06-نوفمبر-2022
كليم ومرقوم

مازال النسيج التقليدي يشكل مورد رزق العديد من الحرفيين خاصة في الأرياف

 

يصارع "المرقوم" و"الكليم" والنسيج اليدوي بصفة عامة من أجل البقاء رغم الصعوبات الاقتصادية والفنية التي تواجه هذه الحرفة المتوارثة عبر الأجيال والضاربة في القدم. ويأبى فن النسيج التقليدي والرسم على الصوف الاندثار بفضل تشبث الحرفيين حرّاس التراث بـ"صنعة اليدين" التي يعملون على تطويرها وإضفاء لمسات عصرية عليها لتتلاءم مع ديكورات المنازل الحديثة ولتحظى بإقبال الزبائن الذين يعتبرون العامل الأساسي لديمومتها.

يأبى فن النسيج التقليدي والرسم على الصوف الاندثار، بفضل تشبث الحرفيين وهم حرّاس التراث بـ"صنعة اليدين"

ويعدّ "المرقوم" من أهم المنسوجات الصوفية التي تشتهر بها العديد من مناطق البلاد خاصة في الجنوب التونسي، وهو سجّاد يشتهر بتنوع أشكاله الهندسية ورموزه المستوحاة من الثقافة الأمازيغية، كما أنه يميّز تونس عن سائر الدول المغاربية التي انفردت بحياكته. أما "الكليم" فهو نسيج صوفي أيضًا يستعمل كبساط أرضي أو كمعلقة حائطية يتكون من أشرطة متوازية ذات لون موحد.  

وتعتبر حياكة "المرقوم" و"الكليم" عملية دقيقة جدًا تتطلب جهدًا وصبرًا لتعدد مراحل ما قبل النسج، أولها جزّ الصوف وغسله ودهنه وتنظيفه بـ"القرداش" وغزله، ثم تكبيب خيوط الصوف وصباغتها وصولًا إلى مرحلة النسج والتي تستوجب الجلوس لساعات طوال وراء المنسج كما تتطلب إتقانًا وتفانيًا كبيرين في تمرير خيوط الصوف بين خيوط "السداية"، ودقّها بـ"الخلالة" لتلتحم الخيوط ببعضها وتصبح نسيجًا متماسكًا متناغمًا.

 

 

حقائب المرقوم

حسام الدين الشريف، هو مهندس معماري أصيل ولاية قفصة، نجح في المحافظة على إرث الأجداد بطريقة فريدة ومبتكرة، وذلك عبر تحويل المرقوم إلى حقائب يد وحامل وثائق وغيرها.. على اعتبار أن المرقوم لم يعد يتماشى مع الديكور العصري للمنازل.

يقول الشريف في حديثه لـ"لترا تونس" إنه يعمل مع الناسجات على تحسين المنتوج لأن الإشكال يكمن في تدهور نوعية المرقوم تبعًا لاحتكار التجار لهذا المجال واستعمالهم لأرخص أنواع الصوف وهو "صوف وذرف" واستعمال الناسجات للخيط الثنائي بهدف ربح الوقت ومضاعفة هامش الربح.  

 

حسام الدين الشريف: نجحنا في المحافظة على إرث الأجداد بطريقة فريدة ومبتكرة عبر تحويل المرقوم إلى حقائب يد وحامل وثائق

 

وتتمثل فكرة المتحدث في استعمال قطع مرقوم لتزيين الحقائب والمحامل على أن تكون ذات جودة عالية تستخرج من "صوف قصر هلال" وهو صوف ذو جودة عالية، وبهذه الطريقة يعود المرقوم للعهود المضيئة وينتشر حتى في الأسواق الخارجية وفقه، داعيًا مؤسسات الدولة في إطار المسؤولية الاجتماعية والاقتصاد التضامني إلى الإقبال على هذا المنتوج لاستعماله في الندوات والمؤتمرات.

يشير حسام الدين إلى أن فكرة تطوير المرقوم خطرت بذهنه عندما كان مهندسًا في جمعية صيانة مدينة قفصة، تحديدًا في شهر التراث الذي تم فيه إهداء محافظ "كليم" إلى الضيوف، كما طوّر فكرة المشروع برفقة صديقه صاحب مشروع صناعة بيع هدايا للمؤسسات وتم اقتراح محافظ "كليم" و"مرقوم" كهدايا.

حسام الدين الشريف (مهندس معماري) لـ"لترا تونس": تدهورت نوعية المرقوم نظرًا لاحتكار التجار لهذا المجال واستعمالهم لأرخص أنواع الصوف

كما لفت المتحدث إلى أن الدولة التونسية استنجدت بكليم قفصة للمرحوم حميدة وحادة لتزيين مطار جربة لاستقبال وفود القمة الفرنكوفونية، وهي عادة ليست جديدة فقد أهدى الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة رئيس أمريكا "جون كينيدي" والملكة "إليزابيث" كليم قفصة، مضيفًا: "إذا كان الكليم تراثًا تتشرف به البلاد وتعرضه للأجانب عند قدومهم اعتزازًا به، فلماذا تركته يندثر؟ المواد الأولية للكليم لم تعد توردها الدولة، وفقط الناسجات كبار السن يعرفن طريقة نسجه.. إذا كانت لدى الدولة رغبة في إنقاذ الكليم، فعليها بعث مشاريع لتعليم الفتيات خاصة المنقطعات عن الدراسة ليعود الكليم رافدًا من روافد التنمية والتشغيل" وفق تعبيره.

ويشير حسام الدين الشريف إلى أن نسيج المرقوم مازال متداولًا في الأرياف لأن النسيج يساعد المرأة الريفية على الحصول على قوت يومها ولأنه مهنة متوارثة أبًا عن جد.

 

"إذا كان الكليم تراثًا تتشرف به البلاد وتعرضه للأجانب عند قدومهم اعتزازًا به، فلماذا تركته يندثر؟" (حسام الدين الشريف)

 

وعن تاريخ النسيج اليدوي، يبيّن الشريف أن ولاية قفصة من أقدم المناطق التي نشطت في قطاع النسيج اليدوي ثم تحول النسيج فيها إلى أداء للتعبير عن الموروث التونسي الثقافي الديني والمجتمعي، وذلك عبر الرسوم التي تحاك على المنسوجات الصوفية. كما لفت إلى أن النسيج القفصي كان يزين قصور البايات وكان يعرض كهدايا للملوك والسلاطين.

 

 

وتابع: "الكليم التونسي كان مفخرة تونس، ويصدر إلى جميع أنحاء العالم ويجلب العملة الصعبة كما أنه كان الحل الأمثل للفتيات الريفيات المنقطعات عن الدراسة.. أنا على قناعة بأن الكليم والمرقوم هما مستقبل النسيج في تونس نظرًا لمزاياهم المتعددة، فالنسيج اليدوي لا تعلق به الأوساخ والأتربة كما أنه خفيف الوزن عكس المفروشات العصرية.. النهوض بالنسيج اليدوي التقليدي رهين الإرادة السياسية والتضامن الجهوي".

حسام الدين الشريف (مهندس معماري) لـ"لترا تونس": أنا على قناعة بأن الكليم والمرقوم هما مستقبل النسيج في تونس

المرود والخلالة لا يفارقانني

زينب حميدي هي أربعينية أصيلة ولاية سيدي بوزيد، ومقيمة في معتمدية بلخير التابعة لولاية قفصة، احترفت صناعة الكليم القفصي والكليم البوزيدي والمرقوم البوسعدي والوذرفي والزربية القروية وغيرها من فنون النسيج اليدوي منذ سنة 1994. حرفة اكتسبتها أبًا عن جد، كما غذّت معارفها بالمشاركة في دورات تكوينية تمكنت من خلالها من تطوير مهاراتها في النسج.

"منذ أكثر من 20 سنة لم يفارقني المرود والخلالة والمقص، فأحب الأوقات إلى قلبي هي تلك التي أقضيها وراء (السداية) لنسج مفروشات مختلفة الأشكال والأحجام.. منذ سن الثامنة عشر لم أنقطع عن النسج سوى في مناسبتي عيد الأضحى وعيد الفطر.. لا الثورة ولا جائحة كورونا منعاني من النسج وإنتاج مفروشات مليئة بالزخارف والرسوم.."، وفقها.

زينب حميدي (حرفية في صناعة الكليم) لـ"الترا تونس": الدولة لا تشجع الحرفيات على الرغم مما يواجهنه من صعوبات في الحفاظ على الموروث الثقافي اللامادي

وتضيف الحميدي في حديثها لـ"الترا تونس" أنها بعثت مشروعها الخاص منذ فترة طويلة، فتزاول عملها في ورشة صغيرة بمعية 12 حرفية كما تتعامل مع بعض كبار السن في الأرياف اللاتي لديهن منسج ويحترفن صناعة المفروشات والأغطية.

 

"ارتفاع سعر المنتجات اليدوية عائد إلى ارتفاع تكلفة اليد العاملة وأسعار المواد الأولية" (حسام الدين الشريف)

 

ولفتت الحرفية إلى الإقبال الهام من قبل الشباب إناثًا وذكورًا على تعلم النسيج اليدوي وكذلك على إقبال الحرفاء على منتوجاتها المعروفة بجودتها العالية، مبينة أن أسعار المواد الأولية تتراوح بين 9 دنانير و17 دينارًا للكيلو الواحد من الصوف بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة اليد العاملة وهو ما يفسر ارتفاع سعر المنتجات اليدوية.

كما بينت أنها تروج إلى منتوجاتها عبر منصات التواصل الاجتماعي، وتتنقل كذلك إلى الأسواق في جربة والقيروان وتوزر وغيرهم لبيع ما تقوم بنسجه، وأعربت عن استيائها من عدم تشجيع الدولة للحرفيات على الرغم مما يواجهنه من صعوبات في الحفاظ على الموروث الثقافي اللامادي.

 

حسام الدين الشريف: "استنجدت تونس بكليم قفصة للمرحوم حميدة وحادة لتزيين مطار جربة لاستقبال وفود القمة الفرنكوفونية"

 

على الرغم من أن النسيج اليدوي في تونس يواجه العديد من العقبات، لعل أبرزها عزوف الشباب عن تعلم هذه الحرفة وممارستها، وتراجع الطلب على بعض المنتوجات التقليدية، فإن النسيج التقليدي مازال يشكل مورد رزق العديد من الحرفيين والناسجين خاصة في الأرياف ولا يكاد يخلو بيت من "سداية" أو ما يعرف بالنوال، ولا من مفروشات أرضية وأغطية صوفية.

وقد ظلت برامج تثمين النسيج التقليدي والنهوض به صورية، تقتصر على مناسبات سنوية كالمهرجانات والمعارض الوطنية والدولية، في حين أن أهم عنصر لرد الاعتبار للنسيج اليدوي هو تشجيع الحرفيين لمواجهة الركود الذي حال دون تمكنهم من مواصلة الاستثمار في مجالهم.