كانت المدينة ولا زالت، تلك التّعبيرة الأسمى عن تحقّق الإنسان وعنوان تفوقه على الطبيعة. إنها أبّهة الخيال الإنساني على مر العصور، داخلها نحيا نوعًا من التضامن الحضوري ونوعًا من الجوار وتقاسم الفضاء المديني بالرغم من أننا لا نعرف بعضنا البعض. يجمعنا سحرها الطاغي وتشغلنا فتنها وذلك رغم لا مبالاتها بنا وانشغالها بإيقاعها الذي نحتته على مر تاريخها وحملته الطيور إلى تخوم اللاّنهاية.. المدينة لا شيء يعنيها سوى كيانها ومتعلّقاتها المفردة المستقلة بالرغم من محاولات الشعراء تحويل عوالمها إلى قصائد خالدة.
تحوّلت العودة إلى القرية في تونس مؤخرًا إلى ظاهرة لافتة للانتباه، فالعديد من التونسيين تخلّوا عن المدن الكبرى ليعودوا إلى قراهم الأصلية التي تركوها سابقًا لأسباب عديدة
تبدو المدينة مغرية ومتكتمة ولا مبالية ومتأنقة ومتجددة. تتعالق فيها المعاني لتشكل بهرة من جمال أثيريّ يجعل من تلك الشوارع الطويلة والعمارات الشاهقة والحدائق الباذخة.. مدارات لمشاعر الغرباء والوافدين والمشرّدين والمسحوقين والمكدودين، وأولئك الذين حملوا أحلامهم بين جنباتهم وكسرتهم الانتظارات.
المدينة تبدو كحورية مغوية تجذب إليها العابرين وتسحر البعيدين بألقها وأسواقها السياحية النظيفة والأنيقة، ومقاهيها ذات الأرصفة العريضة وشمسيات الكوكا كولا الملونة وبحدائقها الباسقة والمزهرة ومحلاتها الفخمة المتجاورة ومعمارها المتجانس وباعة الورود والأحياء الراقية وانسيابية السيارات على الطرقات المسفلتة بعناية.. قد تمنحك المدينة أسلوب حياة مغاير لذاك الذي نعيشه بالقرى والأرياف، وقد يشعرك إيقاعها بالامتلاء وامتلاك حقيقة التحضّر، لكنها في النهاية تسلبك عمرك الذي يمر من بين أصابعك كحفنة رمل، هي لا تمنحك شيئًا، فقط تورطك في أحابيل حبّها فتشقى شقاء وجوديًا مع نهاية رحلة العمر.
ما تؤكده الدراسات النفسية في علاقة الإنسان بالمدينة أنها تلفظ سكانها القدامى تحت جناح الصمت وتتخلى عنهم فرادى قبل طلوع الفجر، فينفقون على شواطئها الفسيحة رغم سنوات التعلق والهيام والافتتان الطويلة. تتركهم بعد تعب الأيام وتوفد إليها عشاقًا جددً. إنها تتجدد كسيرانة أسطورية. هكذا هي المدينة تقتات من أعمار محبيها وسكانها الأوفياء.
"المنبوذون" أو "الملفوظون" أولئك الذين شعروا أنهم لم يعد بمقدورهم العيش بالمدينة، نجدهم يبحثون عن ملاذات أخرى ومرافئ أخرى بحثًا عن استراحة نهائية للشفاء النفسي من هول المدينة وصخبها الأجوف.. كأن يعودوا إلى الغابة أو الجبل أو القرية.
هذا العود إلى الينابيع الأولى للإنسان ألا وهي القرية، أو إعادة الاتصال بالطبيعة وما جاورها، تحوّل في تونس في الآونة الأخيرة إلى ظاهرة لافتة للانتباه، فالعديد من التونسيين تخلّوا عن المدن الكبرى التي قضّوا بها أجمل أيامهم وأفنوا العمر في محطات الباصات والقطارات وتقديم الخدمات والعمل بمؤسساتها.. وغادروها طوعًا أو كرهًا وعادوا إلى قراهم الأصلية التي تركوها سابقًا لأسباب عديدة، أو تخيروا لهم قرى جديدة على السواحل التونسية الطويلة أو على سفوح الجبال الغربية، وحولوها إلى أمكنة مشتهاة للإقامة معتقدين أنها أكثر هدوءًا وأكثر جاذبية.
"الترا تونس" بحث في هذه الظاهرة وتساءل بخصوصها وحمل بعض الإضاءات حول هذه الزاوية النفسية الاجتماعية الهامة.
"حسن" (70 عامًا) لـ"الترا تونس": غادرت قريتي في البداية لتحسين الوضع المادي لوالديّ، لكني تزوجت وأنجب أبناء واستقررت نهائيًا بالمدينة ولم أنتبه إلا بعد انقضاء العمر ورحيل الوالدين
اللقاء الأول كان مع "حسن" (70 عامًا) وهو ممرّض متقاعد منذ عشر سنوات من المستشفى العمومي "شارل نيكول" بالعاصمة وعاد إلى ريف تستور من ولاية باجة بالشمال الغربي التونسي، بعد أن غادره نهاية ثمانينات القرن الماضي. التقيته منذ سنة بمقهى البطحاء بتستور، مسّح بيده على شعره الأشيب وترشّف من قهوته "الأكسبريس" وحادثني بنبرة يشوبها بعض الحزن قائلًا: "كنت نحلم بالعاصمة والعيشة الباهية، حسيت في الأوّل أني طرت في السّماء، وفي آخر الطيران ما حصّلت شيئًا"، مضيفًا أن مغادرته قريته في البداية كان من أجل تحسين الوضع المادي لوالديه، لكن ذلك لم يحصل لأنه تزوج وأنجب أبناء واستقر نهائيًا بالمدينة وانخرط في أحابيلها وقضى شبابه وكهولته بها. ولم ينتبه لما حصل ضمن مسيرته الحياتية إلا بعد انقضاء العمر ورحيل الوالدين، وفقه.
بعد التقاعد، قرر حسن العودة لقريته والاستقرار نهائيًا بها إذ يقول "وكرك وكرك ولو على عود يابس.."، في إشارة إلى ضرورة هذه العودة نشدًا لاستراحة محارب قديم أضنته المدينة وأشقته. وأكد محدثنا أن ابنه الوحيد المتخرج من كلية الفلاحة قد تزوج وهو حاليًا مستقر بالمدينة، وربما يعود هو الآخر لأرض الأجداد والانشغال بمشروع فلاحة بيولوجية معدة للتصدير.
يختم حسن حديثه لـ"الترا تونس" قائلًا: "لقد تصالحت مع ذاتي مذ عدت إلى قريتي حتى أني تخلصت من بعض الأمراض التي كادت أن تستبد بجسدي".
"حسن" (70 عامًا) لـ"الترا تونس": لقد تصالحت مع ذاتي منذ عودتي إلى قريتي حتى أنني تخلصت من بعض الأمراض
أما "عبد الحميد" وهو من سكان المدينة العتيقة بالعاصمة حيث ولد ونشأ ودرس ويشغل حاليًا خطة مدير لمدرسة ريفية بجهة برج العامري من ولاية منوبة، فقد أوضح لـ"الترا تونس" أنه اختار منذ انتدابه كمعلّم بوزارة التربية أن يشتغل بمدارس ريفية لأنه يعشق الطبيعة ويحب بساطة الريف وأهله، ويضيف أن عيشه بأزقة المدينة جعله يشعر بالاختناق وأنّ اختياره للقرى الريفية هو نوع من الانعتاق، على حد وصفه.
"عبد الحميد" (51 عامًا) له عائلة وأبناء ويسكن بالمنزل الإداري بالمدرسة التي يديرها، فقد بيّن أنه قد أنشأ به حديقة غنّاء حيث زرع ما يفي حاجته من بقول وخضر، كما زرع عددًا من الزياتين والأشجار المثمرة، وخصص حيّزًا بالجهة الخلفية للمنزل لتربية الدواجن، وهو يرى أن ذلك يمنحه وعائلته الكثير من السعادة التي لا توفرها له المدينة، مشيرًا إلى أن ذلك يسهم كثيرًا في الاستقرار النفسي لأبنائه وهو ما حصل فعلًا، فابنته تميل إلى رسم الطبيعة وكتابة الشعر الرومانسي المستلهم من محيطها.
كما أكّد "عبد الحميد" أنه قرر وعائلته الاستقرار نهائيًا بهذه القرية ولن يعود إلى المدينة التي غصّت كثيرًا بالسكان وباتت لا توفر سوى الأمراض والتعب الضغط العالي على النفس.
مدير مدرسة ريفية لـ"الترا تونس": اخترت منذ انتدابي أن أشتغل بالريف، لأني أعشق الطبيعة، وقد أنشأت حديقة وخصصت مكانًا لتربية الدواجن، وهو ما يمنحني وعائلتي سعادة لا توفرها لنا المدينة
"رضا" (اسم مستعار) هو رجل أعمال يشتغل في مجال الطباعة والتجارة في مادة الورق بالجملة بجهة "القصر السعيد" على مشارف العاصمة تونس، قرر منذ 3 سنوات، العودة للطبيعة بحثًا عن الهدوء، قائلًا: "المدينة أصبحت لا تطاق.. لقد ازدحمت بما فيه الكفاية والأفق يشي بالزيادة ولا حدود لذلك".
"رضا" اشترى ضيعة فلاحية بمنطقة "سيدي ثابت" من ولاية أريانة وأدخل عليها جملة من التحسينات، من قبيل الطريق المؤدية إلى الضيعة وتثبيت لوحات لاقطة للطاقة الشمسية من أجل توليد الكهرباء، وانتدب عملة فلاحيين وحارس قار.. وانتقل للعيش بها.
وبعد تجربة الإقامة في ريف سيدي ثابت أكد "رضا" أن صحته تغيرت نحو الأحسن بعد أن كان عصبي المزاج، مضيفًا أن ذلك انعكس إيجابيًا على أدائه في العمل على مستوى التواصل مع العملة والمزودين والتجار.
رجل أعمال لـ"الترا تونس": أصبحت المدينة لا تطاق.. لقد ازدحمت بما فيه الكفاية، وصحتي تغيرت نحو الأحسن حين انتقلت إلى السكن بضيعة فلاحية بعد أن كنت عصبي المزاج
أما "سامي" وهو إطار بشركة خاصة لنقل البضائع لم يتجاوز العقد الرابع من عمره ويقيم وعائلته الصغيرة بالضاحية الغربية للعاصمة تونس، فقد انتقل إلى الريف البحري لمدينة "بني خيار" من ولاية نابل. أما سبب ذلك فهو مرض زوجته. حيث روى لـ"الترا تونس" أن زوجته تشتغل بإحدى الفضاءات التجارية المعروفة، "ونتيجة لضغط العمل أصيبت بمرض الأعصاب فأصبحت سريعة الغضب والتوتر لأبسط الأمور، وقد أشار عليها طبيبها بمغادرة العاصمة والابتعاد عن المدن الصاخبة نحو الطبيعة حيث البحر والغابات والحقول والمروج وهو ما حصل فعلًا، إذ تم اقتناء منزل صغير على مقربة من الشاطيء وغيرنا حياتنا تمامًا، ونحن الآن ننعم ببعض الاستقرار النفسي".
ووفق محدثنا فإن "المدينة أصبحت لا تطاق، كما أنّ العمل بالقطاع الخاص في تونس، مدمر للأعصاب"، وأضاف بأن منظومات العمل في تونس بالقطاعين الخاص والعام على حد السواء لا تراعي الجانب النفسي وتعتبره ترفًا مهنيًا والحال أنه أساسي، لأن العامل الذي لا تراعى نفسيته ينقص مردوده ويكون عرضة لمرض العصر وهو "الضغط النفسي".
إطار بشركة خاصة لـ"الترا تونس": العمل بالقطاع الخاص في تونس مدمر للأعصاب، وقد نصح الطبيب زوجتي بمغادرة العاصمة والابتعاد عن المدن الصاخبة نحو الطبيعة
وفي هذا السياق التقينا "سَعيد" وهو أستاذ تربية بدنية بالمدارس الإعدادية والمعاهد الثانوية التونسية كان يشتغل في المؤسسات التربوية بالمحمدية مدرسًا ومدربًا ويقيم بحي المروج وهوايته هي الصيد البري، وكان مع حلول مواسم الصيد يرتحل مع عدد من الأصدقاء الصيادين نهاية كل أسبوع إلى غابات سليانة وبنزرت وجندوبة وباجة والكاف. وقد أوضح محدثنا أن هذه الهواية هي التي متّنت علاقته بالغابة وجعله ينشدّ للطبيعة والجبال. وقد أفادنا "سَعيد" أنه عزف عن المدينة من فرط الزحمة والاختناق المروري وغلاء المعيشة وارتفاع الأسعار، إذ يقول: "كرهت المدينة، الحقيقة حبيت نمشي نعيش في مكان فيه جبل وهدوء، وبما أني عرفت أماكن عديدة في الشمال الغربي، اخترت عين دراهم ونقّلت من الخدمة..".
حسان الموري (أستاذ علم اجتماع) لـ"الترا تونس": الإنسان يلوذ بالطبيعة والقرية كلما أرهقه التجمع "المديني".. وكلما شعر بالضيم الاجتماعي في المدينة التي تدحره طبقيًا
ما ذكرناه سابقًا ليس سوى نماذج من آلاف الناس في تونس يغادرون المدينة عائدين إلى القرية وإلى المناطق البعيدة قرب الغابات والجبال، مشكّلين بذلك نزوحًا ارتداديًا وسلوكًا اجتماعيًا لافتًا للانتباه. "الترا تونس" اتصل بالباحث والكاتب "حسان الموري" وهو أستاذ محاضر في علم الاجتماع بالجامعة التونسية وطرح أمامه هذه المسألة.
وقد أوضح الأستاذ "حسان الموري" منذ البداية أن سوسيولوجيا القرية هو درس قديم في علم الاجتماع، وكان الفرنسي "جون ستونزل" يقوم بتدريسه بمعهد الدراسات السياسية بباريس منذ سنة 1948. كما يعتبر "هنري مندراس" من الرواد المؤسسين لهذا الدرس الهام الذي فهمنا من خلاله علاقة الإنسان بالقرية والريف.
حسان الموري (أستاذ علم اجتماع) لـ"الترا تونس": العودة إلى القرية تعتبر سلوكًا طبيعيًا، فقد أصبحت المدينة لا تطاق في تونس، والأسباب تتمثل في تراجع أدوار عدة مؤسسات
وأكد الأستاذ "الموري" أن الإنسان يلوذ بالطبيعة والقرية كلما أرهقه التجمع المديني حسب المفاهيم الخلدونية للعيش المشترك، وكلما شعر بالضيم الاجتماعي في المدينة التي تدحره طبقيًا وتشتد منظوماتها المتشابكة على حياته اليومية، وأضاف الأستاذ الموري أن ذلك يعتبر سلوكًا طبيعيًا، ففي تونس أصبحت المدينة لا تطاق، والأسباب تتمثل في تراجع أدوار المؤسسات الاجتماعية الأساسية وهي مؤسسة القانون ومؤسسة التعليم ومؤسسة العائلة، وفقه، والتي يعتبرها مصدر القيم التي تحكم المجتمع.
وأكد أستاذ علم الاجتماع أن العودة إلى القرية هي الدرب الصحيح لإعادة تشكيل الذاكرة والبحث عن الرموز التي بنت شخصيتنا الثقافية وإعادة بناء التصورات الاجتماعية بخصوص الريف والحياة في القرية، موضحًا أن الإنسان قد يهجر قريته أثناء شبابه لأسباب عديدة، لكنه في النهاية يعود لأسباب متنوعة أيضًا، وفي ذلك العود هناك عملية كيميائية غير مرئية لإحياء الروابط الاجتماعية وصلات القربى والصداقات القديمة التي كادت تندثر. وهي كلها كما يعتبرها علم النفس الاجتماعي، "ردة فعل تجاه براغماتية المدينة المؤسسة على المصالح وطفرات الأنانيات السارية بين المدينيين".