توجّهت في إحدى المناسبات بالسؤال إلى سيناريست السلسلة الشهيرة "شوفلي حل" حاتم بالحاج حول سبب استمرار نسب المشاهدة عالية لهذه السلسلة التي لا تزال تبثها لليوم القناة الوطنية، فأجاب "لأنها ارتبطت في مخيلة التونسيين بفترة عاشت فيها تونس رخاءً اقتصاديًا واستقرارًا اجتماعيًا مقارنة بما تعيشه تونس اليوم". وهو رأي يصادق عليه الكثير من التونسيين الذين استجوبناهم بمناسبة إعداد هذا التقرير.
يشهد شهر رمضان ارتفاعًا كبيرًا في معدّل الاستهلاك لدى العائلات التونسية بالتوازي مع ارتفاع التبذير واللجوء إلى التداين الأسري
تعتبر، في الأثناء، شريحة واسعة من التونسيين أن شهر رمضان فقد "بركته" المعهودة في ظل ارتفاع الأسعار وانهيار القدرة الشرائية بسبب غياب الإرادة الجديّة في مكافحة التهريب والاحتكار وفق مراقبين، بيد أن المعهد الوطني للاستهلاك يبيّن أنه عدا مسؤولية الحكومة في ارتفاع بعض الأسعار في الأسواق، يتحمل المواطن جزءًا من المسؤولية بحكم الغياب الكلي للثقافة الاستهلاكية.
إذ كشف المعهد، في أرقام نشرها في شهر ماي/آيار 2019، ارتفاع نسبة الاستهلاك لدى التونسي بنسبة 34 بالمائة خلال شهر رمضان، وهو ما يقترن أيضًا بارتفاع أرقام التبذير الغذائي على غرار أن ثلث ما يُطهى في شهر رمضان يُلقى في المزابل، إضافة لإلقاء 900 ألف خبزة يوميًا في القمامة كذلك. وهو ما يبيّن وجود خلل في العادات الاستهلاكية لدى العائلة التونسية.
اقرأ/ي أيضًا: ثقافة المقاطعة لدى التونسي.. هل غلبتها ثقافة الاستهلاك؟
تخمة الاستهلاك.. تبذير وتداين أسري
خيري بن أحمد، أستاذ تعليم ثانوي متزوج وله طفلان، يقول إنه من أصعب الأشياء التي يواجهها هي عقلنة استهلاك أسرته في شهر رمضان "تصبح الغلال مثلًا عنصرًا رئيسيًا يجب اقتناؤها يوميًا وكذلك المشروبات الغازية ولا أنكر أن نصف ما نطبخه يجد طريقه للقمامة في آخر الليل".
يرى خيري، في حديثه لـ"ألترا تونس"، أن عقلنة الاستهلاك يجب أن تكون ثقافة قبل أن تكون استراتيجية يطبقها المستهلك التونسي مبينًا: "أدخل أحيانًا إلى أحد المحلات التجارية لاقتناء شيء معين ولكن أجدني أنفق كثيرًا من الأموال في أشياء لا أعرف لماذا أشتريها". يعترف محدثنا، في نفس الوقت، أن قدرته الشرائية قد تراجعت طيلة السنوات الأخيرة وهو ما يعزيه إلى سببين اثنين هما غياب الثقافة الاستهلاكية ومحدودية أداء الحكومة لمواجهة ارتفاع الأسعار.
خيري بن أحمد (أستاذ تعليم ثانوي): أدخل أحيانًا إلى أحد المحلات التجارية لاقتناء شيء معين ولكن أجدني أنفق كثيرًا من الأموال في أشياء لا أعرف لماذا أشتريها
قبل بداية شهر رمضان، انتشرت صور على مواقع التواصل الاجتماعي تبين طوابير طويلة تعكس تهافت أعداد كبيرة من التونسيين على الشراء في المساحات التجارية الكبرى. وقد انتقد نشطاء على مواقع التواصل هذا السلوك الاستهلاكي فيما علق البعض على هذه الصور متسائلًا "ألم يكن التونسيون يعانون من ارتفاع الأسعار فما بالهم يتكالبون اليوم على الشراء بهذه الطريقة؟".
منيرة، سيدة متزوجة، تعمل في أحد المصانع بالمنطقة الصناعية قصر سعيد، تقول إن مداخيل أسرتها نظريًا لا تكفي لمصاريف 5 أشخاص لكن بفضل التخطيط الجيد أصبحت قادرة على العيش في مستوى جيد بأقل مصاريف. تحدثنا قائلة: "تعيش أسرتي بحجم إمكانياتها وليست ضرورة حياتية إن لم نستطع شراء بعض الحاجيات. نعيش بعض الصعوبات المالية ولكن نتجاوزها بسرعة كما أننا نشرك أبناءنا في القرارات المالية وهو ما خلق نوعًا من التوازن وجنبنا التذمر".
تراجعت، في الأثناء، نسبة التضخم في شهر أفريل/نيسان 2019، وفق المعهد الوطني للإحصاء، لتصل إلى نسبة 6.9 في المائة وهو تراجع ملحوظ ولكنه لن يؤثر في تحسين القدرة الشرائية بسبب ارتفاع الاستهلاك في شهر رمضان. فوفق المعهد الوطني للاستهلاك، كان من المنتظر على ضوء تراجع القدرة الشرائية أن تتراجع نسبة الاستهلاك غير أنها ارتفعت في شهر رمضان بنسبة 34 في المائة مقارنة ببقية أشهر السنة وهو ما يؤدي بدوره إلى ارتفاع التداين الأسري.
منيرة (متزوجة): نعيش بعض الصعوبات ولكن نتجاوزها بسرعة ونشرك أبناءنا في القرارات المالية وهو ما خلق نوعًا من التوازن وجنبنا التذمر
اقرأ/ي أيضًا: تونس: بين التهاب الأسعار واضطراب مسالك التزود والتزويد
في هذا الجانب، كشف بحث ميداني منجز في ديسمبر/كانون الأول 2018 أن حوالي 1.8 مليون أسرة تونسية، من مجموع 2.8 مليون أسرة مكونة في المعدل من 4 أفراد، لا يمكنها الاستغناء عن التداين بجميع أنواعه ولا يمكنها أن تعيش من دون التداين بسبب ظروفها الصعبة. وأظهر البحث الذي أنجزه المعهد الوطني للاستهلاك على عينة تمثيلية تتكون من 3015 رب أسرة أن 27 في المائة من الأسر التونسية أي حوالي 757 ألف أسرة يعتبرون أن التداين هو ضرورة يمليها ضعف القدرة الشرائية و27 في المائة يرون أيضًا أن التداين هو ورطة يصعب الخروج منها، فيما تعتقد 20 في المائة من العينة المستجوبة أن التداين يمثل حلًا لتحسين ظروف العيش.
أنواع الديون لدى الأسر التونسية
مدير المعهد الوطني للاستهلاك: التونسي غير مستعدّ لتغيير نمط الاستهلاك
في تفسيره للظاهرة، يقول مدير المعهد الوطني للاستهلاك طارق بن جازية لـ"ألترا تونس" أن البعد الاجتماعي للسلوك الاستهلاكي للتونسي يؤكد أن هناك نمط استهلاك يريد التونسي المحافظة عليه وليس مستعدًا لتغييره، مشيرًا إلى أن أجواء شهر رمضان تضع المستهلك التونسي في جو استهلاكي تام من خلال الإشهارات التلفزية والبرامج وحجم المعروض في الأسواق.
ويضيف محدثنا، من جهة ثانية، إلى وجود بعد نفسي للاستهلاك إذ يرى أن التونسيين يعيشون منذ سنوات أوضاعًا اجتماعية وسياسية واقتصادية صعبة وعليه يبقى المتنفس الوحيد هو الاستهلاك و"كأنه عملية تصعيد بالنسبة للتونسي من أجل الشعور بأنه لا يزال قادرًا على الحياة والاستهلاك".
طارق بن جازية (مدير المعهد الوطني للاستهلاك): أجواء شهر رمضان تضع المستهلك التونسي في جو استهلاكي تام من خلال الإشهارات التلفزية والبرامج وحجم المعروض في الأسواق
ويقسّم بن جازية المستهلك التونسي إلى ثلاثة أنواع أولهم "الانتحاري" ويتميز هذا الصنف، وفق تعبيره، بالانفلات في الإنفاق حيث أثبتت الدراسات أن 7 من 10 تونسيين يقتنون أشياء لم تكن مبرمجة ضمن قائمة حاجياتهم، كما يوجد المستهلك "العقلاني" أي الذي يعقلن استهلاكه من خلال التخطيط بإستعمال الورقة والقلم وأخيرًا يأتي المستهلك "الضحية" الذي لا يستطيع مجاراة نسق الاستهلاك الجماعي وفق تعبير محدثنا.
من جهته، يرى الصحفي المختص في الشأن الاقتصادي محمد الشهباني في تصريح لـ"ألترا تونس" أنه لا يمكن إلقاء اللوم فقط على المستهلك معتبرًا ما يحدث سياسة دولة، وفق قوله. وأشار إلى أن الحكومة وبعض الخبراء الاقتصاديين شجعوا التونسي على الاستهلاك بدعوى أن الاستهلاك يعتبر محركًا للاقتصاد "ولكنهم تناسوا أن هذا المحرك يتطلب مردودية في العمل لغاية خلق الثروة".
كما أشار الشهباني إلى دور البنوك التي أكد أنها تخلت عن دورها في تمويل الاقتصاد والمخاطرة خاصة مع الباعثين الشبان وذلك من خلال بحثها عن الأرباح السهلة عبر تشجيع المواطنين على القروض الاستهلاكية "فلا تكاد تجد موظفًا في القطاع العام أو القطاع الخاص من دون قرض استهلاكي".
طارق بن جازية (مدير المعهد الوطني للاستهلاك): يجب على الأسر العودة إلى عادة الورقة والقلم التي تضفي نوعًا من العقلانية على الاستهلاك
بن جازية، مدير المعهد الوطني للاستهلاك، يؤكد من جهته على وضع مقاربة علمية من أجل ترشيد الاستهلاك وتبيّن مخاطر المواصلة في نفس السلوك الاستهلاكي قائلًا: "يجب على الأسر التونسية العودة إلى عادة الورقة والقلم التي تضفي نوعًا من العقلانية على الاستهلاك، كما يجب تشريك الأطفال في القرارات المالية للأسر".
اقرأ/ي أيضًا: