07-يونيو-2021

ولادة تقليدية في البيت بدل الولادة في المستشفى.. أي طقوس لذلك؟ (صورة توضيحية/ Getty)

 

"الحمد لله على الخلاص" كانت أصوات النسوة تتعالى مرددات لهذه الجملة، لابسات كماماتهن في باب غرفة نوم "رحمة" التي وضعت مولودتها الثانية منذ ساعات في البيت على الطريقة التقليدية التي تعود لمئات السنين. لقد اختارت رحمة الولادة في البيت على يد نسوة قرية المنشية التابعة لولاية قبلي بجنوب البلاد التونسية بمنشآت صحية متهالكة، تواجه بالدعاء إلى الله فيروس كورونا الذي حصد مئات الأرواح.

"رحمة" واحدة من اللاتي اخترن الولادة التقليدية في المنزل لأنها أكثر أمانًا من المستشفيات حسب اعتقادهن، وهي ليست الأولى في ذلك حيث أصبحت الولادة الطبيعية في البيت خيارًا منذ تفشي جائحة فيروس كورونا.

رحمة لـ"الترا تونس": ولدت ابني البكر في المستشفى وكدت أموت، لقد أحسست بالذل والمهانة ولهذا قررت في حملي الثاني أن ألد في بيتي بين أهلي

تقول تقول رحمة لـ"الترا تونس": "ولدت ابني البكر في المستشفى وكدت أموت، فقد تعرضت لنزيف حاد والسبب أن الممرضة التي رافقتني لم تعط للطبيب رسالة المستشفى المحلي وعادت بها في سيارة الإسعاف، وبقيتُ ملقاة على طاولة الولادة لساعات، وكلما صرخت وطلبت النجدة، كنّ يصرخن في وجهي (سكري فمك ويزي من الدلال مازال موعد الولادة).. لقد أحسست بالذل والمهانة ولهذا قررت أن ألد في بيتي بين أهلي، فجداتنا أنجبن عشرات الأطفال، وهن وأولادهن بصحة جيدة" وفق تعبيرها.

اقرأ/ي أيضًا: أول ولادة لأم حاملة لـ"كورونا" في تونس

وتضيف "الحاجة مبروكة" في هذا الإطار: "لقد قمت بمساعدة عشرات النساء على الولادة الطبيعية في البيت، ولم نعرف العمليات القيصرية إلا مع هذا الجيل، والسبب أن النساء كن يصبرن والقابلة كانت تصبر أيضًا حتى يخرج المولود بصفة طبيعية".

الحاجة مبروكة قابلة قرية المنشية التي باتت مقصد عدد من نسائها مع تفشي الجائحة لمساعدتهن للولادة في المنزل مع التزامهن بإعداد كل الطقوس ومستلزمات هذه العملية.

ولعل أول هذه المستلزمات أن يتم ربط حبل في الغرفة ويسمى الحزام، وأن يفرش الرمل على قطعة بلاستيكية ويغطى بقطعة قماش كبيرة قديمة من ثوب تقليدي يسمى "حولي"، إلى جانب تحضير "موس  حلاقة" جديد لقطع الحبل السري وإعداد خليط من الكحل العربي التقليدي والملح الطبيعي لوضعه على سرة الرضيع.

مبروكة (قابلة بقرية المنشية) لـ"الترا تونس": لم نعرف العمليات القيصرية إلا مع هذا الجيل، والسبب أن النساء كن يصبرن والقابلة كانت تصبر أيضًا حتى يخرج المولود بصفة طبيعية

كما يقع إحضار صاع من القمح أو الشعير أو التمر ويوضع أمام الغرفة حتى يتم إخراجه صدقة بعد خلاص الأم والطفل وانتهاء العملية على خير. وفي المطبخ تكون عصيدة الشعال تنتظر إشعال النار تحتها بعد أن تكون قد أعدت بكميات هامة لتأكل منها النفساء حال ولادتها ومعها نساء القرية، وهي تتكون من عشرات الأعشاب الطبيعية والقمح. وكذلك الطبيخة المتكونة من البقول الجافة والقرنيط (أخطبوط) المجفف أو السردين، تأكلها النفساء وزوارها وهي مفيدة لزيادة الدم ولإدرار الحليب.

اقرأ/ي أيضًا: من شمّ الدخان والبنزين إلى أكل التراب والطين.. ما حقيقة وحم الحامل؟

ويشترط أن يكون المنزل خاليًا تمامًا من الرجال، إذ يُعتقد أن هذه اللحظة مقدسة وخاصة بالنساء، ولا يمكن أن يطّلع عليها الرجال، إذ يُمنعون من سماع صراخ الحامل حتى وإن كن زوجاتهم. كما يُطلب من المرأة أن تضع حبة تمر في فمها وأن تشد الحبل جيدًا أثناء "الطلق" وذلك عملًا بما ورد في القرآن الكريم عن السيدة مريم وهي تلد عيسى عليه السلام وقوله تعالى: "وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا".

يشترط أن يكون المنزل خاليًا تمامًا من الرجال في عملية الولادة التقليدية، وتُعَدّ عصيدة الشعال والطبيخة المتكونة من البقول الجافة والقرنيط (أخطبوط) المجفف أو السردين

كما يُطلب منها أن تذكر الله وتستعين به فيما تردد القابلة "يا محمد يا علي"، ولتسهيل عملية الولادة يتم وضع "البخارة" في الكانون، وتبخر بها الحامل أثناء المخاض. وإذا استعصى الطلق، يُطلق الرصاص من البندقية أمام غرفة الحامل فتفزع وينزل وليدها.

فإذا نزلت معه المشيمة أو كما يسمى "الخلاص"، فيؤخذ ويدفن في حديقة المنزل، وإذا لم ينزل يتم خلط الفلفل الأحمر الحار مع زيت الزيتون وتشربه المرأة وهي ما تزال واقفة، فتتخلص من كل ما علق في رحمها. ويذبح فروج دجاج يُربى خصيصًا لهذا اليوم وتشرب النفساء مرقته.

اقرأ/ي أيضًا: "سكّرتك بالشروليّة على كل بنية".. وللفتيان نصيب من التصفيح في تونس

"كل هذه التفاصيل قمت بها واستطعت أن أضع ابنتي بصحة جيدة والحمد لله، بل إن إحساس الأمان والاطمئنان العاطفي والحنان أثناء الولادة لا توفره المستشفيات" تقول رحمة لـ"الترا تونس". وتتابع: "كنت بين يدي الحاجة مبروكة أم الجميع، كما ساعدتها  أمي وحماتي، وساعدنني أيضًا، وشعرت براحة كبيرة واستمتعت بهذه اللحظة المقدسة التي كانت كابوسًا في ولادة ابني البكر في المستشفى العمومي".

خديجة ( إحدى متساكنات القرية) لـ"الترا تونس": عندما كنت أتوجه للمستشفى في العاصمة آنذاك، كنت أخفي العدد الحقيقي للولادات حينما تسألني القابلة، فقد كانوا يشتمون المرأة التي تنجب عددًا كبيرًا من الأطفال

وقاطعتها أختها وداد لتقول: "حتى المصحات الخاصة في المناطق الداخلية تفتقد للتجهيزات اللازمة، ويتعيّن علينا دفع المال من أجل معاملتنا برحمة وبابتسامة، وقد جربت ذلك".

أما الخالة خديجة فتضحك قائلة: "أنجبت 9 أطفال، 7 في المستشفيات العمومية وطفلان في البيت بولادة تقليدية، وكانت هذه الأخيرة هي الأفضل والأرحم".

وتواصل حديثها: "عندما كنت أتوجه للمستشفى في العاصمة آنذاك، كنت أخفي العدد الحقيقي للولادات حينما تسألني القابلة، فقد كانوا يشتمون المرأة التي تنجب عددًا كبيرًا من الأطفال وذلك في إطار سياسة تحديد النسل وقتها، وكانت القابلة تضرب المرأة وتشتمها وتتنمر عليها بكلام جارح وفاضح لا يمكن قوله.. وكنا نصمت خوفًا منهن أولًا ولاعتقادنا ثانيًا أن الولادة تضحية وأن علينا أن نصبر".

اقرأ/ي أيضًا: "كيد الرجال كيدين وكيد النساء 16".. عن الأمثلة الشعبية الساخرة من المرأة

كلامها تؤكده كوثر خريجة الجامعة، فقد عانت أثناء ولادتها في مستشفى القصرين من المعاملة المهينة ودفعت المال لعاملة النظافة حتى تساعدها في ارتداء ملابسها، تقول لـ"الترا تونس": "يمارس العنف اللفظي والجسدي على المرأة، وإذا احتجت واحدة منهن، كنّ يتركنها تصرخ ولا يلتفتن إليها ويقمن باستعمال المشرط الطبي والاعتداء عليها في مكان حساس دون تبنيج أو رحمة أو صبر.. أنا مررت بكل هذا، وكنت أتمنى لو قمت بتصوير ما يحدث داخل الغرف المغلقة، لكن لم أستطع لأنها صور خاصة جدًا وتظهر عورات الناس وخصوصياتهن".

كوثر (إحدى فتيات القرية وخريجة جامعية) لـ"الترا تونس": كنت أتمنى لو قمت بتصوير ما يحدث داخل الغرف المغلقة.. دفعتُ المال لعاملة النظافة حتى تساعدني على ارتداء ملابسي

وترى كوثر أن الولادة الطبيعية التقليدية في المنزل أفضل من الولادة بالمستشفيات، لكن لا بد أن تتوفر فيها كل الشروط خصوصًا القابلة التقليدية وهو ما أصبح نادرًا اليوم وفقها، معتبرة أن وباء كورونا قد يجعل الناس تفضّل أن تلزم بيوتها للولادة بدل التنقل للمستشفيات في غياب شروط الصحة وخطورة الفيروس. وتضيف "وإن كنت أعتقد أن الولادة التقليدية أفضل لأنها تجنّب المرأة العنف اللفظي والمعنوي".

اقرأ/ي أيضًا: أول ولادة قيصرية لمصابة بفيروس كورونا

العودة للولادة التقليدية هربًا من الكورونا التي  غيرت منذ ظهورها الأنساق الاجتماعية، أصبحت ظاهرة خصوصًا في أعماق البلاد التي تفتقد للمؤسسات الصحية، لكنها أيضًا ملجأ من تبحث عن الأمان هروبًا من عنف لفظي وجسدي يمارس على المرأة ولا تذكره التقارير الدولية. وإن كانت الخبيرة في الأمم المتحدة دوبرافكا سيمونوفيتش المقررة الخاصة المعنية بمسألة العنف ضد المرأة وأسبابه قد ذكرت في إحدى تقاريرها أن سوء المعاملة والعنف ضد المرأة أثناء الولادة من انتهاكات حقوق الإنسان واسعة النطاق، وهذه المنهجية ما تزال تلحق الضرر بحياة النساء في جميع أنحاء العالم ويجب وقفها.

 كما بينت أن "النساء يعانين من انتهاكات تتراوح بين الإساءة اللفظية والسلوك الجنسي والإهانة العميقة، إلى العنف البدني مثل الإجراءات الطبية غير الضرورية والإلزامية والروتينية التي تنفّذ دون موافقة كاملة ومستنيرة".

 

اقرأ/ي أيضًا:

بيض وسمك وضرب.. أغرب عادات الزواج في تونس

قصص عن "الزواج العرفي" في تونس..