17-مايو-2020

تعدّ ساحة محمد علي مسرحًا معلنًا للتجاذبات الحزبية منذ انطلاق العمل النقابي (ياسين القايدي/وكالة الأناضول)

 

مقال رأي

 

كان المؤتمر العاشر لحركة النهضة سنة 2016 محطة مهمة في سياق الحسم في قضية الفصل بين السياسي والدعوي. ولم يكن يسيرًا على حركة ولدت من رحم الإسلام السياسي أن تهيء شروط النقاش المعمق في مسألة في عمق هوية الحزب ورافعة رؤيته الفكرية والعقدية.

غير أن ذلك النقاش لم يكن اختيارًا بقدر ما كان ضرورة فرضتها الوقائع السياسية حينها وأملاها حد السياسة ذاته بما هي "فن الممكن" المفتوح على النسبي. لكن هل كان يكفي الحسم في مسألة الفصل بين الدعوي والسياسي لدى الحزب الأكبر كي توضع الديمقراطية التونسية في مدارها الصحيح والخالي من الهنات؟

لعل من أهم عيوب الديمقراطية التونسية وهناتها هو التداخل الغريب بين السياسة ومجموعة كبرى من النشاطات الأخرى مثل العمل الدعوي والرياضة والإعلام

لئن تصدرت تونس الدول العربية في مؤشر الدول الديمقراطية في العالم لسنة 2020 الذي تنجزه مجلة "ايكونوميست" بالإضافة إلى حيازتها المرتبة 53 عالميًا، فقد بقيت في خانة الدول ذات الديمقراطية المعيبة في حين كانت المراتب الأولى لخانة الدول الديمقراطية المكتملة. ويعتمد التقرير على تقييم مؤشرات مثل واقع الحريات، والتعددية، والمساواة، وسيادة القانون والمشاركة السياسية بالإضافة الى الأداء الحكومي.

ولعل من أهم عيوب الديمقراطية التونسية وهناتها هو التداخل الغريب بين السياسة ومجموعة كبرى من النشاطات الأخرى. وهو تداخل كان مستساغًا بل مطلوبًا إبان الحركة الوطنية زمن مقاومة الاستعمار وكذلك خلال مقارعة استبداد دولة ما بعد الاستقلال، حين استأثرت دولة الحزب الواحد بالحياة الحزبية مما اضطر الحساسيات السياسية إلى البحث عن "مناطق محررة" لممارسة السياسة مثل النقابات العمالية والطلابية أو المنظمات الحقوقية.

اقرأ/ي أيضًا: في جدل الشرعية والمشروعية

أما اليوم وقد أصبحت السياسة على قارعة الطريق وقد تجاوزت الدكاكين الحزبية المائتين، بات يطرح الأمر إشكالًا حادًا صار لزامًا التوقف عنده. فالنقابة مثلًا من حيث المبدأ لا تعدو أن تكون سوى جمعية مدنية تدير التفاوض مع أرباب العمل من أجل الدفاع عن مصالح منسوبيها في سبيل تحسين ظروف العمل، غير أن هذا الإطار لم يتخلص عبر تاريخه من أعباء توظيف محترفي السياسة والأيديولوجيا.

ولعل ذلك ما أضر بالعمل النقابي والسياسي في الآن نفسه، فقد ارتهنت مصالح العمال إلى حسابات السياسيين المتقلبة بتقلب موقعهم من السلطة. ولنا في تجربة نقابة تضامن في بولونيا خير مثال إذ توصلت إلى ضم قرابة العشرة ملايين عامل من أصل ثلاثة عشر مليونًا، وفاز زعيمها في انتخابات 1990 الرئاسية بنسبة تفوق 74 في المائة، غير أنه بعد تجربة الحكم سرعان ما تقلصت شعبيته وتراجعت معه النقابة ذاتها إلى الحدود الدنيا للشعبية، ولم يتحصل في انتخابات سنة 2000 سوى على نسبة لا تكاد تتجاوز الواحد في المائة من الأصوات.

تشكلت القائمات المتنافسة في كل مؤتمرات المنظمة الشغيلة على أساس تحالفات حزبية معلنة

وفي تونس، كانت ساحة محمد علي مسرحًا معلنًا للصراعات والتجاذبات الحزبية منذ انطلاق العمل النقابي، وقد تشكلت القائمات المتنافسة في كل مؤتمرات المنظمة الشغيلة على أساس تحالفات حزبية معلنة. ولعل أجيال التسعينيات تتذكر جيدًا ملابسات مؤتمر سوسة سنة 1993 وتدخل سلطة بن على المباشرة في مداولاته ودفعها إلى تصعيد قيادة يترأسها اسماعيل السحباني قادت الاتحاد حينها إلى نهج سمي لاحقًا بـ"السحبنة" كناية عن الإخضاع و التدجين.

وما وقع في اتحاد الشغل اُستنسخ بأساليب مغايرة في الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان، إذ شهدت أغلب مؤتمراتها الصراعات ذاتها مع حرص من الفرقاء على حدود دنيا لتمثيل كل عائلة سياسية بما في ذلك الحزب الحاكم ذاته، وكانت آلية ذلك هي التحكم في توزيع الانخراطات حسب التوازنات المطلوبة. و لعل ما جرى خلال المؤتمر الأخير للرابطة وبعده من صراع بين مجموعة الــ14 ومجموعة الــ11، وحرب البيانات والانسحابات، يشكل قمة الأزمة التي تعود في عمقها إلى ارتهان المنظمة الحقوقية العريقة إلى مضاربات السياسيين في أروقتها.

اقرأ/ي أيضًا: ديمقراطية "الكبار" أمام امتحان التمديد

ولم يكن العمل الجمعياتي والإنساني بمنأى عن الاختراقات الحزبية، فقد حولت بعض الأحزاب العمل الجمعياتي الى أداة إشهار وحملات انتخابية فجة أدت إلى تغيير المعادلات السياسية وحتى الانتخابية ومن ذلك ما رافق انتخابات 2019 من جدل كبير تعلق أساسًا بظواهر جديدة حولت العمل الخيري والإنساني إلى رأس مال سياسي وانتخابي تُرجم إلى أصوات كانت حاسمة في تصعيد ألوان سياسية دون غيرها.

وغير خاف عن المتابعين في تونس دور الإعلام في المعادلة السياسية الحزبية والانتخابية، ولا غرابة والحال تلك أن تتنافس الأحزاب على إخضاع أو توجيه أو حتى امتلاك منصات إعلامية سواء كانت مكتوبة أو مسموعة أو مرئية أو كذلك افتراضية إلكترونية. وليس من الصعب على كل متابع أن يصنف الخارطة الإعلامية حسب الاصطفاف السياسي لكل وسيلة إعلام مع هذا الحزب أو ذاك، أو تلك العائلة السياسية أو الأخرى، بل الأخطر من ذلك أن تجد لبعض الأدوات الإعلامية امتدادات إقليمية أو دولية لتنفيذ أجندات بعينها تخطط لها غرف عمليات لمحاور إقليمية غير خافية.

هل نأمل أن نرى تونس قريبًا وقد فصل فيها بين "ما هو لقيصر وما هو لله"

وكانت الرياضات الجماهيرية هي أيضًا مجالًا للتنافس بين أقطاب السياسة في تونس، فأضحت رئاسة النوادي الرياضية بوابة لتحويل الجماهير الرياضية العريضة الى خزانات انتخابي لأحزاب بعينها. ولعل نتائج انتخابات 2014 عكست جليًا التداخل بين السياسي والرياضي إذ صعدت حزبًا إلى المرتبة الثالثة ليس له من سند غير الجماهير العريضة لفريق من أعرق الفرق في القارة السمراء.

تلك إذًا نماذج من التداخل غير البريء بين ما هو سياسي وحزبي، وبين ما هو نشاط مدني تطوعي غير مؤهل كي يجلب أي شكل من أشكال المنافع إلى مريديه. ولا نرى نجاحًا للتجربة الديمقراطية التونسية الرائدة سوى بالحسم النهائي والفصل الصارم بين ما هو سياسي حزبي من جهة، وبين ما هو دعوي أو نقابي أو حقوقي أو جمعياتي أو رياضي أو غير ذلك من صنوف العمل المحمول على التطوع الصرف من جهة أخرى، وهو عمل يفترض ألا يعود على صاحبه سوى براحة الضمير أو رضا الرب فوق سبع سموات. فبذلك وحده يسود العدل بتعادل القوى بين المتنافسين فينحصر التنافس بين الفرقاء السياسيين على إنتاج المعاني والبرامج، وعلى الإنجاز الملموس على الأرض كنافذة وحيدة لكسب ود الناخبين. فهل نأمل أن نرى تونس قريبًا وقد فصل فيها بين "ما هو لقيصر وما هو لله".

 

اقرأ/ي أيضًا:

في البورجوازية الرثة والتنمية الرثة

​الرئيس و"شعبه العظيم"