29-سبتمبر-2022
أزمة السكن في تونس

رئيس غرفة الباعثين العقاريين: ارتفاع كلفة العقارات خارج عن نطاقنا ونطاق الدولة وشركات البناء (الشاذلي بن إبراهيم/ NurPhoto)

 

يتواصل نسق ارتفاع أسعار العقارات والأراضي الصالحة للبناء ومواد البناء في تونس بشكل لافت، مما يجعل التفكير في امتلاك بيت حلمًا صعب المنال خاصة في صفوف الشباب المعطل عن العمل، والذي يلجأ للمهن الهشة كحلّ وقتي لمكافحة آفة البطالة. 

ولعلّ الحديث عن العقارات وأشغال البناء لا يحظى باهتمام كبير من قبل أغلب شرائح المجتمع، وكيف ذلك والحال أن المواطن التونسي بالكاد يتمكن من تحصيل قوت يومه وعائلته في ظل غلاء الأسعار غير المسبوق الذي تشهده المواد الغذائية وجميع المستلزمات الحياتية!

بات التفكير في امتلاك بيت حلمًا صعب المنال خاصة في صفوف الشباب المعطل عن العمل، والذي يلجأ للمهن الهشة كحلّ وقتي

"استأجرت منزلًا منذ أن تزوجت سنة 2009 على أمل أن أوفر نصيبًا طيبًا من المال بالشراكة مع زوجتي يخوّل لنا شراء شقة أو قطعة أرض نشيّد فوقها منزلًا يؤوينا ويُخلّصنا من جحيم الإيجار.. مرّت 13 سنة ولم أتمكّن من شراء ولو قطعة أرض صغيرة. انهمكت في توفير متطلبات عائلتي التي ارتفع عدد أفرادها إلى خمسة، وانقطعت زوجتي عن العمل بسبب مرض ألمّ بها. وأمام الارتفاع المستمر في أسعار العقارات، عجزت عن تحقيق حلمي في امتلاك بيت خاصة وأني أشتغل عاملًا يوميًا ولا يسعني الاقتراض من البنوك بسبب عدم توفر الشروط اللازمة لهذه العملية، أهمها العمل القار والقدرة على تسديد الدين".

يقول أسامة وهو كهل تجاوز عقده الرابع بسنوات لـ"الترا تونس"، إن إيجار شقته الكائنة في مدينة "المروج" يكلفه 550 دينارًا شهريًا بالإضافة إلى معاليم سداد الفواتير والمصاريف اليومية التي ما فتئت ترتفع، فيجد نفسه عاجزًا عن توفير متطلبات عائلته، ولولا المد التضامني العائلي الذي يحظى به من قبل إخوته لوجد نفسه في الشارع دون مأوى، وفقه.

أسامة لـ"الترا تونس": عجزت عن تحقيق حلمي في امتلاك بيت بعد 13 سنة من الزواج، خاصة مع عدم قدرتي على الاقتراض من البنوك لأنه لا تتوفر فيّ الشروط اللازمة

أسامة وغيره من التونسيين فقدوا الأمل في امتلاك منزل أو شقة صغيرة تقيهم من لهيب أسعار الإيجار التي تجاوزت في الأحياء الشعبية الـ600 دينارًا ناهيك عن الأسعار في الأحياء الراقية والتي يتراوح فيها إيجار الشقة بين الألفي والثلاثة آلاف دينار. وعلى اعتبار أن مقاطعة كل ما بهظ ثمنه هو شعار التونسي الذي لا خيار لديه سواه في هذه المرحلة، فإن استئجار منزل أو شقة هو الحل الذي لجأ إليه العديد من التونسيين. وقد بينت إحصاءات كشف عنها مدير عام مؤسسة "سيغما كونساي" سنة 2019 أن 23% من التونسيين لا يملكون منازل خاصة بهم وأغلبهم من فئة الشباب. كما لفت إلى أن 50% ممّن لا يمتلكون منازل قد فقدوا الأمل في التملّك، وفقه.

  • لهيب أسعار مواد البناء يرهق التونسي   

تم يوم 22 سبتمبر/ أيلول الجاري تفعيل الزيادة في سعر الإسمنت التي قدرت بـ6% للطن الواحد، ليرتفع بذلك السعر لدى تجار التفصيل بدينار لكيس الإسمنت الواحد أي ما يوافق 18 دينارًا، وبالتالي سيتراوح سعر البيع لعموم المواطنين بين 20 دينارًا و21 دينارًا، كما ستؤثر الزيادة على جميع المواد الأخرى المصنّعة بالإسمنت.

كما شهدت أسعار حديد البناء موجة ترفيع متواترة آخرها في ديسمبر/ كانون الأول 2021 حيث رفّعت وزارة التجارة وتنمية الصادرات في مختلف أنواع حديد البناء بنسبة 14% وهو ما ساهم في تحميل المواطن والفاعلين في القطاع العقاري أعباء إضافية.

وقد أوضح رئيس الغرفة الوطنية لمقاولي البناء والأشغال مهدي فخفاخ أن تحديد زيادة بـ6% في سعر الإسمنت يضر بالمقاولين الذين لديهم مشاريع مع الدولة أسعارها غير قابلة للمراجعة، لأن التكلفة ترتفع والمقاول لا يمكنه تغطية ذلك، وبتجاوز هذه الكلفة لا يستطيع بالتالي الاستمرار في الأشغال، وفقه.

ولفت محدث "الترا تونس" إلى أن الزيادة الأخيرة في سعر الإسمنت سترفّع في سعر الخرسانة المصنّعة إلى أكثر من 40 د في المتر مكعب، وتليها زيادات في كل ما له علاقة بهذه المادة، مستنكرًا عدم التنسيق بين الغرف ومصنعي الإسمنت والمقاولة ووزارة التجارة ووزارة التجهيز لأن هذه الزيادات ستنعكس مباشرة على المشتري العمومي. وتساءل: "يا ترى هل هناك قابلية لتعويض المقاولين؟ وهل درست هذه الزيادة كم ستكلّف مشاريع الدولة التي هي في طور الإنجاز؟".

كما اعتبر أن الزيادات في أسعار الحديد بـ 60% والخشب 100% سنة 2021 خلق إشكالًا كبيرًا، لافتًا إلى أن 4 مشاريع عمومية في ولاية قابس تم إلغاؤها كما تم فسخ عقد مشروع المعهد النموذجي بولاية الكاف وفسخ عقدين بباجة. مشيرًا إلى أن المشروع الذي يتم فيه فسخ العقد تزداد تكلفته مرة ونصف بعد القيام بطلب عروض جديد، قائلًا: "ما الفائدة من فسخ عقد وتسريح مقاول وتكبيد الدولة خسائر مادية؟ يفترض أن يتم جبر الضرر للمقاول ليتمكن من استكمال مشاريع الدولة. نطالب بنشر المرسوم المتعلق بمراجعة الأسعار والذي صادق عليه رئيس الدولة ورئاسة الحكومة في الرائد الرسمي".

رئيس غرفة مقاولي البناء والأشغال لـ"الترا تونس": الزيادة الأخيرة في سعر الإسمنت سترفّع في سعر الخرسانة المصنّعة وستنعكس بالتالي على المشتري العمومي

وشدد المتحدث على أن ارتفاع أسعار مواد البناء من شأنه أن يقلص من عدد مشاريع الدولة لأن ميزانية التنمية محددة، وبالتالي يتأثر العملة مباشرة، مشيرًا إلى أن القطاع خسر بين سنتي 2021 و2022، 20% من قدرته التشغيلية أي أنه تم فقدان 120 ألف موطن شغل من جملة 520 ألف جرّاء انعدام المشاريع والمشاكل التي شهدها.

كما اعتبر أن قطاع البعث العقاري يشارف على الانقراض في بلادنا علاوة على نقص مشاريع الدولة بسبب عدم توفر الإمكانيات.

  • ارتفاع جنوني في أسعار العقارات

سجلت أسعار الشقق ارتفاعًا بنسبة 1.3% كما ارتفعت أسعار الأراضي السكنية بنسبة 9.6% فيما زادت أسعار المنازل بنسبة 2.1%، وقد ارتفع المؤشر العام لأسعار العقارات خلال الثلاثي الرابع من سنة 2021 بنسبة 6.2% وفقا لإحصاءات المعهد الوطني للإحصاء.

ونظرًا لاستحالة تمكّن العائلات التونسية خاصة منها متوسطة الدخل من اقتناء قطعة أرض والانطلاق في أشغال البناء، فإن الإقبال على الشقق الجاهزة من قبل الباعثين العقاريين هو الطريق الوحيد لامتلاك بيت بالنسبة للعديد من العائلات في ظل أزمة السكن الراهنة، وهو الحل الذي خيّرته "حنان" أستاذة تعليم ابتدائي وأم لطفلين، قضّت حوالي خمس سنوات في منزل مستأجر. 

حنان (أستاذة) لـ"الترا تونس": أذهلني الارتفاع الجنوني في أسعار المنازل، وسئمت في الوقت نفسه عدم الاستقرار، بعد الانتقال بين ثلاثة منازل للإيجار في 5 سنوات فقط 

تقول حنان لـ"الترا تونس": "لقد سئمت عدم الاستقرار، ففي خمس سنوات انتقلت بين ثلاثة منازل، في المرة الأولى استأجرت منزلًا بقيمة 300 دينار بمنوبة، لكن سرعان ما تفطنت إلى وجود رطوبة فتكت بجميع جدرانه فاضطررت إلى مغادرته نحو مسكن آخر بقيمة 500 دينار، لكن بعد مرور سنة طالب مالكه بزيادة تقدر بـ50 دينارًا، فانطلقت في رحلة بحث عن منزل آخر.. ومن ثم بدأت التفكير جديًا في شراء منزل مستقل أنعم في بالاستقرار، لكن الارتفاع الجنوني في أسعار المنازل أذهلني، فالمنزل البسيط الذي لا تتجاوز مساحته 150 مترًا تقدر قيمته بـ200 ألف دينار وأكثر، وهو مبلغ لا يمكنني الحصول عليه ولو بقروض من البنك".

تقول حنان إنها وبعد بيع نصيبها من ميراث والدها تمكنت من الحصول على قرض بقيمة 50 ألف دينار، فيما تحصل زوجها بدوره على قرض بقيمة 30 ألف دينار، وأقبلا على شراء شقة في حي شعبي تبلغ مساحتها 90 مترًا وتكلفتها 110 آلاف دينار. تعتبر المتحدثة أنها محظوظة لتمكنها من اقتناء شقة لكن ما يحز في نفسها هو عدم قدرتها على توفير منزل مستقل لتفادي توريث أزمة السكن لأطفالها مستقبلًا.

حنان (أستاذة) لـ"الترا تونس": تمكنت من اقتناء شقة عبر قرض، لكن يحز في نفسي عدم قدرتي على توفير منزل مستقل لتفادي توريث أزمة السكن لأطفالي مستقبلًا

  • أزمة ترخي بظلالها على قطاع العقارات

لفت رئيس غرفة الباعثين العقاريين فهمي شعبان إلى أن كلفة العقارات ارتفعت مقارنة بسنة 2010 بنسبة 120% بسبب غلاء أسعار بعض مواد البناء التي شهدت في الفترة الأخيرة ارتفاعًا، وحتى تلك التي حافظت على أسعارها يرجّح أن ترتفع في الفترة المقبلة، مشيرًا إلى أن مواد المقاطع (الرافعات وغيرها) شهدت بدورها ارتفاعًا نتيجة ارتفاع أسعار المحروقات، بالإضافة إلى المواد التكميلية كالخشب والبلور وتجهيزات المطبخ والمكيفات والدهن وهي مواد مصنعة أو نصف مصنعة تتأثر بالأسعار العالمية.

وأكد فهمي شعبان في حديثه لـ"الترا تونس"، أن جائحة كورونا أثرت على العديد من المصانع التي أغلقت أبوابها وتوقف إنتاجها، وبالتالي تزايد الطلب في العالم على المواد الأولية والتكميلية وهو ما ينعكس سلبًا على تكلفتها بالإضافة إلى تدهور قيمة الدينار مقابل اليورو، وآثار الحرب بين روسيا وأوكرانيا. معتبرًا أن الارتفاع في الأسعار وبالتالي ارتفاع كلفة العقارات، خارج عن نطاق الدولة والباعثين العقاريين وشركات البناء لأنها زيادات مفروضة عالميًا. ومع ذلك، على الدولة أن توجد حلولًا بالتعاون مع القطاع الخاص لأن المواطن والباعث العقاري وقطاع العقارات برمّته قد تضرّر.

رئيس غرفة الباعثين العقاريين لـ"الترا تونس": كلفة العقارات ارتفعت مقارنة بسنة 2010 بنسبة 120% بسبب غلاء أسعار بعض مواد البناء

كما بيّن فهمي شعبان أن الباعث العقاري عندما يشيّد بناية ينتفع منها أكثر من 300 مهنة ونشاط، منها المباشر وغير المباشر، أي أن عدد المنتفعين سيكون بالآلاف منهم عمال مصانع الخشب والمزودين والصناعيين والمقاولين والمهندسين وغيرهم.. وبالتالي على الدولة إيجاد حلول لينتفع الجميع وتتحرك عجلة الاقتصاد، وفق وصفه.

واقترح المتحدث على الدولة تحديد نسبة فائدة مديرية خاصة لا تتجاوز 3% بما فيها الفائدة البنكية لكل مواطن مقبل على اقتناء منزل نظرًا لتدهور مقدرته الشرائية وارتفاع أسعار العقارات، وذلك عبر خط تمويل مثل الذي صادقت عليه حكومة هشام المشيشي في البرلمان ولم يتم إمضاؤه، بالإضافة إلى التخفيض في التمويل الذاتي من 20% إلى 10%، والتمديد في مدة سداد القروض من 25 إلى 35 سنة، وكذلك تمديد الضمان بالنسبة للتأمين من 70 سنة إلى 75 سنة على اعتبار أن أمل الحياة لدى المواطن التونسي أصبح أكبر.

رئيس غرفة الباعثين العقاريين لـ"الترا تونس": يجب التخفيض في التمويل الذاتي من 20% إلى 10%، والتمديد في مدة سداد قروض العقارات من 25 إلى 35 سنة

واعتبر فهمي شعبان أنه لا وجود لحلول أخرى خلافًا لتمكين المواطنين من تسهيلات تخول لهم اقتناء مساكن لأن التخفيض في الأسعار غير ممكن لارتباطه الوثيق بعوامل خارجية، مشيرًا إلى أن ذلك من شأنه أن يعود بالنفع على المواطن والقطاع العقاري وعلى المالية العمومية.

جدير بالذكر أن أزمة السكن قائمة في تونس وتزداد حدة يومًا بعد يوم، في حين أن عدد الشقق الشاغرة يتجاوز الـ500 ألف شقة، لكن المواطن التونسي لم يعد قادرًا على مجاراة نسق الارتفاع الجنوني في أسعار البيع ناهيك عن أن أزمة السكن هذه ساهمت في بروز ظاهرة البناء الفوضوي التي استحوذت على 40% من المباني في تونس.