13-مايو-2023
معبد الغريبة جربة

هناك تخوف من توظيف أجنبي للخلل الداخلي الأمني الواضح (صورة نيكولا فوكي/Getty)

مقال رأي

 

 

لا يمكن الحديث عن هجوم الغريبة من زاوية واحدة. يفرض علينا المكان والزمان والهدف و"المعتدي" (كما سمته الداخلية التونسية) والمعتدى عليهم والتأطير السياسي والإعلامي اللاحقين، يفرض علينا كل ذلك الإقرار بأننا لسنا إزاء حدث بوجه واحد. ما هي الخلفيات والتداعيات المركبة للاعتداء الإرهابي في الغريبة؟

عملية الغريبة هي عمل إرهابي لعاملين: الأول أنه تم إطلاق نار عشوائي على أمنيين ومدنيين معًا الهدف منه إحداث أكثر ما أمكن من الإصابات ومن ثمة أكبر أثر إعلامي ودعائي والثاني أننا إزاء هدف ديني يحمل طابعًا سياسيًا خاصة في سياق موسم الحج اليهودي

لننطلق أولًا من نقطة أساسية لما هو اعتداء إرهابي حتى إن لم نعلم بعد بدقة خلفية من قام بالهجوم؟ لدينا هنا عنصرين أساسيين لتعريف ما حصل بأنه إرهاب. الأول أنه تم إطلاق نار عشوائي على أمنيين ومدنيين معًا الهدف منه إحداث أكثر ما أمكن من الإصابات ومن ثمة أكبر أثر إعلامي ودعائي ممكن. والثاني أننا إزاء هدف ديني وهو معبد الغريبة لكن يحمل طابعًا سياسيًا خاصة في سياق موسم الحج اليهودي. بسبب هذين العاملين نحن إزاء عمل إرهابي.

ههو عمل إرهابي وليس مجرد جريمة. لماذا إذًا يصر الرئيس التونسي وبقية من تكلموا باسم الدولة سواء الداخلية أو الخارجية التونسية على أنه فقط "جريمة" لا ترتقي لوصفها بأن تكون "جريمة إرهابية" تحديدًا؟

هو عمل إرهابي وليس مجرد جريمة، لماذا إذًا يصر الرئيس التونسي على أنه فقط "جريمة" لا ترتقي لوصفها بأن تكون "جريمة إرهابية" تحديدًا؟

هنا نحن إزاء على الأرجح ثلاثة عوامل أساسية.

الأول يخص النظرة الأصلية للرئيس لموضوع الإرهاب السابقة لتقلده الرئاسة. وكما هو الحال في نقاط أخرى فإن قيس سعيّد متمسك بنقاط ومبادئ  أساسية، نتفق أو نختلف حولها، لكن يتميز هو بالإصرار على التمسك بها.

نعود هنا مثلاً إلى حوار أجرته معه جريدة "الجمهورية" في جويلية/يوليو 2014، ومن بين الأسئلة "أصبحنا نعيش اليوم تحت التهديد بعد تغلغل الإرهاب وانتشاره بالبلاد، ماذا تقول في هذا الشأن؟

وكانت إجابة سعيّد حينها كالتالي: "هناك التهديد ولا أحد يشكّ في ذلك، هناك وضع إقليمي متفجّر وهناك أكثر من كل ذلك مؤامرة تستهدف الدول في وجودها، المُؤامرة تستهدف القضاء على المرافق العمومية للدولة بتفجيرها من الداخل وهذا هو الخطر الأكبر.. الخطر ليس العدوّ الخارجي، الخطر الأكبر حينما يكون لهؤلاء الموجودون في الخارج امتداد في الداخل".

وعندما سئل عن ماهية "الأطراف" التي أشار إليها في إجابته، يجيب قيس سعيّد: "هي الأطراف التّي ترى في الأمّة العربية الإسلامية خطرًا على وجودها، عوض إرسال مئات الآلاف من الجنود مثلما حصل في العراق لتدميره، فالأفضل لهم أن تُدمّر من الداخل وتُفجّر من الداخل، وبالنتيجة هذا الذي يحصل اليوم، يعني حكومات دون دول مهمّتها الأساسية هي الحفاظ على المصالح الغربية الكبرى".

بالنسبة لقيس سعيّد مصطلح "الإرهاب" تعويم وتضليل في الأساس والصراع هنا هو وظيفي والإرهابي مجرد أداة لمؤامرة أجنبية لتحطيم الدولة الوطنية العربية من الداخل

إذًا بالنسبة لقيس سعيّد مصطلح "الإرهاب" تعويم وتضليل في الأساس وأن الصراع هنا هو وظيفي وأن الإرهابي مجرد أداة لمؤامرة أجنبية لتحطيم الدولة الوطنية العربية من الداخل.

العامل الثاني، يتمثل على الأرجح في تخوّف من تدخل أطراف أجنبية في التحقيق، وهو ما حصل بتدخل الطرف الفرنسي، والحال أننا إزاء تورط أمني منتسب لجهاز حساس وهو الحرس البحري في العملية.

 

 

وهنا نحن إزاء أول عملية إرهابية يكون فيها الفاعل الوحيد والرئيسي عنصرًا في الأجهزة الحاملة للسلاح. وإن تورط سابقًا (قبل الثورة بالمناسبة وليس فقط بعدها) عناصر من الأجهزة في أعمال إرهابية فإن دورهم لم يكن بارزًا.

هناك تخوف من الدولة العميقة والأجهزة من توظيف أجنبي لهذا الخلل الداخلي الأمني الواضح، ومن ثمة فإن هذا العامل يدفع في اتجاه التخفيف نسبيًا من وطأة ما حدث لتجنب وصم الأجهزة التونسية بأنها مخترقة.

هناك تخوف من الدولة العميقة في تونس والأجهزة من توظيف أجنبي للخلل الداخلي الأمني الواضح، ومن ثمة تدفع السلطات في اتجاه التخفيف نسبيًا من وطأة ما حدث لتجنب وصم الأجهزة التونسية بأنها مخترقة

العامل الثالث وراء تجنب استعمال مصطلح إرهاب، يمكن أن يكون بديهيًا أي تجنب الأثر الاقتصادي خاصة على بداية الموسم السياحي، ومن ثمة هناك عقل تقليدي في الدولة يعتقد أن تجنب وصف ما حدث بالإرهاب حتى مؤقتًا إلى "استكمال الأبحاث" يمكن أن يؤجل أي آثار سلبية على موسم سياحي تحتاجه المالية العمومية للتخفيف من عجز متفاقم في الميزانية وخاصة إزاء تعطل الاتفاق مع صندوق النقد.

هذه عوامل التأطير السياسي الداخلي لما حصل، ومثلما نرى لا يمكن أن تكون ذات وجه واحد. وهو حال تداعيات العملية أيضًا. فنحن لسنا إزاء تداعيات عملية إرهابية "عادية".

ما حصل يشير إلى حالة مزدوجة، تتعلق بتكرار لعمليات سابقة بما فيها هجوم الغريبة سنة 2002، ومن ثمة رائحة التنظيمات "الجهادية". لكن تأكيد هذا السيناريو في الأيام أو الأسابيع القادمة لا ينفي أيضًا أنه متماه عمدًا أو ضمنيًا مع بعد آخر، وهو حاجة إسرائيلية وأيضًا غربية واضحة لتوظيف هجمات ضد يهود في تونس للضغط على قيس سعيّد من أجل التراجع عن موقفه الرافض للتطبيع.

هناك حاجة إسرائيلية وأيضًا غربية واضحة لتوظيف هجمات ضد يهود في تونس للضغط على قيس سعيّد من أجل التراجع عن موقفه الرافض للتطبيع

وإن كان هجوم سنة 2002 يأتي في سياق عام تميز منذ التسعينيات بانخراط رسمي تونسي في وساطات ومن ثمة جوهر ما سمي بـ"عملية السلام"، وتم تتويج ذلك سنة 1996 بفتح "مكتب الاتصال" الاسرائيلي في تونس والتونسي في تل أبيب، فإن العملية الحالية تأتي في سياق سلطة سياسية ترفض بشكل علني أحيانًا وضمني أحيانًا أخرى الانخراط في التوجه المتزايد العربي الرسمي في التطبيع.

وإذ يكفي تحليل السياق لفهم ذلك، فإننا هنا بالذات إزاء قرينة قوية لتوظيف صريح للإرهاب في الغريبة للضغط من أجل التطبيع. تقرير "جيروزاليم بوست" الصادر يوم 10 ماي/أيار والذي يكشف بشكل "حصري" أن وزارة "العالية" والهجرة والدياسبورا الإسرائيلية بصدد العمل على "خطة سرية" منذ أشهر لترحيل ما تبقى من يهود تونس على أساس "تقارير" تلقتها تل أبيب من جربة على تهديدات لهم من أمنيين ومن السلطات المحلية، ومن ثمة نقلنا إلى مستوى ملف "معاداة السامية" وهو هو قرينة واضحة أننا إزاء تأطير إعلامي وسياسي إسرائيلي لتوظيف العملية.

ونجد صدى ذلك في تصريحات أطراف غربية أهمها تصريح الرئيس الفرنسي ماكرون المشير إلى خطر "معاداة السامية" كإطار لما حدث، كأننا لسنا إزاء حادث شخص معزول بل موجة عامة لمعاداة السامية ومن ثمة الإحالة إلى قيس سعيّد نفسه والسلطات التونسية على خلفية رفضها التطبيع.

سبق أن تحدثت في مقال سابق في موقع آخر عن "إسرائيل الخارج وإسرائيل الداخل"، في إشارة إلى الدور الضمني للتنظيمات التكفيرية من خاصة تنظيم الفنية العسكرية وخاصة العمل التنظيري لعبد السلام فرج في "الفريضة الغائبة" في تشتيت أي جهد للتركيز على المقاومة ضد اسرائيل وفتح جبهات مسلحة داخلية عربيًا، تحت عنوان أولوية "العدو القريب".

من هذه الزاوية إذا ثبت أن وسام الحرزي، "المعتدي"، يحمل خلفية "الذئب المنفرد" التكفيرية المتشددة فإننا إزاء التقاء موضوعي متكرر بين أعمال التكفيريين والمصالح الإسرائيلية.

إذا ثبت أن وسام الحرزي، "المعتدي"، يحمل خلفية "الذئب المنفرد" التكفيرية المتشددة فإننا إزاء التقاء موضوعي متكرر بين أعمال التكفيريين والمصالح الإسرائيلية

يبقى أننا إزاء تداعيات أخرى أيضًا داخلية. إذ العملية جدت والرئيس قيس سعيّد يصر على تعميق الهوة بينه وبين معارضيه السياسيين عبر استهدافهم بتهم "الإرهاب".

تجنب وصف الإرهاب بالإرهاب مقابل وصف المعارضين السياسيين بـ"الإرهاب"، والذين لا يحمل ملفهم أي قرينة من أي نوع لتورط في "الإرهاب"، عدا أنهم مستهدفون هم أنفسهم بتهديدات إرهابية جعلتهم تحت حراسة أمنية لسنوات مثل جوهر بن مبارك، فإن هذا "الخلط" لا يساهم في تحصين الجبهة الداخلية لمواجهة أي ضغط خارجي، بما فيه ذلك محاولة فرض التطبيع.

تجنب وصف الإرهاب بالإرهاب مقابل وصف المعارضين السياسيين بـ"الإرهاب".. لا يساهم في تحصين الجبهة الداخلية لمواجهة أي ضغط خارجي، بما فيه ذلك محاولة فرض التطبيع

يفقد الرئيس قيس سعيّد في معركته ضد التطبيع مناضلين عرفوا بمقاومتهم للتطبيع مثل عصام الشابي، ويخلط بين الاختلاف في الرأي وبين تهديد أمن الدولة. أمن الدولة يتقوى باستيعاب الاختلاف وحق التنظم والتعبير وعلى قاعدة تنظيم التداول السلمي عبر الانتخابات الحرة والنزيهة لا غير. الإرهاب التكفيري يستهدف كل من يؤمن بذلك، ويلتقي موضوعيًا مع التوجه الإسرائيلي الذي كان منتقدًا ومتخوفًا من أي تحوّل جدي نحو وضع ديمقراطي وينتشي أكثر عند التعامل مع أنظمة استبدادية.

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"