انتهت الأيام الحلوة التي قضاها رئيس الحكومة التونسية السابق يوسف الشاهد على رأس السيادة المطلقة في البلاد، ولم يتبق في الحلق سوى ذكرى الرحيق المختوم، ومشاهد الأيام الخوالي حين كان يصول ويجول وينصّب ويعزل غير مبال بزعامات ولا بأحزاب، في زهو وخيلاء لم تشهدها الساحة السياسية التونسية خلال عشرية عجيبة مرت فيها البلاد بثماني حكومات متعاقبة.
كثير من الملاحظين يعتبرون أن التاريخ سيذكر للشاهد بعض النقاط المضيئة في مسيرته السياسية أبرزها أنه كان صارمًا تجاه محاولات توظيفه السياسي من أكثر من طرف، وعلى رأسهم عائلته السياسية الأولى المتمثلة في حزبه الأم نداء تونس، وبالأخص الأطراف النافذة فيه من الذين يرتبطون برباط القرابة لرئيس الجمهورية الراحل الباجي قائد السبسي. ورغم محاولات الترغيب والترهيب الكثيرة، فإنه ظل صامدًا واجتهد في تفكيك الأنسجة المتحالفة ضده والموزعة في أكثر من موقع قرار سواء داخل أجهزة الدولة أو في محيطها الحيوي المتمثل في قطاع المال والأعمال أين تعشش أدوات المؤامرات الأكثر غرابة وفتكًا.
خذل الواقع الشاهد بنسب متدنية أعلن عنها مؤخرًا معهد الإحصاء الوطني الذي أكد أن نسبة النمو لم تتجاوز خلال السنة الأخيرة الواحد في المائة
كما نجح الشاهد في الرقص على أكثر من حبل وفي القفز من كتف إلى آخر بعد أن غيّر موقعه من سليل الحزب الحاكم الفائز في الانتخابات التشريعية سنة 2014 على حركة النهضة غريم الدهر، إلى متحالف معها بل والمطواع الكامل لرؤيتها وتوجيهاتها حتى ولو كانت على حساب مصالح حزبه الذي انطلق منه رغم إصراره في كل مناسبة على الإشادة بفضل نداء تونس، وعلى أنه لم يخذله بل حاول جهده إصلاح الخراب الذي كان ينخره دون فائدة.
مبالغة في التقييم
ورغم أن الشاهد كان ومازال يحاول خلال تصريحاته تقييم فترة حكمه على أساس أنها فترة زاهية شهدت تحسنًا ملحوظًا على أكثر من مستوى اقتصادي واجتماعي، وتم خلالها إيقاف نزيف الانحدار الذي كان مؤذنًا بانهيار أركان الدولة، والدخول إلى المجهول بسبب انخرام التوازنات المالية والعجز عن التصدي الشجاع لارتفاع المديونية وتردي سعر العملة الوطنية وضعف الاستثمار، وظل طيلة الفترة الماضية وخصوصًا أثناء الحملة الانتخابية الأخيرة في شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2019 يقدم أرقامًا مبهرة عن التحسن الاقتصادي وانخفاض نسبة التضخم وارتفاع نسبة النمو، غير أن الواقع لم يشهد له بذلك بل لعله خذله بنسب متدنية أعلن عنها مؤخرًا معهد الإحصاء الوطني الذي أكد أن نسبة النمو لم تتجاوز خلال السنة الأخيرة الواحد في المائة.
الصرامة لا تعني التسلط
في مقابل ما اجتهد الشاهد في إبرازه وتلميعه، تعمد عدم الحديث كثيرًا عن عدد من الملفات الشائكة التي ارتبطت به، على الأقل من خلال الاتهامات الموجهة له ممن كانوا على علاقة صغيرة أو كبيرة به في وقت سابق، وكانت محاربة الفساد شعارًا براقًا رفعه وشدد على أهميته وأولويته، ولم يلبث إلا قليلًا لينقلب هذا الشعار ضده ويتهم باستعماله سلاحًا فتاكًا لتصفية حساباته السياسية مع خصومه ومنافسيه، وكان المنطلق ما اصطلح على تسميته قضية رجل الأعمال شفيق جراية بعد أن اتهمه بعديد التهم الخطيرة مثل التخابر مع جهات أجنبية وتبييض الأموال وغيرها من التهم التي لم تثبت أمام القضاء ولم تزد المشهد السياسي إلا إرباكًا خصوصًا أن ملف القضية أدى إلى إيقاف عدد من المسؤولين الأمنيين وتم تشويههم والتنكيل بهم دون جرم ارتكبوه وقد برأهم القضاء فيما بعد.
في مقابل ما اجتهد الشاهد في إبرازه وتلميعه تعمد عدم الحديث كثيرًا عن عدد من الملفات الشائكة التي ارتبطت به
اقرأ/ي أيضًا: السلطة والثورة والمكان.. قراءة في توزّع السلطة بعد الثورة
كما حصل نفس الأمر مع رئيس حزب الوطني الحر سليم الرياحي الذي وجد نفسه بين عشية وضحاها مورطًا في عدد من القضايا ومضطرًا إلى الفرار بجلده خارج أرض الوطن، وانضاف إلى القائمة ابن رئيس الجمهورية السابق حافظ قائد السبسي، فما كان منه إلا أن فر هو الآخر إلى خارج البلاد خشية الملاحقة القضائية المتعجلة، ولعلّ ما قصم ظهر البعير القيام بمغامرة غير محسوبة في اتجاه توريط رئيس حزب قلب تونس نبيل القروي وإلقاء القبض عليه وسجنه أيامًا قليلة قبل انطلاق الحملة الانتخابية الرئاسية.
كل ذلك برّره يوسف الشاهد بأنه جاء تحت عنوان محاربة الفساد وأن القانون يحتاج إلى صرامة وشفافية واضحة في التعامل معه، في حين فسره أعداؤه بأنه انزياح ممنهج في طريق العودة إلى مربع التسلط والاستبداد.
المنظمات الوطنية رأس حربة
رغم امتعاض عديد الأطراف السياسية والمجتمعية، فإن الأمر ظل على حاله ولم يستطع أي طرف أن يغير المعادلة لسببين، أولهما دعم حركة النهضة للشاهد بتعلة ما قالت إنه محافظة على الاستقرار في البلاد، وقطع للطريق أمام محاولات تأجيل الانتخابات الذي كانت تخطط له الغرف المظلمة في داخل البلاد وخارجها.
وثاني الأسباب التزام المنظمات الوطنية طيلة الفترة الأولى بما يشبه الهدنة ومحاولة الوقوف في موقف الحكم الذي يسعى لتقريب وجهات النظر، غير أن هذا الموقف سرعان ما تغير إلى النقيض مع الوقت بعد أن بلغ بها اليأس من إمكانية إيجاد حلول وسطى، وبعد أن أدركت أن تواصل هذه السياسة يمكن أن يخلق أوضاعًا أشد خطورة وسوءًا، لذلك غيرت من موقعها واتخذت موقفًا مقابلًا يندد بالسياسات المتبعة وبالإجراءات المتخذة خصوصًا في التعيينات في الإدارة التي لا تراعي الحاجة ولا الكفاءة ولا الشفافية، بل تدعو حسب تصريحاتها إلى فرض معادلة جديدة قوامها توظيف أدوات لخدمة حزب تحيا تونس وتمكينه من السيطرة على مفاصلها.
واشتدت الانتقادات خلال الأشهر الأخيرة خصوصًا من الاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر المنظمات الوطنية في البلاد، ووصل الأمر إلى تبادل التصريحات المسيئة بين الأمين العام للمنظمة ورئيس الحكومة في ظاهرة هي الأولى منذ أكثر من أربعين عامًا، وفي مشهد ذكّر التونسيين بالاحتقان الذي حصل حينها بين الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة والزعيم النقابي الحبيب عاشور.
النهضة تنضم للبقية
في كل محاور الخلاف الذي حصل بين كل الفرقاء، وعلى امتداد الثلاث سنوات الأخيرة، لم تدخل حركة النهضة غمار المعركة السياسية بشكل مباشر، وظلت تطلق التصريحات التي تدعو إلى الرشد وتحكيم العقل وتغليب المصلحة الوطنية والمحافظة على الاستقرار، حتى وصل الأمر إلى منتهاه وتم الاتفاق على اختيار حكومة جديدة برئاسة جديدة وانتهى عهد يوسف الشاهد.
الآن فقط برز موقف جديد ينضاف إلى جملة المواقف المتجمعة. ورغم أنه ليس موقفًا رسميًا تتبناه المؤسسة الرسمية لحركة النهضة، إلا أنه موقف لافت ويحتاج الوقوف عنده وهو التصريح الذي أصدره أحد القيادات الوازنة داخل النهضة، النائب سيد الفرجاني، الذي قال لـ "ألترا تونس" إن رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد جزء من الفساد وليس محاربًا له.
لم يبق أمام يوسف الشاهد إلا التحصن برئيس الجمهورية قيس سعيد علّه يجد عنده مأوى يمنعه من أيادي المطالبين
وأضاف أن هناك العديد من القضايا التي سترفع ضده، إضافة إلى أنه سيكون هناك تحقيق داخل البرلمان في ادعاء الشاهد محاربة الفساد، مشددًا على أن هناك "مصداقية مفقودة في موضوع مكافحة الفساد إذ يجب محاربة الفساد في الدولة قبل مكافحته لدى رجال الأعمال، كما أن هناك أطرافًا استعملت أدوات الدولة لابتزاز رجال الأعمال وأخذ أموال في الانتخابات، وهذا مثبت ورجال أعمال كثيرون دخلوا السجن وعديد رجال الأعمال أغلقت شركاتهم بسبب رفضهم دفع أموال لحزب تحيا تونس وليوسف الشاهد"، حسب تعبيره.
هذا الموقف رغم أنه صدر في وقت متأخر بالنسبة لبقية الأطراف، إلا أنه صدر في وقته بالنسبة لحركة النهضة، إذ لم تعد تعول على وجود الشاهد في القصبة ولم يعد يعنيها سياسيًا بعد أن غادر المشهد وأصبح الحلقة الأضعف فيه، وهو ما يؤكد أن الأيام القادمة ستكون صعبة جدًا بالنسبة للشاهد، وقد يجد نفسه هدفًا لكل السهام ولا ملجأ لديه بعد أن أحرق كل مراكبه ولم يترك صديقًا يدفع عنه المتربصين الكثر وقت الشدة، وحتى حزبه الممثل في الحكومة الحالية لا يبدو أن أغلب أعضائه متفقون حول دعمه بالشكل الكافي، زيادة على عدم قدرتهم على ذلك من الأساس.
لم يبق أمام يوسف الشاهد إلا التحصن برئيس الجمهورية قيس سعيد علّه يجد عنده مأوى يمنعه من أيادي المطالبين، وقد عمل على استمالته طيلة الأشهر الثلاث الماضية، ولكن طبيعة رئيس الجمهورية المتشبثة بعلوية القانون قد تكون حائلًا دون بلوغه مبتغاه، فهل بدأ الخناق يضيق حول رقبة الشاهد؟ هذا ما ستبينه التحالفات والصفقات السياسية القادمة.
اقرأ/ي أيضًا: