14-ديسمبر-2018

تتميز مدينة الجم بورشات الفسيفساء (ماهر جعيدان/الترا تونس)

كيف تلتقي مدينة الجم مع الجمال بل كيف تلتقي "تيسدروس" الرومانية مع السحر؟ وكيف تتجمع العظمة في قصر الجم فتتشكل الصورة التي تجمع بين القوة والإبداع؟ لم تكن الفسيفساء فحسب قطعًا من الحجارة المصقولة والمرصّفة والملوّنة والمترامية في القصور والمعابد وبلاطات الأغنياء بل كانت أيضًا لغة وتاريخًا وحضارة شعب عاش في المدينة واقتات من الجمال كما اقتات من الموت على حد سواء.

كانت تتفتت الحجارة في "تيسدروس" الرومانية إلى مكعبات صغيرة، وكان عملة تكسير الحجر يصنعون من عذاباتهم تحت حرارة الشمس أبّهة المكان وإشراقة الزمان في لوحات تروي سيرة عظمة أمّة كانت حلقة في تاريخ هذه الربوع.

تلك الجداريات والأرضيات الفسيفسائية لم تُرسم فيها الوحوش فحسب بل رُسمت فيها المزهريات والورود، وكان الرسم على الرخام والحجر المصقول زخارف يتخذ أشكالًا هندسية ذي رموز ذات دلالة أو قد يكون لعدم انتظامها جمال الاعتباطية في التصور. وقد يتلوّن الحصى فيهب البهجة والحياة، وقد يبيضّ ويسودّ كما الحياة بلوني النور والظلمة.

رسم لوحة فسيفسائية في الجم (ماهر جعيدان/الترا تونس)

اقرأ/ي أيضًا: "الأنتيكا".. رزق للفقراء وهواية لبعض الأثرياء

من يرسم الصورة يروي الحياة، ولا شك في أن مدينة الجم كان رواتها كثيرون يضاهي عدد رساميها والدليل في ذلك متحفها الذي يضم باقة فريدة من اللوحات الفسيفسائية لعل أبهاها "دار أفريكا". وهو منزل أرستقراطي اُعيد تشكيله ويضم لوحتين متميزتين عنوان إحداها "أفريكا وفصول السنة"، وصفها المؤرخ التونسي محمد يعقوب اللوحة بأنها "تكوّن رصانة كبيرة وتوازن مثالي".

فيما تحمل اللوحة الثانية عنوان "روما ومقاطعاتها"، وهي تعبيرة عن امتزاج الفن بالسياسة والمجتمع وتتجلى سطوة الفن على الوعي الحضاري في تلك العصور.

ويعود أصل كلمة "فسيفساء" للفظ اليوناني "muses" وهي آلهة الفنون والجمال والإلهام الفني التسعة اللواتي رافقن الإله "أبولو"، وقد دخلت هذه الكلمة إلى اللغة العربية على اسم "psephos" التي عُربت لاحقًا لتصبح "fass". وتعني هذه الكلمة لاتينية الأصل مكعب "cubes" أو "dices" وهي الأشكال المكعبة والمنتظمة المقطعة من الحجارة.

من الجداريات الفسيفسائية في مدينة الجم (ماهر جعيدان/الترا تونس)

لم تكن الزيارة لمدينة الجم هذه المرة لنكون في حضرة صراع الوحوش والمجالدين بـ"كُولُوسِّيُومْ تِيسْدْرُوسْ" أو قصر الكاهنة كما يحلو للبعض تسميته، أو لاكتشاف أحلى سهرات الموسيقى السمفونية التي تعرض في رحاب القصر، بل لاكتشاف ورشات الفسيفساء ومصممي النقائش الذين يحيون موروثًا ثقافيًا قديمًا شد العالم بجماله.

اقرأ/ي أيضًا: "السقيفة الكحلاء" بالمهدية.. شاهد على أسرار الحضارة وعظمة الأسوار

تجلس عدد من النسوة والفتيات على مقاعدهن في إحدى الورشات الملاصقة للقصر، وقد شددن كسارة الحجارة بين أصابعهن تقضم بها الرخام. وتسمع في كل حركة طقطقة تعيد على مسامعك نفس الصوت في القرون الأولى ميلادية وكأن الفضاء يستعيد أطياف الغابرين.

جلست إلى إحداهن لأرى ما ترسم فإذا هي محاكاة للوحات أصلية معروضة في المتاحف وهي تختزل أشكالا هندسية أو مشاهد طبيعية أو رسوم بشرية وحيوانية بالمكعبات والحجارة والرخام.

تحدثنا أحلام، وهي إحدى الحرفيات في الورشة، عن سر الاهتمام بهذا الفن فتقول: "لم تكن عائلتي قادرة على توفير تكاليف الدراسة فانقطعت عن الدراسة ثم تلقيت تكوينًا مهنيًا في هذه الحرفة، وبعدها أصبحت أعمل في هذه الورشة. هذه المهنة ليست مجرد حرفة بل هي قصة عشق للفن، وكل رسم أبدأه يكون حلمي أن يكتمل ليرى النور، وقد تؤرقني اللوحات كبيرة الحجم لأني أنتظر بفارغ الصبر نهاية تشكلها".

حرفية بصدد تشكيل لوحة فسيفسائية (ماهر جعيدان/الترا تونس)

وتضيف أحلام لـ"الترا تونس" قائلًة: "نحن هنا نشترك في إعداد اللوحة الفسيفسائية، ونسعد حينما يضفي ما نرسمه بهجة على الزبون، فنحن بالحجارة نشكل الصورة ونصنع الجمال".

كما التقينا، في إحدى الورشات المجاورة، رضا حفيظ، وهو أحد الحرفيين في القطاع وعضو بجمعية مهنية، ليحدثنا أن حرفة الفسيفساء تختلف من حرفي إلى آخر، ولعل أجودها وأجملها ما يسمى بـ"الميكروموزاييك" وهي من المهن النادرة في تونس وفي العالم أيضًا لأنها مرحلة متقدمة لاستغلال القيمة الحرفية والفنية للحرفي و وتطوير للفسيفساء الرومانية.

أحلام (حرفية في الفسيفساء): هذه المهنة ليست مجرد حرفة بل هي قصة عشق للفن

ويضيف أن الانتقال على العمل على اللوحات الفسيفسائية الرومانية ذات الأحجام الكبيرة حيث يتراوح حجم قطعة الحجارة بين 1 و1.5 صم إلى حجم الحجارة التي لا تتعدى بعض المليمترات هو تطوير للحرفة الرومانية، وجعلها أكثر سهولة في إعادة إنتاج لوحات فنية عالمية لكبار الفنانين من خلال توظيف "الميكروموزاييك" في الحليّ مثلًا وأيضًا في الديكور الداخلي.

ويؤكد رضا حفيظ أن هناك عدد قليل جدًا من الحرفيين والحرفيات القادرين على ممارسة هذه المهنة التي تتميّز بصعوبتها ودقّتها، وهي لوحات تتطلب الكثير من الوقت مقارنة باللوحات العادية الرومانية، وفق حديثه لـ"الترا تونس".

وحول عراقة الفسيفساء في الجم، يضيف الحرفي قائلًا: "إن أشهر الفنانين كانوا موجودين في تيسدروس منذ العصر الروماني، وهذا ما نشاهده في المتحف الأثري بالجم إذ نلاحظ الكثير من الأشكال والألوان التي أدخلها الحرفي التيسدروسي على منتوجات الفسيفساء".

ويبيّن أنه نظرًا لثراء مدينة الجم بهذه اللوحات الكبيرة في مختلف أنحاء المدينة وأحيائها القديمة، فقد توارثها الناس كمهنة لإعادة تجسيدها. ويؤكد، في هذا الجانب، أنه رغم انتشار الفسيفساء في عدة مواقع من البلاد التونسية مثل أوذنة وسبيطلة وغيرها من الأماكن، يظل ليس بنفس حجم ونوعية فسيفساء الجم الموجود بمتحف مدينة الجم ومواقعها الأثرية.

يتميز فسيفساء مدينة الجم بحجمه ونوعه مقارنة بالفسيفساء في بقية مناطق تونس (ماهر جعيدان/الترا تونس)

ويشير الحرفي رضا حفيظ لـ"الترا تونس" أن اللوحات الأكثر طلبًا هي لوحات "ديان" و"فرجيل" و "إليس" و"نبتون"، وهي أكثر اللوحات المنتشرة في القصور الراقية والنزل سواء داخل تونس أو خارجها، مضيفًا أن السائح يقبل على هذه اللوحات لأنها تجسد روائع الفسيفساء الرومانية في البلاد التونسية. ويشير أنه يقع إعادة إنتاج هذه اللوحات بأحجام مختلفة وصغيرة قد لا تتجاوز أحيانًا 20 صم مما يجعل السائح الأجنبي قادرًا على اقتنائها و التنقل بها بسهولة.

يُذكر أن مهنة "الموزاييك" قد تطورت بشكل يواكب عصر الابتكارات والموضة بما يتماشى والذوق العصري، ولذلك بدأت تنتشر المعلقات الفسيفسائية في أطر لوحية أو معدنية جميلة، بل تم استعمال الفسيفساء في المصوغ مع وضع أجزاء من الفسيفساء الرومانية في أحجام صغيرة جدًا لكي تباع في متاجر المتاحف التونسية.

رضا حفيظ (حرفي فسيفساء): عدد قليل جدًا من الحرفيين والحرفيات القادرين على ممارسة هذه المهنة التي تتميّز بصعوبتها ودقّتها

ويخبرنا رضا حفيظ، في هذا السياق، أنه تم إنجاز صفحة كاملة من القرآن الكريم بتقنية "ميكروموزاييك" عُرضت في معرض تبريز للفنون الإسلامية بإيران سنة 2016، معتبرًا أن هذه الابتكارات هي انفتاح على مختلف الثقافات وتسويق لمنتوج أصيل متجدد متطور مواكب للعصر، وفق تعبيره.

بيد أنه يشكو هذا القطاع، في الأثناء وكغيره من الحرف التقليدية، من مصاعب أهمها نقص اليد العاملة التي تقلصت بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة، إضافة لارتفاع كلفة المنتوج بما يساهم في ارتفاع ثمن اللوحات وهو يجعل الاقبال على الاقتناء مقتصرًا على فئة قليلة من ميسوري الحال.

لكن لعب المجتمع المدني دور في إعادة الإشعاع لهذه الحرفة التي لا تندثر مهما اشتد عليها الزمن، على غرار إنجاز جدارية فسيفسائية ضخمة في الجم في مارس/آذار 2016، بلغ طولها 12.5 مترًا فيما بلغ عرضها 2.40 مترًا بمساحة جملية تقدر بـ30 مترًا مربعًا. وقد وقعه نقلها لاحقًا إلى باردو، إذ تضم الجدارية صورًا لضحايا العملية الإرهابية التي جدت في متحف باردو سنة 2015. وأراد المجتمع المدني عبر هذه الجدارية تكريم ضحايا العملية، وأيضًا لفت نظر العالم للعمق الحضاري لتونس التي لن يقدر الإرهاب على الحط منها وتهديد كيانها.

هكذا كانت مكعبات الرخام والحجارة لبنة في رسم صورة لا تنطق بالحضارة فحسب، بل تكشف عن ثقافة شعب يزرع بذرة الإبداع عبر العصور مهما اشتد الجدب وذهبت بريحه ثقافة الانبتات.

مراسل "الترا تونس" في ورشات الفسيفساء في الجم (ماهر جعيدان/الترا تونس)

اقرأ/ي أيضًا:

سوسة في الذكرى 30 لإدراجها في لائحة اليونسكو.. معالم أثرية ومخاطر جديّة

دواميس سوسة.. أسرار سراديب الموتى ورحلة البحث عن "الراعي الطيب"