجرة إلى فصيلة اللوزيات لتسمى في بعض المناطق بحب الملوك على غرار تونس والمغرب والجزائر فيما تسمى غالبًا بخوخ الدب أو الكرز في دول الشرق. وتسمى بالفرنسية "cerise" التي تنحدر من الكلمة اللاتينية "cerasum".
اقرأ/ي أيضًا: عمل المرأة الريفية في تونس.. بين مطرقة الحاجة وسندان الاستعباد
وتعدّ هذه الثمار من الثمار النادرة التي لا تتوفر بكميات كبيرة على غرار بقية أنواع الغلال التي تُنتج في تونس. ربّما لأنّها تحتاج إلى مناخ معيّن وإلى تربة غير موجودة في كلّ المناطق التونسية. أو لأنّها تحتاج إلى طريقة معيّنة لغراستها والعناية بها وحتى في طريقة جمع ثمارها. لذا فإنّ أسعارها تفوق أسعار غيرها من الغلال في تونس. إذ يصل سعر الكيلوغرام الواحد من بعض أنواعها قرابة الـ30 دينارًا. لذا لا تدخل تلك الثمار غالبًا بيوت البسطاء والمحتاجين. وربّما لذلك السبب سُميت بـ"حب الملوك". لأنّ عديد الروايات تُحكى حول تلك التسمية. فقد ذهب أغلب الظنّ إلى أنّها ثمار كانت تقتصر على موائد الأثرياء والملوك لأنّها نادرة وباهظة الثمن مقارنة ببعض الثمار الأخرى.
رفيقة (52 سنة) إحدى العاملات في جني ثمار "حب الملوك" لـ"الترا تونس": نعمل في قطف هذه الثمار لكن لا نقدر على شرائها.. إنه عمل موسمي ولكنه متعب أكثر من جني أي ثمار أخرى لأنّه يتم بطريقة خاصة جدًا
تقول رفيقة (52 سنة) إحدى العاملات في جني "حب الملوك" إنّ "أغلب النسوة هناك يعملن في جمعها لكن غير قادرات على شرائها نظرًا لارتفاع سعرها. إذ يُباع الكيلوغرام الواحد من بعض أنواعها بـ8 دينارات، أي أجرة يوم من العمل، فيما يفوق سعر بعضها الـ20 دينارًا". مضيفة "العمل في قطف تلك الثمار عمل موسمي ولكنه متعب أكثر من جني أي ثمار أخرى لأنّه يتم بطريقة خاصة جدًا، إذ يقع قطف الحبة من الثمار برفق حتى لا تُتلف بقية الثمار التي لم تنضج بعد، ولا تتسبب في وقوعها من الأغصان. كما يجب ألا نقوم بإيذاء براعم الأغصان لتكون قادرة على الإنتاج من جديد. وهي طريقة تعلمناها من أصحاب تلك الضيعات".
أغلب أصحاب الأراضي هناك ورثوا ضيعاتهم عن أجدادهم. ولم تكن زراعة تلك الأشجار منتشرة كما اليوم. ويقول ربيع أحد أصحاب ضيعة "حب الملوك" لـ"الترا تونس" إنّ "جني حب الملوك يحتاج بين 5 و7 سنوات بعد زراعة الشجرة. وباتت من المشاريع الفلاحية الناجحة في الجهة نظرًا لطبيعة المناخ الملائم لمثل هذه الأشجار. إضافة إلى تدرب أصحاب الأراضي هنا على كيفية العناية بالشجرة عبر رشها مرتين سنويًا ببعض الأدوية الخاصة لحمايتها من جميع الأمراض ومن العوامل المناخية المفاجئة".
اقرأ/ي أيضًا: "رجال الكبّار" في تونس.. رحلة الآلام لقطف ثمار النبتة الجبلية
وأضاف أنّ "جمع حب الملوك ينطلق منذ بداية شهر ماي/ آيار إلى نهاية شهر جوان/ يونيو. ويقطف كلّ نوع منها في وقت معيّن، فبعض الأنواع لا يقع الانطلاق في جمعها إلى أواخر شهر جوان/ يونيو لأنّها تنضج بصفة متأخرة عن تلك التي جُمعت في شهر ماي/ آيار. وبعض تلك الثمار تشبه شكل المشمش فيما تشبه ثمار أخرى شكل القلب وبعضها تكون ذات قشرة سميكة وذات مذاق حلو للغاية، فيما تتميز بعض الأنواع الأخرى بقشرة رقيقة ويميل طعمها للحموضة. وتختلف ألوانها حسب النوع بين الأحمر الفاقع واللون الأصفر الذي يميل إلى بعض الحمرة".
ربيع صاحب ضيعة "حب الملوك" لـ"الترا تونس": تتم عملية القطف ضرورة باليد دون استعمال أي أدوات أخرى. ويقع جمعها حبة بحبّة حتى لا يقع إتلاف البراعم الرقيقة كي لا تموت الأغصان وتستطيع الإنتاج في العام الموالي
ويشير ربيع إلى أنّ "عملية القطف تختلف عن أي نوع آخر من الثمار. إذ تتم ضرورة باليد دون استعمال أي أدوات أخرى. ويقع جمعها حبة بحبّة حتى لا يقع إتلاف البراعم الرقيقة كي لا تموت الأغصان وتستطيع الإنتاج في العام الموالي. على أن يقع يجمع فقط الحبات الناضجة والتي يجب أن تتوجه مباشرة إلى السوق حتى لا تذبل ويتغيّر شكلها وطعمها".
وطيلة شهرين تقريبًا تتزين أغلب المسالك الفلاحية والطرقات المؤدية إلى ولاية سليانة بذلك اللون الأحمر. ولا ترى غالبًا إلا بعض أصحاب السيارات المارة بالطريق يقتنون تلك الثمار التي يبيعها أبناء الجهة مباشرة إلى المستهلك. فيما يقام سنويًا وبداية من كل شهر جوان/ يونيو، مهرجان كبير لحبّ الملوك، الذي يشهد توافد العديد من الزوار من كلّ جهة لاقتناء تلك الثمار النادرة. لكن بسبب الوضع الوبائي اكتفت جمعية صيانة مدينة مكثر بعرضه افتراضيًا.
جني ثمار "حب الملوك" وإن كان موسميًا، فإنه يُدخل الحركية المطلوبة في بعض الجهات التي تزرع هذه الفاكهة، فتتقاضى الفلاحات ما لا يغطّي تعبهنّ، لكنهنّ مع ذلك، سينتظرن بفارغ الصبر موسم الجني القادم، كي يقطفن بعناء ثمار الأغنياء، وهنّ الكادحات من الفقراء.
اقرأ/ي أيضًا: