15-فبراير-2024
بئر بروطة في القيروان.. الماء الهرهار والجمل الدوّار

حكاية جمل بئر بروطة في القيروان، تكتنز معنى الصبر في أبرز تجلياته (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

كان لنا يوم في القيروان، عشقنا فيها التاريخ والعطر الذي فاح من أثر العلماء والفقهاء الذين جعلوا منها بوابة العلم ومنبع الإيمان. كانت آثارهم تتناثر في الأرجاء فتزرع في النفس السكينة والأمان. ولمّا كان الماء أمانًا، قصدنا السقاية من سبيل بئر بروطة في القيروان، ففيها عين ماء عذب يستخرج من بئر في جرار مشدودة إلى دواليب خشبية يديرها جمل معصوب العينين يحوم حول فتحة البئر.

يمكن للعابرين ممّن يرغبون في السقاية، أن يقصدوا سبيل بئر بروطة في القيروان، بعين الماء العذب الذي يستخرج من بئر في جرار مشدودة إلى دواليب خشبية يديرها جمل معصوب العينين يحوم حول البئر

لم نكن وحدنا في زيارة بئر برّوطة في القيروان، بل كانت قوافل الزوار تصعد أربعًا وعشرين درجًا لتكتشف هذا المعلم الفريد الصامد الذي شيّده هرثمة بن أعين والي إفريقية في العهد العباسي سنة 180 هجرية/ 796 ميلاديّة ثمّ جدّده محمد بن مراد باي سنة 1101 هـ/1690 م.

قصة الماء والجمل هي قصة الحياة، وحكاية جمل برّوطة في القيروان، تكتنز معنى الصبر في أبرز تجلياته، قد أخبرتنا الحكايا عن القوافل وعن سفينة الصحراء وأخبرونا عن خصال الجمال في عبور السباخ محمّلة بالملح، كما حدثونا عن الارتواء في المنابع والواحات بعد مشاق السفر، ولكن جمل بروطة أخبرونا عنه أنه يصعد مدرّجات ضيقة تحتوي 24 درجة ليستقرّ في طابق علوي ويظلّ متحركًا طوال حياته في شكل دائري في قاعة يتوسطها بئر، فيدير دولابًا لجلب المياه حتى يأتي يوم ينزل من علويّته لحمًا، وصار مضرب مثل تونسي يقال فيه: "مثل جمل بروطة يدخل حوارًا (صغير الجمل) ويخرج أطباقًا" أي أنه يُذبح ويقدم كوجبة.

 

لوحة خارجية بئر بروطة
بئر برّوطة في القيروان معلم فريد شيّده هرثمة بن أعين والي إفريقية في العهد العباسي سنة 180 هجرية/ 796 ميلاديّة ثمّ جدّده محمد بن مراد باي سنة 1101 هـ/1690 م (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

ويُروى في هذا السياق الكثير من القصص، منها أن بروطة هو اسم السلوقية، التي عادت إلى جيش الفتح ورجلاها مبللتان بالطين، وكانت تبحث عن الماء. فعمّقت تلك العين في ذلك المكان الذي كان قاحلًا، وأطلق اسم بروطة عليها.

على مرّ مئات السنين، كانت جمال بئر برّوطة ينظر لها كالقرابين، وكنت كذلك أنظر إليها خلال الزيارات التي وفدت فيها على مدينة القيروان، وعهدي بأول زيارة لبئر بروطة لما كنت في السادسة من عمري حينها رافقت جدي الذي كان يعرض منتوجات بناته من الزرابي الصوفية في سوق القيروان. وشربت من ماء بروطة اعتقادًا منا أن من يشرب من هذه البئر سيعود حتمًا إلى القيروان في زيارة أخرى.

لم يعد جمل بئر بروطة يصعد المدرّجات صغيرًا ولا ينزل من الطابق العلويّ سوى لحم، بل أصبح يصعد كل صباح ليعود إلى مربضه في المخزن بحومة الباي المجاور لمبنى بروطة

جمل بروطة ليس ككل الجمال، فهو يطوف حول البئر وقد أغمضت عيناه بمنديل وتزينت خاصرته بالأقمشة الخضراء والحمراء فكأنه العريس في المحفل يتحلق حوله الزوار ويتبركون به ويقتطفون معه الصور التذكارية ويذكرونه بشفقة على مصيره المحتوم.

 

مشهد لبئر بروطة التاريخي
 كان جمل بروطة يصعد مدرّجات ضيقة تحتوي 24 درجة ليستقرّ في طابق علوي ويظلّ متحركًا طوال حياته في شكل دائري في قاعة يتوسطها بئر، فيدير دولابًا لجلب المياه حتى يأتي يوم ينزل من علويّته لحمًا (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

اليوم، تفاعل جمل بروطة مع متغيرات العصر فلا عاد يصعد المدرّجات صغيرًا وما ينزل من الطابق العلويّ لحمًا، بل أصبح يصعد كل صباح ليعود إلى مربضه في المخزن بحومة الباي المجاور لمبنى بروطة. جمل بروطة صار يتمتع براحة لثلاث ساعات حتى يتمكن من العلف والراحة ثم يزاول دورانه وقد لا يتمّ نحره فيتحرر من هذا المكان ويعوّض بجمل آخر وقد ضبطت مهامه بشروط تشرف عليها دائرة التراث.

  • أحمد الإمام: قاسم ومسعود، هما جملان يعملان في جلب الماء بالتداول يومًا بيوم

تحدّث أحمد الإمام (36 سنة) المشرف الحالي على معلم بروطة الأثري، لـ"الترا تونس"، فبيّن لنا أنه المحافظ الحالي لبئر بروطة ويعتني بالمعلم بما يحتويه من مرافق المقهى والجمل والدواليب، كما يسعى إلى التحسين والصيانة واستقبال الزوار والعناية بالنظافة ومحيط الموقع.

المشرف الحالي على معلم بروطة الأثري لـ"الترا تونس": يقع عرض الجملين على طبيب بيطري بشكل دوري وأوفر لهما الأعلاف وأعرّضهما لأشعة الشمس باستمرار في مخزن حومة الباي

وكشف أحمد الإمام لـ"الترا تونس" أنه "يوجد في المعالم اثنين من الجمال أحدهما يبلغ من العمر 5 سنوات والثاني 7 سنوات وقد أطلق عليهما اسمين (قاسم) و(مسعود)، ويعملان في جلب الماء بالتداول يومًا بيوم. ونظرًا لحاجة الجمل إلى الراحة والتداوي فإنه يَعرضهما على طبيب بيطري بشكل دوري ويوفر لهما الأعلاف ويعرّضهما لأشعة الشمس باستمرار في مخزن حومة الباي".

 

صورة للشرف على بئر بروطة أحمد الامام يداعبه الجمل صور ماهر جعيدان
المشرف على البئر: "عملية العناية بالمعلم الذي يندرج تحت إدارة المعهد الوطني للتراث، تتم بصفة دورية وبتمويل من مداخيل المقهى" (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

وأوضح أحمد الإمام أن عملية العناية بالمعلم الذي يندرج تحت إدارة المعهد الوطني للتراث تتم بصفة دورية وبتمويل من مداخيل المقهى الذي يتوافد عليه الزوار بشكل غير منتظم حسب الحركة السياحية بالمدينة ودرجة تطورها الموسمي".

  • محمد اللواتي: 

ولمزيد الاطلاع على أسرار بئر بروطة في القيروان، تواصل "الترا تونس" مع الباحث في التراث الإسلامي محمد اللواتي الذي أوضح قائلًا: "يقع هذا السّبيل على الجهة اليسرى من الشارع الرابط بين باب تونس وباب أبي الربيع الذي كان يسمّى عند تأسيس مدينة القيروان السّماط وأصبح في الوقت الحاضر يسمّى شارع الحبيب بورقيبة وسط المدينة العتيقة قرب سوق الأحد. ويمثّل السّبيل بناية ضخمة تتكوّن من طابق أرضي تتوسّطه البئر ومجموعة محلاّت تجارية بالجهتين الجنوبيّة والشرقيّة وسبّالة ومحلّ تجاري بالجهة الشماليّة وطابق علوي تعلوه قبّة".

باحث في التراث الإسلامي لـ"الترا تونس": يمثّل سبيل بئر بروطة بناية ضخمة تتكوّن من طابق أرضي تتوسّطه البئر ومجموعة محلاّت تجارية بالجهتين الجنوبية والشرقية وسبّالة ومحلّ تجاري بالجهة الشماليّة وطابق علوي تعلوه قبّة

وأضاف اللواتي: "يمكن الصعود إلى الطابق العلوي بواسطة باب الواجهة الرئيسية بالجهة الجنوبية. وهي تفتح على مدرّجات تتكوّن من 24 درجة مسقوفة بقضبان خشبيّة من شجر العرعار غير مهندمة تفضي إلى بهو مستطيل الشكل، وتمّت تهيئة زاويته الشماليّة الشرقيّة لطبخ القهوة، ويتخلّل واجهتها الشماليّة عمودان من الحجر الصّلب. وقد أحيطت جدرانها الغربيّة والجنوبيّة ونصف الشرقيّة بمقاعد حجريّة ترتفع نصف متر. وشكّلت الغرف الثلاث قاعات الجلوس لروّاد المقهى. وحسب رأي الأستاذ رياض المرابط فإنّ الغرف الثلاث كانت في الأصل كتّابًا لتدريس القرآن لأنّ المعلم تمّ تجديده علي الطراز المعماري المملوكي المعروف في التقاليد المعمارية بمصر خلال الفترة المملوكية".

وتوسع الباحث اللواتي في تفصيل الموقع قائلًا: "احتوت الجهة الشرقيّة على قاعة واسعة جدًّا ومربّعة الشّكل شبيهة بالإيوان الفارسي ويتوسّطها البئر والنّاعورة التي يحرّكها جمل. لذلك تكوّنت واجهتها الغربيّة من قوس نصف دائري. وتخلّل واجهتها الجنوبيّة قوس نصف دائري متجاوز تتوسّطه نافذة مستطيلة الشّكل تحميها ستارة من القضبان الحديدية السميكة. وتتوسّط هذا القوس مقاعد حجريّة كُسيت بمربّعات فخاريّة متعدّدة الألوان. وشيّدت الجهتان الشرقيّة والشماليّة، كلاهما على غرار الجهة الجنوبيّة. ويتخلل كلّ منهما قوس نصف دائري متجاوز تتوسّطه نافذة. ولهما مقاعد حجريّة مكسوّة بالمربّعات الفخاريّة متعدّدة الألوان حديثة العهد".

 

مشهد داخلي لبئر بروطة
 محمد اللواتي: تمّ وضع دولاب النّاعورة الأوّل فوق الجزء المغطّي في حين وضع دولاب النّاعورة الثّاني فوق الجزء المكشوف (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

وأضاف محمد اللواتي في حديثه عن البئر: "تتوسّط البئر هذه القاعة وهي مكسوّة بالجليز والرّخام. تمّت تغطية ثلثيها ولها جناحان من الشّرق والغرب مكسوّان بالجليز، ولكلّ منهما فتحة مستطيلة الشكل. وتمّ وضع دولاب النّاعورة الأوّل فوق الجزء المغطّي في حين وضع دولاب النّاعورة الثّاني فوق الجزء المكشوف وعلّقت به مجموعة قلال صغيرة. وعندما يتحرّك الجمل تدور النّاعورة وتخرج القلال مملوءة بالمياه العذبة الصّالحة للشّراب".

باحث في التراث الإسلامي لـ"الترا تونس": يبدو أنّ سبيل بئر بروطة هو أوّل منشأة مائيّة شيّدت داخل مدينة القيروان خلال العهد العبّاسي من قبل والي إفريقيّة

وأشار محمد اللواتي إلى أن هذا السبيل "يبدو أنّه أوّل منشأة مائيّة شيّدت داخل مدينة القيروان خلال العهد العبّاسي من قبل والي إفريقيّة هرثمة بن أعين. وقد تعطي هذه المنشأة فكرة عن توفّر بعض الموارد المائيّة العذبة وسط المدينة والأساليب الأولى المتّبعة من قبل السّلطة الحاكمة في السّعي لتوفيرها. وبسبب عدم نضوب هذه البئر واستغلالها على مدى حوالي 12 قرنًا من الزّمن، مع تغيّر بسيط في مذاق طعم مياهها، فإنّها شبيهة بعين جارية. وقد كان اسم هذه المنشأة في الأوّل بئر روطة ثمّ تطوّرت التّسمية حتى أصبحت بئر برّوطة. ونرى أنّ المعلم الحالي تمّ تشييده خلال فترات زمنيّة مختلفة، وعرف عدّة أشغال اعتنت بحمايته وترميمه. وربّما لم يبق من المعلم القديم سوى بعض الجدران الرئيسيّة".

 

سقاية الماء من بئر بروطة
 محمد اللواتي: لم تنضب هذه البئر على مدى حوالي 12 قرنًا من الزّمن، وهي شبيهة بعين جارية (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

وكشف الباحث محمد اللواتي أنه "قد أدخلت على المعلم بعض التغييرات من الجهة الشماليّة خلال فترة حكم محمد بن مراد باي (1666-1690 م) انتهت سنة 1690 م بزيادة سبّالة وثلاثة أحواض بهذه الجهة على نهج برّوطة أصلها قبور تعود للفترة الرومانيّة وهدفها توفير المياه للنّاس والحيوانات. ورغب هذا الباي في جعلها صدقة جارية تهدف إلى كسب ثواب الله في الآخرة. وتوضّح وثائق الأرشيف أنّ هذا المعلم حبّست عليه مجموعة عقّارات بمدن القيروان وتونس وسوسة تصرف عائداتها على ما يحتاجه من إصلاح وترميم".

بئر برّوطة في القيروان قصة الماء والجمل وسقاية المارين والزائرين وأبناء السبيل في أرض كانت فاتحة الإسلام في بلاد المغرب العربي واقترنت بصحابة النبيّ، ظلّت لمئات السنين معلمًا وسكنًا ومضرب أمثال للمقيمين والعابرين وبقيت العين جارية لأكثر من اثني عشر قرنًا آية للصالحين.

 

جمل بروطة ليس ككل الجمال، فهو يطوف حول البئر وقد أغمضت عيناه بمنديل وتزينت خاصرته بالأقمشة الخضراء والحمراء
جمل بروطة ليس ككل الجمال، فهو يطوف حول البئر وقد أغمضت عيناه بمنديل وتزينت خاصرته بالأقمشة الخضراء والحمراء (ماهر جعيدان/الترا تونس)