23-ديسمبر-2018

لم يكن يخلو أي مطبخ تونسي في العقود الماضية من الأواني النحاسية (مريم الناصري/الترا تونس)

طقطقة المطارق والمسامير ورنتها في خفّة وتناسق، تلك أولى الأصوات التي تبلغ آذانك أول ما تطأ قدميك أحد أزقة المدن العتيقة في أغلب الجهات التونسية، وتحديدًا في أسواق النحاسين.

باتت أعداد دكاكينهم اليوم قليلة مقارنة بالسنوات الماضية، لكن أصوات مطارقهم مازالت تملأ كل أروقة تلك المدن والأسواق التي تستقبل حرفاء من جنسيات مختلفة.

ورغم رونقه وزينته وجمال صنعه وتزويقه، إلا أنّ استعمال النحاس بات يواجه الاندثار لدى العديد من العائلات، بسبب طغيان استعمال الزجاج والبلاستيك والألمنيوم، وكذا لارتفاع أسعار النحاس بشكل مطرّد.  

صناعة ونقش النحاسة من الحرف اليدوية التقليدية في تونس (مريم الناصري/الترا تونس)

اقرأ/ي أيضًا: صناعة الأواني الخشبية: عادة قديمة وتجارة تزدهر في المواسم الكبرى

وتُعتبر صناعة ونقش النحاس من أبرز الفنون الحرفية في تونس على مرّ العصور، ومن أكثر الحرف اليدوية التقليدية التي وفرت مواطن شغل في السابق لعديد الحرفيين في أسواق النحاس في عدّة مناطق تونسية على غرار العاصمة والقيروان وسوسة ونابل. حيث كانت تبدع أيديهم في صناعة تحف فنية وأواني وأطباق وأباريق ومباخر وديكورات منازل لا تستغني عنها أي عائلة تونسية فقيرة كانت أم غنية.

وقد كان يعج سوق النحاس بالعاصمة الذي تمّ تشييده منذ القرن الثامن عشر ميلادياً، بعدد كبير من الحرفيين مهمتهم صهر قطع النحاس القديمة وإعادة تشكيلها إلى تحف جديد، وآخرون يلمعون الأواني وكلّ المصنوعات النحاسية، حتى تصل إلى أولئك الذين ينقشون الرسومات والأشكال المبهجة على تلك المصنوعات في سوق دائما ما كان يعج بالحرفاء.

صناعة ونقش النحاس هي من أبرز الفنون الحرفية في تونس على مرّ العصور وسط خشية من اندثارها اليوم

ولكن يكفي اليوم أن تقوم بجولة في أزقة تلك المدن العتيقة حيث أسواق النحاسين حتى تكتشف العدد الصغير من الورش والمحلات المخصصة لهذه الحرقة وذلك بعد اغلاق العديد منها. كما تلحظ تراجع وخفوت بريق هذه المهنة التي كانت إحدى أبرز العلامات التجارية والسياحية لجميع المدن التونسية التي تصدر منتوجاتها إلى الخارج. 

يقول محمّد شاوش صانع أواني النحاس لـ"ألترا تونس" إنّ المنتوجات النحاسية كانت توجد في كل ركن وزاوية من البيت التونسي، خاصة الأواني المنقوشة كالأباريق والمزهريات والصحون والأطباق، لكن يؤكد اندثارها اليوم من أغلب المنازل رغم أنّ أسعارها في المتناول عكس ما يُروج، وفق تأكيده.

ويشيرأن هذه الأواني تدوم لزمن طويل، ويمكن حتى بيعها بعد سنوات كقطع أانتيكا" أو بيعها لإعادة تدويرها، إذ يعتبر النحاس من أبرز المواد التي يمكن صهرها وإعادة تدويرها وصناعتها من جديد.

الأواني النحاسية هي عنصر رئيسي في مقتنيات المطبخ التونسي قديمًا (مريم الناصري/الترا تونس)

ويبيّن محدّثنا قائلًا: "إن صناعة هذه الحرفة تتطلب الكثير من الجهد والصبر والوقت، ولا يمكن أن يؤدي هذه المهمة سوى حرفي متمرس متمكن من حرفته، لكن للأسف أغلب الشباب اليوم لم يعد يقبل على تعلّم هذه الحرفة التي قاربت على الاندثار".  

وكل ما تتطلّبه المهمة طاولة بسيطة ومطرقة ومسمار صغير لنقش رسوم مختلفة على تلك الأواني، وخاصة الأطباق التي تزوق أحيانًا ببعض الخطوط العربية ورسومات بعض المدن والمعالم التونسية كجامع الزيتونة أو سيدي بوسعيد أو بعض من جمال الصحراء التونسية.

اقرأ/ي أيضًا: "الأنتيكا".. رزق للفقراء وهواية لبعض الأثرياء

ويخبرنا العم عمار الذي تجاوز العقد السابع من عمره، أن عملية النقش تبدأ بعد اختيار الأشكال والخطوط المناسبة لكل آنية، إذ ترسم الأشكال أولًا ببعض الأقلام الفولاذية التي تحدد الرسم كامًلا، ثم يتم تتبع تلك الخطوط بالمطرقة والمسمار إلى أنّ ينتهي الشكل المطلوب.

وعن تلك الأواني والأباريق والأطباق التي لا تحمل أي نقش، يفيد محدّثنا قائلًا: "يطلب بعض الحرفاء رسومات معيّنة يحدّدون شكلها وطريقة الكتابة عليها، فيما نقوم نحن برسم ما يطلبه منا الحريف".

يقاطعه، في الأثناء، أحد الحرفاء ليسأل عن سعر طبق، ليجيبه العم عمار أنه بـ45 دينارًا، ويبقى الحريف يشاهد تلك النقوش على كلّ الأطباق ثم يذهب إلى حال سبيله.

"سعر مقبول مع قيمة النحاس، وفي متناول كلّ عائلة، لكن مع ذلك تراجعت مبيعات هذه المنتوجات كثيرًا مقارنة بالسابق". هكذا يقول محدّثنا العم عمار.

حرفيو النقش على النحاس يؤكدون أن أسعار قطع النحاس في المتناول (مريم الناصري/الترا تونس)

وعن أكثر مبيعات قطع النحاس، يشير الحرفي لـ"الترا تونس" إلى أنّ أواني الشاي بكل أشكالها وأنواعها، هي الأكثر مبيعًا لأنها أصبحت تستعمل للزينة والديكور، وتليها الأطباق والمصابيح و"المهراس" الذي لا تستغني عنه أغلب العائلات التونسية وفق تأكيده.

مع ذلك كغيرها من عديد الحرف، تسير حرفة النقش على النحاس نحو الانقراض، بسبب اجتياح المنتوجات الصينية للأسواق المحلية، وارتفاع تكلفة الإنتاج وصعوبة تسويقه في الداخل والخارج، خاصة مع ارتباطه بشكل كبير مثل باقي الحرف والصناعات التقليدية بقطاع السياحة الذي شهد تدهورًا كبيرا في السنوات الماضية.

يخبرنا، من جهته، الحرفي عمر مصطفى، الذي أمضى أكثر من ثلاثين سنة في هذه الحرفة، إلى أنّ أغلب الحرفيين هجروا المهنة نتيجة ارتفاع سعر النحاس، بل وتضاعفه خلال السنوات الأخيرة. ويوضح أنه بعد أن كان الكيلوغرام الواحد في حدود 15 دينارًا، أصبح يتراوح السعر اليوم بين 30 و40 دينارًا، وهو ما رفّع في سعر المنتوجات النحاسية، ولكن يؤكد أن ذلك لا يعني أنها باهظة الثمن كثيرًا، فأغلب المنتوجات تباع بأقل حتى من أسعار بعض المنتوجات البلورية والفولاذية، وفق قوله.

قطع من النحاس معروضة للبيع في سوق النحاس بتونس العاصمة (مريم الناصري/الترا تونس)

اقرأ/ أيضًا:

سوق الذهب في تونس.. كساد غير مسبوق وتجار المصوغ يستغيثون

باعة المشموم.. عندما يتحوّل الياسمين إلى خبز