17-فبراير-2020

لم تبد النهضة رغبة قوية في وزارة التربية (صورة أرشيفية/ فتحي بلعيد/ أ ف ب)

 

النهضة هي الحزب الوحيد الذي شارك في كلّ الحكومات بعض الثورة، كان لها نصيب في جلّ الوزارات سيادية كانت أو غيرها، ففي حكومة الجبالي أبدت حرصًا على حقائب مخصوصة كالداخلية والعدل والخارجية، وقد تمكنت بعد انتخابات 2011 من تذوق لذة السلطة ولذعاتها من كل الأبواب والمداخل والغرف والموائد، فقد كان لها نصيب في الصحة والنقل والتجهيز والتشغيل وسائر المراكز القيادية.

في المقابل لم تبد النهضة رغبة قوية في وزارة التربية، فأهملتها ولم تلتفت إليها، إذ تداولت على هذا الكرسي بعد الثورة سبع شخصيات متحزبة ومستقلة، الطيب البكوش ثم عبد اللطيف عبيد ثم سالم الأبيض ثم فتحي الجراي ثم ناجي جلول ثم سالم خلبوس مؤقتًا ثم حاتم بن سالم.

تداولت على كرسي وزارة التربية بعد الثورة سبع شخصيات متحزبة ومستقلة

اقرأ/ي أيضًا: حكومة الفخفاخ.. أزمة الربع ساعة الأخير والسيناريوهات الممكنة

ما الذي يجعل النهضة تتعفف في المطالبة بوزارة التربية في المقابل تدفع بالمجهود إلى منتهاه لاقتناص وزارات أخرى، لماذا تشتدّ حماستها على سبيل المثال عند فتح باب المزايدة على وزارة تكنولوجيا الاتصال والانتقال الرقمي في حين تتلهى عن الأمر حينما يفتح باب المنافسة والمناقصة حول حقيبة التربية؟

لا أحد ينكر أن بعض قيادات النهضة قد كان لها رأي في إدارة هذه الوزارة فقد دعا عبد الكريم الهاروني إلى تحييدها. كما تمّ سابقًا اقتراح محمد القوماني الوافد الجديد على الحركة لهذا المنصب، لكن هذه المواقف بدت محتشمة عرضية لم تحظ بالتركيز والتعبئة الحزبية والسياسية، وهو ما يجعلنا على يقين أنّ النهضة مازالت غير عابئة بوزارة التربية بعد مرور حوالي عشر سنوات في السلطة، هذا ما يوحي بأن المسألة لم تكن عفوية، إنّما كانت خيارًا نُحاول الإجابة عن خلفياته في هذا الحيز التحليلي.

لا نجد في خطابات النهضويين ونقاشاتهم تفسيرًا مستفيضًا لهذا الخيار، مما يجعلنا أميل إلى وضع فرضيات ومحاولة التحقق منها.

  • فاقد الشيء لا يُقبل عليه

الإقبال على الأشياء من دوافعه والمحفزات عليه القدرة والرغبة والمكسب، أمّا العزوف عن أمر مّا فهو راجع وفق القواعد العامة التي يقرها علم النفس إلى أربعة أسباب إمّا الخجل أو العجز أو الخوف أو الترفع، ولأن الخجل يقترن بالمقامات العاطفية، جاز حصر الفرضيات المتصلة بهذه القضية في الثلاث المتبقية.

الفرضية الأولى ترتبط بعجز النهضة وافتقارها إلى كفاءات يمكن أن تراهن عليها في إدارة الشأن التربوي، هذا الاحتمال يمكن تبريره بالاستناد إلى حجتين، الأولى تتمثل في التعارض بين البنية الذهنية للحركة ذات المنبت الأصولي المحافظ والمنحى الغالب في المدرسة التونسية المرتكز على الانفتاح والتحرر والمناهج النقدية والجرأة الفكرية.

أطروحة العجز عن إدارة الشأن التربوي بسبب تجفيفها من النهضويين على امتداد أكثر من عقدين تبدو مقبولة لكن يمكن التصدي لها بيسر

الحجة الثانية ترتبط بفترة نظام بن علي، فقد بدت وزارة التربية قلعة محصنة على امتداد عقود ضدّ الإسلاميين عامّة، إذ كانت الغربلة في هذا القطاع أشدّ حزمًا منها في قطاعات أخرى، وتبعًا إلى ذلك عانت النهضة الإقصاء والحرمان والمنع، فلم يتمكن أبناء الحركة من معرفة هذا الميدان في مختلف دقائقه التسييرية والبيداغوجية والإدارية.

أطروحة العجز عن إدارة الشأن التربوي بسبب تجفيفها من النهضويين على امتداد أكثر من عقدين تبدو مقبولة، لكن يمكن التصدي لها بيسر، فلو كان الأمر كذلك لما اندفعت النهضة في عهد الترويكا إلى وزارات أشدّ مناعة لاسيما وزارة الداخلية التي كانت الغربلة فيها مجهرية.

  • الأسوار النقابية

نقابات التعليم الثانوي والأساسي توصف بكونها الأقوى والأكثر تماسكًا. من تقاليدها الانتخابية في عهد بن علي وبعد الثورة أنها تحرص على منع الاختراق من التجمعيين و"الخوانجيّة" على حدّ تعبير الكثير من قادتها. قيادات النهضة وأنصارها على بيّنة من هذا المعطى، وبناء على ذلك فإنّ أسوار وزارة التربية تغدو في نظرهم عالية شائكة يعز تخطّيها، فاستمرار الوزير النهضوي في منصبه يبدو مقصدًا بعيد المنال.

حثت "السلطة النقابية" العديد من الوزراء بعد الثورة على إشهار انتمائهم إلى ساحة محمد علي، لكن هذه السردية لم تشفع، فأصابتهم نبال الإضرابات والوقفات الاحتجاجية. أكثر وزراء التربية تغنيًا بقربه إلى الاتحاد العام التونسي للشغل هو بلا شك ناجي جلول، ومع ذلك لم يسلم من الترذيل والمطالبة بالرحيل، فقد تظاهر آلاف المعلمين في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 مطالبين باستقالته، ودخل الأساتذة في إضراب مفتوح في مارس/آذار 2017 ومن بين شروطهم لاستئناف العمل إعفاء الوزير من مهامه.

 وجود قيادي من حركة النهضة على رأس وزارة التربية كان يمكن أن يدفع إلى منتهى التوتر بين السلطة والطرف الاجتماعي

اقرأ/ي أيضًا: بداية الاختلاف حول قيس سعيّد

لا شكّ في شرعية جل الأسباب التي دفعت نقابات التعليم الأساسي والثانوي إلى تصعيد التحركات الاحتجاجية، لكن وجود قيادي من حركة النهضة على رأس الوزارة كان يمكن أن يدفع إلى منتهى التوتر بين السلطة والطرف الاجتماعي، وهو ما يؤكد فرضية هروب حركة النهضة من هذه الساحة التي جرى تأميمها وتحصينها من قبل خصومها سياسيًا وإيديولوجيًا.

هذه الأطروحة رغم وجاهتها فإنها تبدو محدودة دليل ذلك إقبال النهضة على وزارات أخرى النقابات فيها تضارع الجامعة العامة للتعليم الثانوي تماسكًا وصلابة وهو ما يدفعنا إلى اختبار فرضية ثالثة.

  • الهاجس الأمني والمادي

لئن كانت وزارة التربية سلطة دافعة لافظة منفرة فإنّ وزارات أخرى تبدو مثيرة جذابة، فالمنصب الذي أهملته النهضة فقير كثير الهموم نفوذه محدود في بلد لا يقيم اعتبارًا للعلم والتعليم، فميزانية وزارة التربية سنة 2019 بلغت حوالي 5 مليار دينار، الحيز الأكبر منها موجه لتسديد الأجور، هذه الوضعية لن تتغير سنة 2020، ففي 14 ديسمبر/ كانون الأول 2019 ذكر حاتم بن سالم أن ميزانية وزرارة التربية لسنة 2020 في حدود 5.6 مليار دينار تخصص 95 في المائة منها لخلاص أجور الأساتذة والمعلمين والمتفقدين والقيمين والعملة وأعوان المخابر.

مقابل الخصاصة التي تعاني منها وزارة التربية، تحظى وزارات أخرى بضروب شتى من الرفاهية

بقية الميزانية لا تفي بالحاجة لمعالجة نقائص في البنية التحتية والتجهيزات والتكوين، هذه الإمكانيات المادية الشحيحة لم تترك للوزراء المتعاقبين غير سلاح المماطلة والتسويف أو ترحيل الخلافات مع الطرف الاجتماعي إلى وزارة المالية ووزارة الشؤون الاجتماعية ورئاسة الحكومة.

مقابل هذه الخصاصة التي تعاني منها وزارة التربية، تحظى وزارات أخرى بضروب شتى من الرفاهية وتضمن للحزب المقبل عليها ألوانًا من الهيمنة الاستخباراتية والإجرائية والاعتبارية، ينطبق هذا على وزارات السيادة كالعدل والداخلية، كما ينطبق على مناصب أخرى منها وزارة تكنولوجيا الاتصال والانتقال الرقمي، التي تشبثت بها النهضة في خلافها مع رئيس الحكومة المكلف إلياس الفخفاخ.

يكشف لنا هذا العرض التحليلي ثلاث نتائج على الأقل، أولها صعوبة الإقرار بالسبب الحقيقي الذي يجعل النهضة لا تقبل على وزارة التربية، فقد يرجع الأمر إلى تضافر جميع الأسباب المذكورة ( العجز والخوف وضعف المكسب)، وهو ما يجعل باب الفرضيات مفتوحا كأن يقول قائل إن هذه الحركة لا تراهن على قطاع عمومي يسير تدريجيًا نحو الإفلاس المادي والبيداغوجي والتأطيري.

النتيجة الثانية تتصل بعدم قدرة النهضة على التخلص من هاجس الخوف الأمني والاستخباراتي، فهي أميل إلى تأمين شروط وجودها عبر وزارات مخصوصة أكثر من ميلها إلى البناء والإصلاح والتغيير. النتيجة الثالثة ترتبط ببقية الأحزاب فكثير منها يشارك النهضة الاستخفاف بوزارة التربية والإقبال على حقائب المال والنفوذ ومسالك الهيمنة والاطلاع على السرائر والأحوال.

في الختام، يمكن الإقرار أن وزارة التربية لا يمكن أن تتحوّل إلى حقيبة مثيرة مرغوب فيها تتنازع عليها الأحزاب إلا حينما تكتسب هيبة مادية وتقنية واعتبارية وتشريعية، وهو ما يبيح المطالبة بإكسابها صفة السيادة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حكومة إلياس الفخفاخ.. لا يمكن إلا أن تمر!

"التناوب الوظيفي".. أهمّ ثوابت الانتقال الديمقراطي في تونس