يوم الأحد 14 مارس/ آذار 2020، بعد الساعة الخامسة مساء، ركبتُ المترو رقم 3 من باب سعدون متجهًا نحو محطّة برشلونة وسط العاصمة تونس، كانت العربة الوسطى غير مكتظة، عدد ركابها لا يتخطى الخمسة عشر نفرًا، جل كراسيها فارغة، فقد تظافرت يومها عوامل عديدة أفضت إلى هذه الوضعية المريحة، فالمقاهي قد أغلقت بأمر حكومي بداية من الساعة الرابعة، والعمال والموظفون في عطلة أسبوعية، والوعي بخطورة الموقف والالتزام بالحذر من العدوى قد بدأ يعمّ بين التونسيين بعد حملات التنديد والسخط التي طالت المخالفين من رواد المقاهي والملاهي "المنتصبة منتصف النهار" في شكل تخطى الاستخفاف ليدرك مرتبة التهور والتمرد والتحدّي.
"لا ينبغي أن يتحول الحذر إلى مطية لإيذاء الآخرين قولًا أو فعلًا أو إيماءة"
اقرأ/ي أيضًا: ما معنى تصنيف "كورونا" مرضًا ساريًا في تونس؟
في ركن من العربة، على بعد أكثر من أربعة أمتار من بقية الراكبين، جلست امرأة عمرها حوالي ستين سنة، تلبس ثيابًا نظيفة لائقة، بدت عليها علامات الإرهاق، وكانت من حين إلى آخر "تعطس" واضعة على فمها منديلًا ورقيًا تُودعه في كيس بلاستيكي حالما تستعمله لتستبدله بآخر.
في الجهة المقابلة، جلس ثلاثة شبان معهم كهل، كانوا في البداية يتغامزون، ثم أصبحوا ينظرون إليها في استفزاز، تفطنت إليهم، ولم ترد الفعل، فتمادوا في إيذائها سخرية وشتيمة، تدخل أحد الحاضرين لإثنائهم عن هذا السلوك، فرد أكبرهم قائلًا "كِي هي مْكورنا (مريضة بالكورونا) تشد دارها"، لم تصبر هذه المرأة على إمعانهم في اتهامها وإذلالها، فأخرجت هاتفها لتلتقط لهم صورة عازمة على تقديم قضية، ثم تحدثت بمنتهى الحكمة قائلة "والله مريضة بحساسية الربيع، وليس لدي أي علامة تؤكد ظنونكم، ومع ذلك فأنا ملتزمة بشروط الوقاية، أجلس بعيدًا عن البقية وأستعمل المنديل الورقي مرة واحدة وأضعه في كيس ولا أرميه على الأرض، في المقابل تجتمعون أربعة في مجالس متراصة، والحال أن بقية المقاعد شاغرة".
بدت هذه المرأة الوقورة في كلامها حازمة رغم صوتها الهادئ المنخفض، وحالما وصل المترو إلى المحطة الموالية نزل أحد الشبان، فلحق به البقية في حين واصلت المرأة حديثها إلى بقية الحاضرين قائلة ما معناه "لا ينبغي أن يتحول الحذر إلى مطية لإيذاء الآخرين قولًا أو فعلًا أو إيماءة خاصة في هذا الفصل الذي تشتد فيه أعراض حساسية الربيع من عطاس وسيلان أنف وغيرها من العلامات التي لا تكون في الغالب مصحوبة بالحرارة".
محمود شكيب ماينة (طبيب عام) لـ"ألترا تونس": فيروس كورونا يقتضي توخي منتهى الحذر واتخاذ الإجراءات الوقائية المناسبة
يطرح هذا المشهد المحرج مسألتين، الأولى صحية تتعلق بضرورة التمييز بين أعراض "كورونا" وعلامات الشكوى من أسقام أخرى مثل حساسية الربيع والنزلة الموسمية وأنواع مختلفة من الأمراض التنفسية والصدرية، فضلًا عن الإصابات بالأنفلونزا المعروفة لدى الأطباء تشخيصًا وعلاجًا.
أمّا المسألة الثانية، فهي أخلاقية ونفسية تتصل بآداب التعامل مع من يشتبه في حملهم فيروس كورونا، الشأن الأول خاض فيه المختصون، وما انفكوا يقدمون العديد من الدقائق التشخيصية والوقائية والإيضاحية سواء في الومضات التحسيسية أو من خلال البرامج الحوارية.
ما يعنينا في هذا الحيز هو الشأن الثاني، أي ما يتعلق بالجانب التواصلي، وهو ما دفعنا إلى التساؤل عن سبل التوفيق بين سلوكين، الأول يشترط الحذر والتوقي والابتعاد، والثاني يقتضي الرحمة والعطف والإنجاد، في هذا السياق يندرج حديثنا مع ثلاثة إطارات طبية من اختصاصات متنوعة.
محمود شكيب ماينة: ليس ثمة حالة تبيح إهانة المريض
ذكر محمود شكيب ماينة، طبيب عام، لـ"ألترا تونس"، أنّ فيروس كورونا يقتضي توخي منتهى الحذر واتخاذ الإجراءات الوقائية المناسبة، وهو مسلك صحي لا غنى عنه بالنسبة إلى الجميع أفردًا ومؤسسات، كما يحق للإطار الطبي التعامل مع كل زائريه في هذه المرحلة الوبائية بمنتهى الحيطة، فيتوخى أعلى درجات الاحتراس، غير أنّ ذلك يقتضي في كل الأحوال التحلي باللياقة والاحترام وعدم التفريط في القيم الإنسانية في تناغم مع القانون ومع ميثاق الشرف المهني والأخلاقيات الطبية.
منذر العامري (رئيس وحدة طبية بمستشفى شارل نيكول) لـ"ألترا تونس": هذه الوضعية الصحية العالمية تقتضي التعامل مع الجميع باعتبارهم مشبوهين وبائيًا
اقرأ/ي أيضًا: هل ينقل "الفريب" فيروس كورونا؟
منذر العامري: كلنا مشبوهون
منذر العامري، رئيس وحدة طبية بمستشفى شارل نيكول، أرجع التوتر في التعامل مع المشتبه في حملهم فيروس كورونا إلى طغيان ظاهرة الاستخفاف وعدم الاكتراث في سلوك العديد من المرضى.
وميّز العمري، في حديثه لـ"ألترا تونس"، بين الصرامة في التعامل مع هذا الحالات المرضية والخروج عن اللياقة، مشددًا على أن هذه الوضعية الصحية العالمية تقتضي التعامل مع الجميع باعتبارهم مشبوهين وبائيًا، وقائلًا "فنحن في مواجهة فيروس يكون في أول مراحله صامتًا لا أعراض له، وبناء على ذلك فإن المسألة جادّة وخطيرة ولا تبيح لنا المقامرة والاسترخاء"، على حدّ تعبيره.
مروى جعفر (طبيبة أسنان) لـ"ألترا تونس": لا ينبغي ترك المواطن في مواجهة مع غيره
مروى جعفر: القرارات لا بد أن تكون قطعية
أكدت مروى جعفر، طبيبة الأسنان، ضرورة اتخاذ مواقف قطعية تمنع كل مظاهر الاستخفاف في التوقي من كورونا، معتبرة أن التراخي في اتخاذ القرارات الرسمية عامل من عوامل التوتر في العلاقة بين المواطنين.
وأضافت جعفر، في تصريحها لـ"ألترا تونس"، أنه لا ينبغي، حسب رأيها، ترك المواطن في مواجهة مع غيره، فهو في الغالب لا يملك القدرة على التقييم واتخاذ القرار أو السلوك المناسب، فالسلطة والمؤسسات الرسمية هي الكفيلة بتخير الإجراءات المناسبة وما على الموطنين إلا الالتزام والإبلاغ.
اتضح من خلال العينة المعروضة وتدخلات الأطباء أن الإبطاء في اتخاذ القرارات المناسبة والرادعة والدقيقة عوامل قد ساهمت في توتير الأجواء بين المرضى والإطار الطبي من جهة وبين المواطنين فيما بينهم من جهة أخرى.
اقرأ/ي أيضًا: