الساعة تعلن عن العاشرة ليلًا، وهدير، ابنة الست سنوات، لا تزال مستيقظة، وهي المحبة للنوم والاستلقاء عادة في حضن والدها منذ ساعات الليل الأولى، لكن اليوم مغاير، هي ليلة ذكرى المولد النبوي في منزلها، وهي تعرف هذا الاحتفال جيدًا وتحب طقوسه وملذاته.
يلتقي بعض التونسيين ليلة المولد النبوي في مقامات الأولياء الصالحين والمساجد لسرد السيرة النبوية وترديد قصائد في مدح الرسول
تجلس الصغيرة هدير قرب والدتها وجدتها، تتابع بعينيها الصغيرتين حركات الأم الدؤوبة وهي تطهو "عصيدة الزقوقو"، إحدى أشهر الحلويات التونسية، التي تصنع من الصنوبر الحلبي، المعروف في تونس بلفظ "الزقوقو"، وتُعدّ خصيصًا للاحتفال بالمولد النبوي، في تقليد تونسي خالص.
يتم إعداد هذه الحلويات ليلة ذكرى المولد النبوي لما تتطلبه من وقت وجهد ولتكون جاهزة صباح الغد، ليستمتع بلذتها الكبار والصغار، ولتقدم للضيوف من الأهل والأحباب خلال الأيام القليلة التي تلي المولد النبوي.
تنظف الأم هادية الزقوقو جيدًا وتتأكد من خلوه من أي شوائب، ثم تقوم برحيه وغربلته، ويطهى إثر ذلك مع الماء والسكر والدقيق. بالتوازي، تحضر الجدة "الكريمة" وهي خليط من الحليب والبيض والسكر والنشا. يوضع خليط الزقوقو بعد طهيه في صِحاف، ويُردف بـ"الكريمة"، بعد أن يتماسك، ثم يزين الإناء بالمكسرات/الفواكه الجافة، كالفستق والبندق والجوز واللوز وحلويات أخرى، وهذه المرحلة الأحب لقلب هدير.
وتاريخيًا، لم يكن الزقوقو/الصنوبر الحلبي يعتمد للاستهلاك البشري إلا بعد سنة 1864، أي إبان ثورة علي بن غذاهم، حسب عبد الستار عمامو، الباحث في التراث التونسي. فقد رافق تلك الثورة جفاف حاد مما اضطر سكان الشمال التونسي، أين يكثر إنتاج مادة الزقوقو، لاستعماله للأكل. لكن هذا المنتج الذي طالما ارتبط، في أذهان التونسيين في زمن تليد، بالفقر وقلة ذات اليد صار مع الزمن رمزًا للاحتفال والرفاه الاجتماعي أيضًا، نظرًا لارتفاع سعره اليوم.
أعدت عائلة هدير هذه السنة "عصيدة الزقوقو"، وهي عادة تحرص عليها العائلة رغم تكلفتها الباهظة فالكيلوغرام الواحد من هذه المادة يتراوح بين 15 و20 دينارًا تونسيًا أي ما بين 7 و9 دولار أمريكي. ويضاف إلى ثمن كيلوغرامات الزقوقو ثمن المكسرات للتزيين وباقي المشتريات وهو ما قد يرفع تكلفتها لـ100 دينار تونسي/45 دولار أمريكي بالنسبة لعائلة صغيرة. تتذكر هادية، الأم ذات 35 عامًا، ماضيها مع هذه الاحتفالات: "لا تهمني المصاريف المادية رغم التكلفة المتضاعفة كل عام أمام فرحة هدير بهذه الحلويات، لكن شروط هذه الصغيرة تزداد كل يوم، فمنذ فترة تذوقت عصيدة البوفريوة/الجوز، وهي مكلفة جدًا وهي تلح علينا لتوفيرها أيضًا".
تنتظر هدير بترقب شديد أن تصلها "شارة الانطلاق" من والدتها، لتبدأ في تزيين بعض الصحاف، حسب ما يحلو لها. فـ"الأكولة الصغيرة" تحبذ الفستق وتحرص أن تزين به، مرحيًا أو على حالته الطبيعية، كل صحافها. وهو ما يثير امتعاض الأم وضحكها في آن واحد. أما الجدة فلا ترد طلبًا للصغيرة، تقول الجدة لـ"ألترا صوت": "هي فعلًا مناسبة دينية، لكنها فرصة للصغار للاحتفال فلا داعي لمضايقتهم، يكفي أن هذا الاحتفال فقد الكثير من بهرج الماضي".
تصرح حليمة، الجدة في سنة 55 عامًا، بهذه الكلمات لأنها من أصيلات محافظة القيروان، حوالي 160 كيلومترًا عن العاصمة التونسية، وفي القيروان تزدهر الاحتفالات بالمولد النبوي بشكل خاص، حتى أن الاحتفالات بالمولد صارت، بشكل موسع، ومنذ سنوات طويلة تكاد تقتصر على هذه المدينة إضافة إلى جامع الزيتونة، في قلب العاصمة التونسية. وقد كان للقيروان أهمية تاريخية كبرى في الفتح الإسلامي فمنها انطلقت حملات الفتح نحو الجزائر والمغرب وإسبانيا وأفريقيا، كما أنها رقاد عدد من صحابة الرسول، لذلك تتميز باحتفالات دينية أضخم من محافظات تونسية أخرى.
تؤكد عديد المراجع التاريخية أن بداية الاحتفال بالمولد النبوي في تونس تعود للعهد الحفصي (1228-1574م)
لكن بشكل عام تعرف مختلف محافظات تونس، وبشكل خاص جامع الزيتونة في العاصمة، حركية غير معتادة في اليوم السابق لذكرى المولد وفي اليوم ذاته، إذ يتوافد الرجال والأطفال على المساجد أين تتلى المدائح والأذكار والابتهالات ومنها قصيدة "الهمزية في مدح خير البرية" للإمام البصيري ويتم إنشادها عادة على وزن المالوف التونسي بطريقة بطيئة في أولها ثم يتسارع النسق في آخرها. ويقام موكب للاحتفال بذكرى المولد النبوي في جامعة الزيتونة أيضًا وهو الموكب الذي عادة ما يحضره الرؤساء الثلاث ووزير الشؤون الدينية وسياسيون بارزون في تونس من مختلف المشارب والأيديولوجيات.
ويلتقي بعض التونسيين ليلة المولد، الموافق لـ12 ربيع الثاني، في مقامات الأولياء الصالحين والمساجد لسرد السيرة النبوية وترديد قصائد في مدح الرسول على غرار الشقراطسية للإمام الشقراطيسي، أصيل مدينة توزر، في الجنوب التونسي.
تقاليد المناسبة لم تتغير منذ سنوات، يألفها الجميع في تونس. حتى الثورة، لم تبدل شيءًا من الطقوس رغم ما لاقته هذه الاحتفالات من انتقادات، إذ يعتبرها الكثيرون ومنهم التيار السلفي "بدعة" ويرى علماء دين ومؤرخون آخرون أنها "بدعة حسنة" باعتبارها تكريم لرسول المسلمين. لكن هذا الجدل، وإن علت حدته خلال السنوات الأولى التي تلت الثورة إلا أن التونسيين تناسوه. لم يطمس الجدل أبدًا، لكن كل شيء عاد إلى طبيعته، حتى التلفزيون التونسي الرسمي، يعيش الاحتفال بذات البرمجة من ابتهالات وبث لموكب الاحتفال في الزيتونة أو القيروان دون أي تغيير يذكر.
حسب الباحث والمؤرخ التونسي عبد الستار عمامو فإن هذا الاحتفال عادة تفرد بها ملوك تونس منذ قرون. ويرجح أن بداية الاحتفال به انطلقت في العهد الفاطمي (909 -1171م)، لكن عديد المراجع التاريخية تؤكد أن بداية الاحتفال تعود للعهد الحفصي (1228-1574م). وقد حافظ العثمانيون عند قدومهم إلى تونس (1574) على هذه العادة وأضفوا عليها طابعًا رسميًا بتنظيم مواكب في قصور البايات، يدعى إليها كبار مسؤولي الدولة والأئمة. ومنذ العهد الحسيني، خاصة في فترة حكم أحمد باشا باي (1873-1855)، أصبح موكب الاحتفال ينظم في جامع الزيتونة، حيث يتحول الباي وحاشيته إلى الجامع وينتظم موكب تتلى خلاله "السريدة" وهي قصة السيرة النبوية.