19-أبريل-2023
ألعاب عيد الفطر

من الشخصيات التي تصنع عوالم العيد ومداراته شخصية "بائع لعب الأطفال" (ياسين القايدي/ الأناضول)

 

في لحظة غامرة من أواخر شهر رمضان المقدس، يحوّلنا العيد والأيّام السعيدة التي تطوّقه إلى شعراء  حالمين يدهشنا المعنى المنبثق من شقوق الأزمنة والقوافي القديمة. في العيد نستفيق من سباتنا اليومي ومن ذاتيتنا المنغلقة  فنبحث لنا عن حياة في الأثير، بين النّجوم وفوق الضباب، نبحث عن صِلات أخرى قديمة جديدة ونلوّح بأيدينا إلى أناس لا نعرفهم. العيد بالنسبة للمسلم هو سفر سنوي يخترق كثافة الزمن نحو ينابيع الغبطة الموعودة، وتواكبه أجنحة الخيال الجامح بتحنان الأنبياء إلى ما وراء الأشياء والكلمات، إلى ما وراء النهايات.

 في غمرة أيام عيد الفطر السعيد تكون سماء الألوهة واطئة، مرشّقة بعناوين كتب الأوّلين وبنواحي الموسيقيين وهم يحاكون أصوات المزاريب. حينها نقطف للفؤاد رمّان الإيمان النقيّ ونلتمس من الله ما نريد لبقية العمر، فيصبح كل شيء ممكنًا، الحلم نفسه يتحقق. وتتحوّل أرض البشر إلى سجاجيد من أمل يسكبنا يقينًا لا تشوبه شائبة يحمي السابقين واللاحقين ضمن لعبة زمن عصية عن الفهم الرشيق. 

من الشخصيات التي تصنع عوالم العيد ومداراته التي يتّحد فيها الأسطوري بالحسّي، تلك التي تأخذ بأيدينا كالأطفال نحو دروب العجائبي وتدخلنا إلى مستودع الخيال والحنين، شخصية "بائع لعب الأطفال"

العيد السعيد حرم من الأسرار والألفة والغموض، ينزل من قمم مساءات العشر الأواخر من الشهر الكريم  ويتمشى معنا وقت الغروب كصديق قديم فيميل مع الريح ويراقص خطاطيف بعيدة تنثر الطهر وتقود النحل إلى شرفات الزهر في الحقول البعيدة. 

ونحن نسرج خيلنا لتوديع شهر رمضان المقدس واستقبال أيام العيد، تينع شخصيات في ثنايا الشوارع وفي الأسواق القديمة و بين الأزقة في المدن. شخصيات تبشّر بقدوم العيد وترفع راية رمزيته وترسّخ مباهجه وتيهه الروحي مزخرف الأسيل.

 

صورة
بائع اللّعب في العيد هو شقيق العيد وحبيب كلّ الأطفال الصغار (ياسين القايدي/الأناضول)

 

ومن الشخصيات التي تصنع عوالم العيد ومداراته التي يتّحد فيها الأسطوري بالحسّي الملذّ، تلك التي تأخذ بأيدينا كالأطفال نحو دروب العجائبي وتدخلنا إلى مستودع الخيال والحنين: "بائع لعب الأطفال".   

أيّ معنى للعيد من دون شخصية "بائع اللعب"؟ وأيّ رونق للعيد من دون صوته وهو ينادي على الأطفال أمام المدارس وفي الأحياء العتيقة وأمام مدن الألعاب وفي القرى البعيدة؟

أيّ معنى للعيد من دون شخصية "بائع اللعب"؟ وأيّ رونق للعيد من دون صوته وهو ينادي على الأطفال أمام المدارس وفي الأحياء العتيقة وأمام مدن الألعاب وفي القرى البعيدة. فيطيّر عقولهم الصغيرة نحو آفاق الخيال المجنّح، يغازلهم  فيركبون مركب الأبدية والمطلق والخلود.

بائع اللّعب في العيد، هو شقيق العيد وصديق صدوق لكل العائلات وحبيب كلّ الأطفال الصغار، يجول حاملًا جرابه المليء بالمزامير والخضاريف والدمى الملونة الجميلة وأقواس قزح وسيارات السباق من مختلف الألوان والهواتف النقالة الصغيرة، وغيرها من اللعب. 

وتونس كغيرها من مدن الشرق انغرس على أديمها العيد فصار أخيًّا لزياتينها وكرومها العتيقة ونخلها الباسق في أقاصي الجنوب. لا تحيد عنه العائلات ويستعد له المجتمع كما يجب الاستعداد بحثًا عن الأفراح الصغيرة وتحية توديع تليق بشهر رمضان المقدّس. 

من دلالات العيد وأماراته في تونس هو ظهور لعب العيد في كل مكان  فتتشكل أسواق بعينها لبيع اللعب وتتزين واجهات دكاكين ومحلات ومغازات بيع الهدايا بشتى أنواع اللعب وتصبح وجهة أرباب العائلات في العشر الأواخر من رمضان

ومن دلالات العيد وأماراته في تونس هو ظهور لعب العيد في كل مكان فتتشكل أسواق بعينها لبيع اللعب وخصوصًا بالعاصمة تونس وبالمدن الكبرى أيضًا مثل صفاقس وسوسة ونابل وبنزرت والكاف. فتتزين واجهات دكاكين ومحلات ومغازات بيع الهدايا بشتى أنواع اللعب. تصبح وجهة أرباب العائلات في العشر الأواخر من رمضان من أجل إبهاج أبنائهم في العيد، لكن ثمة باعة عرضيون للعب العيد اختاروا التجوال على الأقدام بحثًا عن رزقهم في الأحياء وأمام المدارس وساحات القرى، فيبدون كمبشرين بالعيد في أماكن لا يصلها وهج الأسواق وأضواء المحال الكبرى.

 

 

"محمد نسيم نوالي" هو ابن ضاحية الزهروني، كبرى الأحياء الشعبية غرب العاصمة تونس، غادر لتوّه مرحلة الشباب نحو الكهولة، ورث عن والده عدّة حرف وصنائع يجني منها قوت عائلته الصغيرة على مدار المواسم ومنها بيع لعب العيد في رمضان.

يتنقّل بائع اللعب نسيم نوّالي بدراجته وصندوقه المحمّل بالأفراح إلى عمق الأحياء المنسية بالعاصمة وينادي على الأطفال بمضخم صوت صغير ومزمار خاص فيتجمهر حوله الصبية من البنات والأولاد

يقول: كنت أيام المراهقة أرافق والدي خلال أيام النصف الثاني من شهر رمضان الكريم نحو "سوق بومنديل" وسوق "نهج البلار" وسوق "القرانة" بالمدينة العتيقة بتونس. وكنت أتابعه وهو يقتني البضاعة استعدادًا لموسم العيد.

ويضيف نسيم: لقد كنت أساعد والدي على حمل أكياس لعب العيد ووضعها في سيارة أجرة في اتجاه الزهروني، ومن ثمة ترصيفها بالمنزل والنزول بها لساحات البيع طيلة الأيام الأخيرة من رمضان.

 

صورة
من دلالات العيد وأماراته في تونس هو ظهور لعب العيد في كل مكان (ياسين القايدي/ الأناضول)

 

اختار نسيم أسلوبًا أكثر تطورًا من والده فقد اقتنى دراجة هوائية باتت تساعده على التنقل إلى أحياء مجاورة، يشد إليها صندوقًا من الورق المقوى ويضع داخله لعب الأطفال المشتهاة مثل البالونات من مختلف الألوان والأحجام وعرائس "باربي" للبنات ومسدسات من بلاستيك قاذفة للمياة واللعب الحربية والأزهار المضيئة ليلًا و"فوشيك البني بني". 

ويذكر نسيم أنه يقف أمام بوابات المدارس بالأحياء الشعبية فيطير إليه الأطفال الصغار طيرانًا ليشاهدوا الألعاب الجديدة ويقتنوا ما لذّ لهم بأبخس الأثمان، ويضيف أنه يسعد لسعادة أبناء البسطاء الحالمين وفرحتهم وهم يحملون لعبة عيد لا تقدر بثمن، وفق قوله.

يتنقّل نسيم نوّالي بدراجته وصندوقه المحمّل بالأفراح إلى عمق الأحياء المنسية بالعاصمة وينادي على الأطفال بمضخم صوت صغير ومزمار خاص  فيتجمهر حوله الصبية من البنات والأولاد، يقول: "ما أحلاهم أولاد الزواولة وهوما فرحانين بلعب العيد". 

نسيم نوالي (بائع لعب): يوم العيد هو يوم العمل الحقيقي بالنسبة لي فأقصد ساحة الحي محمّلًا بأكياس ألعابي وتتحوّل الساحة فجأة إلى كرنفال من الألوان والأهازيج والأصوات واللعب

وخلال السهرات يقوم نسيم بجولة في عدّة مقاه شعبية عادة ما تكون مزدحمة بالرّواد، فيبيع بعض بضاعته للآباء المنهمكين في لعب الورق علّه ينسيهم قسوة الأيام، فيراهم يدسون اللعب في جيوبهم أو يضعونها حذوهم بعناية في انتظار العودة إلى المنزل واكتمال مشهد فرحة أطفالهم بلعبة العيد.

أما يوم العيد نفسه فهو يوم العمل الحقيقي  بالنسبة لنسيم بائع لعب العيد لسنوات عديدة، إذ يؤكد أنه يفيق باكرًا في ذلك اليوم الكبير فيرصف لعبه في أكياس ويضعها في الصندوق المشدود إلى دراجته، ثم يقصد مكانه المعتاد في ساحة الحي التي تتحول فجأة إلى كرنفال من الألوان والأهازيج والأصوات واللعب والتقاط الصور الفوتوغرافية.

نسيم نوالي هو واحد من حملة مباهج العيد على طول جغرافيا الوطن، شقي بالعيد لكنه يسهم في تمتين الخيال والأحلام لدى أطفال البسطاء، أبناء الوطن.

العيد ومباهجه وقيمه الأخلاقية السمحة وفرحة الأطفال فيه لا يعدو أن يكون سوى حنينًا دائمًا ومرتكزًا أصيلًا  في الطبيعة الإنسانية، يفتح لنا دروبًا تأخذنا بيسر من الحقيقة القاسية إلى السعادة العابرة، لكنها دروب سرعان ما تتبدّى من جديد في السنة المقبلة، مع ظهور هلال شهر رمضان المعظّم.