20-مارس-2023
 أواني نحاسية الترا تونس

تتعدد فوائد الطهي في الأواني النحاسية (صور هاجر عبيدي/الترا تونس)

 

على بعد مئات الأمتار وقبل أن تدوس قدماك البلاط المعبد لسوق النحاس بالمدينة العتيقة في تونس، يمكنك سماع صوت الدق على النحاس وصوت الآلات المخصصة لصقله وتلميعه، ينبعث من هنا وهناك فيحدث ضجيجًا صاخبًا يضفي على المدينة رونقًا تقليديًا خاصًا يوحي بتواجد حرفيين لم يدخروا جهدًا في الحفاظ على ديمومة مهنة الأجداد، حراس الصناعات التقليدية، التي تقاوم وتأبى الاندثار رغم الصعوبات.

سوق النحاس في المدينة العتيقة يشهد هذه الآونة انتعاشة تزامنًا مع اقتراب شهر رمضان فيتوافد عليه العديد من الحرفاء إما راغبين في اقتناء أوان نحاسية أو في تلميع أوانيهم المستعملة

"سوق النحاسين" كما يحلو للبعض تسميته يحتل شارعًا ضيقًا مسقوفًا ومبلطًا بحجارة بركانية شاهدة على عراقة هذا السوق الضارب في القدم، يحتوي على حوالي 50 محلًا مختصًا في بيع أواني المطبخ النحاسية والمنتجات السياحية تتخللها ورش متخصصة في تنظيف وتلميع الأواني وهو ما يعرف في تونس بـ "تقصدير النحاس".

سوق النحاس يشهد هذه الآونة انتعاشة اقتصادية تزامنًا مع اقتراب شهر رمضان فيتوافد عليه العديد من الحرفاء إما راغبين في اقتناء أوان نحاسية أو في تلميع أوانيهم المستعملة ويعتبر سوق النحاسين قبلة هواة النحاس لاحتوائه على أمهر حرفيي هذه المهنة وتفادًيا للمواد النحاسية المقلدة التي انتشرت مؤخرًا.

 

 

"ضحى جمال" توجهت لسوق النحاس الأسبوع الفارط محملة بأوانيها النحاسية لتنظيفها وتلميعها استعدادًا لشهر الصيام. هي عادة دأبت عليها منذ عقدين من الزمن ورثتها عن والدتها فتقول لـ"الترا تونس" "رغم تعدد أنواع أواني الطبخ  كـ"الإينوكس" و"القرانيط" إلا أني متشبثة باستعمال الأواني النحاسية.. صحيح أن استهلاكها اندثر في فترة معينة لكنه استعاد بريقه بفضل الحرفيين الذين جددوا وطوروا وابتكروا موديلات تتماشى مع متطلبات الزبائن خاصة منهم الشباب المقبل على الزواج".

مواطنة تونسية لـ"الترا تونس": استعمال الأواني النحاسية لديه العديد من المزايا الصحية والجمالية وهي تضفي طابعًا منفردًا على المطبخ في رمضان

وتضيف محدثة "ألترا تونس" أن استعمال الأواني النحاسية لديه العديد من المزايا أهمها صحية وأخرى جمالية تضفي طابعًا منفردًا على مطبخ كل من يستعمله كما تشير إلى أن استعمالها للنحاس لا يقتصر فقط على المطبخ بل كذلك في ديكور البيت وفي مستلزمات الحمام، وفقها.

 

أوان للتقصدير

أوان للتقصدير  (صور هاجر عبيدي/الترا تونس)

 

  • "النحاس كالذهب"

تعتبر حرفة صناعة النحاس وصقله من أعرق وأبرز الحرف التقليدية التي تعود للقرن السابع للهجرة وهو تاريخ بناء سوق النحاس في الحاضرة وقد عرفت هذه الحرفة أوجها خلال القرن الثامن عشر كما كانت تشكل أهم حرفة يدوية توفر مواطن شغل للتونسيين ولئن شهد هذا القطاع ركودًا في فترات معينة فإن هذه التجارة ازدهرت مؤخرًا واكتست طابعًا عصريًا يلائم متطلبات العصر.  

كريم بلاح، تاجر نحاس ثلاثيني، ورث المهنة عن والده لـ"الترا تونس": رغم ارتفاع سعر النحاس إلا أن التونسي عندما يعثر على أوان عصرية متقنة الصنع فيها ابتكار وإبداع وتجديد يقبل على اقتنائها

كريم بلاح، هو تاجر نحاس ثلاثيني، ورث المهنة عن والده أمين سوق النحاس في تونس سابقًا وقد احترف مهنة تجارة النحاس منذ ستينيات القرن الماضي. يقول بلاح في حديثه لـ"الترا صوت تونس" إنه تحصل على الأستاذية في مجال التسويق منذ سنة 2008 ثم قرر الالتحاق بصنعة والده وذلك منذ 15 عامًا.

يؤكد كريم أنه رغم ارتفاع سعر النحاس إلا أن التونسي عندما يعثر على أوان عصرية متقنة الصنع فيها ابتكار وإبداع وتجديد يقبل على اقتنائها لقناعته بنجاعة وأهمية استعمال المنتوج التونسي الذي يعرف مصدره وطريقة صنعه، لافتًا إلى أن هذه التجارة كانت مقتصرة على موسم السياحة لكنها تحررت من ذلك وأصبحت مزدهرة على مدار السنة فيقتنى النحاس ليتم تقديمه كهدايا او لاستعماله في جهاز العروس.

ويضيف المتحدث "النحاس هي مادة صحية للطهي مائة في المائة وفي السابق كان التونسيون لا يتخلون عن الكروانة والطنجرة في المطبخ.. الأواني النحاسية لا تهترأ حتى بعد استعمالها مائة سنة يمكن "قصدرتها" وتنظيفها وتلميعها فتصبح جديدة وكأنه لم يتم استعمالها.. النحاس كالذهب يمكن استعماله بعد 100 سنة كما أن قيمته في ارتفاع متواصل.. لكن مهنة التقصدير هجرها الشباب لأنها متعبة وشاقة يستعمل فيها الأسيد وماء الفرق وتنتج عنها روائح مزعجة بالتالي لم يحافظ على هذه المهنة إلا قلة قليلة.. فقطعة النحاس ليتم قصدرتها بطريقة جيدة يجب أن تمر على أكثر من حرفي وتخضع للعديد من المراحل".

كريم بلاح، تاجر نحاس ثلاثيني لـ"الترا تونس": "النحاس هي مادة صحية للطهي والأواني النحاسية لا تهترأ حتى بعد استعمالها مائة سنة يمكن "قصدرتها" وتنظيفها وتلميعها فتصبح جديدة"

بدوره، أكد الحاج الهادي، تاجر نحاس في سوق النحاسين، لـ"الترا تونس" أن "التقصدير" يمر بمرحلتين، الأولى حرق القطعة النحاسية وغسلها بماء الفرق والثانية قصدرتها لدى حرفي متخصص في ذلك"، مشيرًا إلى أن تقصدير النحاس يعيد للقطعة النحاسية بريقها ولمعانها ويخلصها من اللون الأسود الذي يترسب في قاعها من فرط الاستعمال.

ويضيف محدث "ألترا تونس" أن طريقة استعمال الأواني النحاسية هي التي تحدد توقيت "تقصديرها"، موضحًا أن الابتعاد عن استعمال الكلور وتقليب الأكل بملعقة خشب يحافظ على ديمومة بريق القطعة النحاسية حتى لمدة 5 سنوات دون الاضطرار لتنظيفها لكن سوء استعماله يؤدي الى تنظيفه بصفة دورية.   

الحاج الهادي، تاجر نحاس في سوق النحاسين، لـ"الترا تونس": الابتعاد عن استعمال الكلور وتقليب الأكل بملعقة خشب يحافظ على ديمومة بريق القطعة النحاسية حتى لمدة 5 سنوات دون الاضطرار لتنظيفها

ويتفق الحاج الهادي الذي يزاول عمله في سوق النحاسين منذ 54 سنة مع كريم بلاح في ازدهار تجارة النحاس وإقبال التونسي عليها كذلك في عزوف الشباب عن مهنة "التقصدير" الشاقة فيقول "مات الكبير، ماتت الصنعة.. الشباب يمتنع عن تعلم حرفة تنظيف النحاس، ولاية صفاقس لم يعد فيها "قصادرية" أما في باجة فلم يبق سوى حرفيين اثنين من الكبار في السن..".

التقينا خلال جولتنا في سوق النحاس بحرفي في "تقصدير" النحاس احترف هذه المهنة التي ورثها عن أبيه منذ 50 سنة، كان "محمد" منشغلًا في "تقصدير" قطعة نحاسية وبكلمات مقتضبة أكد لنا أن عدد زبائنه يتزايد مع اقتراب شهر رمضان وأنه لا يغادر ورشته خلال هذه الآونة إلا ساعات قليلة ليتمكن من تجهيز طلبات حرفائه.

الحاج الهادي، تاجر نحاس في سوق النحاسين، لـ"الترا تونس": الشباب عازف عن مهنة "التقصدير" الشاقة، ولاية صفاقس لم يعد فيها "قصادرية" أما في باجة فلم يبق سوى حرفيين اثنين من المتقدمين في السن

ويؤكد محدث" ألترا تونس" أن تقصدير النحاس يحافظ على جمال شكله ويعيد له لمعانه وأنه يستعمل النار وماء الفرق لينظف الأواني النحاسية التي ترد عليه. 

 

ورشة لتقصدير النحاس

ورشة لتقصدير النحاس  (صور هاجر عبيدي/الترا تونس)

 

 

  • النحاس.. للحفاظ على القيمة الصحية للطعام

"الكروانة"، "المقفول"، "الكسكاس"، "الطنجرة"، "المهراس" و"الززوة" وغيرها هي أوان نحاسية لا غنى للمطبخ التونسي عنها سابقًا ولا مجال لتجهيز العروس إلا من خلالها وذلك لعدة أسباب أهمها توفرها بأسعار مناسبة وكذلك خلوها من أي مواد ضارة بالصحة مثل الأليمنيوم وغيره.

تتعدد فوائد الطهي في الأواني النحاسية فمادة النحاس تحافظ على المواد الغذائية وتعزز القيمة الغذائية للطعام كما خلصت عدة دراسات

وقد قل مؤخرًا الاهتمام بهذا النوع من الأواني إلا أن تجديدها وعصرنتها ساهما في ازدهارها مجددًا واكتساحها حتى لرفوف كبرى المغازات في تونس خاصة بعد الوعي بمخاطر المواد الأخرى التي تصنع منها الأواني على صحة الإنسان.    

وتتعدد فوائد الطهي في الأواني النحاسية فمادة النحاس تحافظ على المواد الغذائية وتعزز القيمة الغذائية للطعام كما خلصت دراسات إلى أن الطبخ في النحاس لا يدمر سوى 7 بالمائة من القيمة الغذائية للطعام عكس المعادن الأخرى التي تخفض القيمة الغذائية للأكل بنسب عالية جدًا.

جدير بالذكر أن أمين سوق النحاس كان قد دعا إلى إحداث مركز لتكوين الحرفيين بسبب تراجع عددهم مما يهدد ديمومة واستمرار هذه الحرفة.

 

أواني نحاسية قبل التقصدير

أوان نحاسية قبل التقصدير  (صور هاجر عبيدي/الترا تونس)

 

آنية بعد التقصدير

آنية بعد التقصدير  (صور هاجر عبيدي/الترا تونس)