وأنت تتجول في زقاق المدينة العتيقة بالحمامات، الواقعة في الشمال الشرقي للبلاد التونسية، تنجذب إلى جمال المنازل والشُرف والشبابيك والبلاط فتأخذك الهندسة المعمارية ذات الطابع الفريد الممزوج بعبق الماضي في رحلة إلى زمن بعيد أتقن أهله تشييد مدينة عريقة حافظت على سحرها وروعتها رغم مرور السنين.
توجه مالكو بعض المنازل بالمدينة العتيقة بالحمامات إلى تسويغها للمتقاعدين الأجانب الذين يخيّرون قضاء فترة التقاعد في هذه المدينة الساحلية التاريخية
مدينة التاريخ تعود إلى القرن التاسع ميلادي، شيّدها الأغالبة وتم تحصينها بأسوار عظيمة بُنيت بشكل متوازي الأضلاع يبلغ سمك الضلع منها 6 أمتار، كما تم تجهيزها بأبراج مراقبة، وتتخللها 3 أبواب حديدية وهي باب السوق وباب البحر وباب القبلي الذي اندثر.
هذه الثروة المعمارية التقليدية حافظت على تراثها الإنساني والمعماري وعلى صدارة أكثر المواقع زيارة في مدينة الحمامات، فموقعها الاستراتيجي يجمع بين جمال الشاطئ وزرقة مياهه، وتنوع الأسواق وثرائها بالمنتجات التقليدية. كما أن الجانب التاريخي لهذه المدينة يستحوذ على الجزء الأكبر من اهتمام الزوار.
وقد تم إيلاء اهتمام بالغ بتاريخ المدينة، تلحظه خلال جولتك بين الشوارع الضيقة الملتوية، فترى جدران المنازل مطلية باللون الأبيض يمتزج بزرقة الشبابيك والأبواب فيضفي على المكان انسجامًا يبعث على الراحة والسكينة، النقوش والزخارف على الأبواب والشُرف حافظت على عراقتها وأصالتها، كما ساهمت الدكاكين والمتاجر في بعث حركية تقوّض الهدوء والصمت الذي يخيّم على المكان.
ولئن تشهد السياحة في تونس نوعًا من الركود خلال فصل الشتاء، فإن مدينة الحمامات تعج بالسياح الذين تظن للوهلة الأولى أنهم قادمون فقط لقضاء عطلة، لكن بالتواصل معهم ومع تجار المدينة تكتشف عكس ذلك.
- أغلب سكان المدينة العتيقة أجانب
فخري هو كهل خمسيني صاحب دكان يقع في إحدى أنهج المدينة العتيقة مختص في بيع الأواني الفخارية والأقمشة التقليدية كـ"الحايك" و"الحرام" و"الزرابي المرقوم" وغيرها من الصناعات التقليدية التي تستقطب العديد من الحرفاء خاصة منهم الأجانب. يقول فخري في حديثه لـ"الترا تونس" إنه ورث دكان الصناعات التقليدية أبًا عن جد وإنه يتردد على المدينة العربي منذ نعومة أظافره، فعاصر كل التغيرات التي طرأت عليها خاصة في الخمسة عشر عامًا الأخيرة.
تاجر صناعات تقليدية بالحمامات لـ"الترا تونس": جلّ سكان المدينة العتيقة بالحمامات حاليًا هم أجانب قادمون من إيطاليا وروسيا، البعض منهم لا يعود إلى بلده الأصل إلا لقضاء عطلة قصيرة
"لقد شهدت جلّ المنازل في المدينة العربي ترميمات خلال الفترة الأخيرة، فعمد البعض إلى إضفاء تحويرات عليها من الداخل مع المحافظة على طابعها التقليدي، فهي مشيدة بأحجار سميكة وبسيراميك عريق لا وجود لمثيله في الوقت الراهن.. لكن مساحات هذه المنازل صغيرة لا يتجاوز بعضها الثمانون مترًا، ومع تعدّد الورثاء، فإن بيعها والتفويت فيها لا مصلحة منه، وبالتالي توجه مالكو هذه المنازل إلى تسويغها خاصة في ظل وجود إقبال كثيف عليها من قبل المتقاعدين الأجانب الذين يخيّرون قضاء فترة التقاعد في الحمامات المدينة الساحلية التاريخية".
يضيف فخري أن جلّ سكان المدينة حاليًا أجانب قادمون من إيطاليا وروسيا، البعض منهم يقيم في الحمامات منذ 15 سنة ولا يعود إلى بلده الأصل إلا لقضاء عطلة لا تتجاوز أسبوعين، في حين أن عائلاتهم تقوم بزيارتهم من حين إلى آخر خاصة في فصل الاصطياف للاستمتاع بعذوبة الشواطئ.
ويؤكد تاجر الصناعات التقليدية على أن سكان المدينة الأجانب يحتكون بالتجار ويقبلون على اقتناء ما يعرض من أوان فخارية ونحاسية ومنتجات الجلد كالأحذية والحقائب وغيرها من المفروشات والستائر التي تضفي طابعًا تونسيًا بامتياز على المنازل التي يسوغونها، لكنهم حذرين كثيرًا في التعامل مع التونسيين بصفة عامة ويحاولون الحفاظ على مسافة تؤمن لهم العيش بحرية ودون تطفل من أي كان.
تاجر صناعات تقليدية بالحمامات لـ"الترا تونس": ساهم وجود سكان أجانب بالمدينة في إنعاش السوق وانتشالها من حالة الركود
"لقد ساهم وجود سكان أجانب بالمدينة في إنعاش السوق وانتشالها من حالة الركود التي تعاني منها سائر أسواق الصناعات التقليدية الأخرى، وشخصيًا تمكنت من تعلم اللغة الروسية بفضل جارة استقرت بالمدينة العتيقة منذ حوالي عشر سنوات، لكن الإيطالية كنت قد تعلمتها منذ الصغر خلال التردد على الدكان لمساعدة والدي".
الأجانب بدورهم وجدوا ضالتهم في تونس وخاصة في المدينة العتيقة بالحمامات، فتسويغ منزل لا يكلفهم سوى 300 أورو، أي حوالي 1200 دينار تونسي شهريًا، وهو مبلغ زهيد مقارنة بارتفاع الأسعار في بلدانهم، سواء في فواتير الغاز والماء أو في المعيشة بصفة عامة علاوة على تمتعهم طيلة السنة بالطقس المعتدل في تونس وبالشواطئ الساحرة".
"رافايال" هو سبعيني تجمعه علاقة صداقة بالتاجر فخري، يقطن وزوجته في الحمامات، قدم من إيطاليا للاستقرار بالحمامات منذ حوالي خمس سنوات. يقول إنه استعان بوكالة أسفار لتسويغ المنزل الذي يقطن به حاليًا، وإنه يفكر منذ سنوات في قضاء فترة ما بعد التقاعد في تونس، البلد الذي زاره لأول مرة في سن الثلاثين ودأب على زيارته بصفة شبه دورية. كما أكد أنه "يستهلك تونسي" وأصبح قادرًا على إعداد العديد من الأطباق التونسية الدسمة أبرزها "الكسكسي" و"الطاجين".
الأجانب وجدوا ضالتهم في المدينة العتيقة بالحمامات، فتسويغ منزل لا يكلفهم سوى 300 أورو، وهو مبلغ زهيد مقارنة بارتفاع الأسعار في بلدانهم
- المدينة العتيقة بالعاصمة.. إرث مهدور
المدينة العتيقة بالعاصمة لا تقل أهميتها التاريخية والرمزية على نظيرتها بالحمامات، بل إنها تجمع على امتداد مساحة ثلاثة كيلومترات العديد من المعالم التاريخية، لعل أبرزها جامع الزيتونة المعمور والمقامات وقصور البايات، مع ذلك فإن العديد من أزقتها وشوارعها، طالها الخراب وتصدعت الجدران وزال طلاؤها واهترأ البلاط، كما تحولت العديد من المنازل رغم أهميتها وقيمتها التاريخية إلى حطام فأوصدت أبوابها لتفادي تحولها إلى مأوى للمشردين.
بدورها، تحولت بعض اللؤلؤات المعمارية إلى "وكايل" وهي عبارة عن مجموعة من الغرف المتجاورة أغلبها آيل للسقوط، يتشارك سكانها في المطبخ وفي دورة المياه، وهي منازل قديمة تنبعث منها رائحة الرطوبة وتستقطب كل من يبحث عن استئجار غرفة بسعر منخفض يتراوح بين 50 و60 دينار شهريًا.
"رافايال" (70 سنة): قدمتُ من إيطاليا مع زوجتي للاستقرار بالحمامات منذ حوالي 5 سنوات، وأفكر في قضاء فترة ما بعد التقاعد في تونس
الإهمال أفقد المدينة العتيقة بالعاصمة رونقها، حتى إن الخراب الذي طال بعض معالمها طغى على قيمتها التاريخية وأصبح مصدر تهديد لسكانها، ولئن تمكّن البعض من مالكي العقارات العتيقة في المدينة من ترميمها والاستثمار فيها عبر تحويلها إلى مقاه أو نزل صغيرة ذات طابع معماري تقليدي، فإن البعض الآخر لم يتمكن من الترميم لأسباب مادية أو لأن العقار على ملك أجانب لا يمكنه التصرف فيه.
تردي حالة العديد من المباني أسال حبرًا كثيرًا، وتمت دعوة السلطات إلى التدخل في أعمال الصيانة والترميم لتستعيد المدينة العتيقة بالعاصمة بريقها وتصبح وجهة مميزة للزائرين سواء من الداخل أو الخارج، إلا أن الوعود بالتدخل لترميم العديد من المدن العتيقة في مختلف أنحاء الجمهورية يظل حبرًا على ورق.