مقال رأي
عندما اختارت تونس في ستينيات القرن الماضي ضمن السياسة الثقافية المتوخاة حينها من قبل مهندسي دولة الاستقلال بذل المال العام من أجل التثقيف والترفيه وما قد ينجر عن ذلك من إعادة تشكيل المجتمع على نحو آخر، كان في الأمر وجاهة ما، خاصة وأن البلد خارج لتوه من طور استعمار فرنسي بشع ونهّاب وضرب مفهوم "المجتمع" في الصميم، فأغرق الشعب في الأمية والجهل وحاد به عن تاريخه الضارب في القدم وسلبه ثرواته وتعسف على هويته وخصوصياته الثقافية.
ورغم قلة ذات اليد في تلك اللحظة التاريخية التي تعيشها تونس وتأخر إنشاء وزارة للثقافة فإن المشروع الثقافي الوطني قام على مبدأين أساسين هما: التأصيل من جهة أولى (التونسة والعودة للجذور والخصوصيات المحلية..) والانفتاح على ثقافات العالم وخصوصًا الثقافة العربية الإسلامية.. من جهة ثانية.
سياسة بذل المال العمومي والتي نسميها اليوم "سياسة الدعم" في المجال الثقافي لم تعد صالحة بالدرجة التي كانت عليها في البدايات وتتعالى الصيحات في كل مرة اليوم في اتجاه الدعوة الملحة لمراجعة فلسفة الدعم الثقافي وخلق أفق آخر
لكن سياسة بذل المال العمومي والتي نسميها اليوم "سياسة الدعم" والتي بقيت سائدة طيلة عقود الاستقلال والموجهة إلى خمسة مسالك فنية وما يتفرع عنها من إبداع هي: الفنون الركحية والفنون السمعية البصرية والفنون التشكيلية والتصوير الشمسي والموسيقى والرقص وفنون الفرجة الحية والتراث الثقافي والحرف، ورغم تطويقها بترسانة من القوانين التي تحاول حماية أموال دافعي الضرائب من النهب والتربص تحت يافطات الإبداع والتفنن إلا أنها وحسب المختصين في الشأن الثقافي التونسي لم تعد صالحة بالدرجة التي كانت عليها في البدايات حيث تتعالى الصيحات في كل مرة في اتجاه الدعوة الملحة لمراجعة فلسفة الدعم الثقافي وخلق أفق آخر وبدائل أكثر لياقة وأكثر احترامًا لخيارات الدعم التي انتهجتها الدولة.
فمع حلول كل صيف وانطلاق ما يعرف "بالمهرجانات الصيفية" وهي كناية بلاغية على ثقافة الفضاءات المفتوحة والتي جوهرها الأساسي الإبداع الموسيقي والغناء ومختلف فنون الفرجة المحلية أو العربية أو تلك الوافدة من ثقافات أخرى، يندلع في تونس نقاش مجتمعي واسع الهدف منه تنبيه الدولة التونسية ممثلة في وزارة الشؤون الثقافية إلى جملة من النقاط تتعلق أساسًا بمسألة البرمجة والدعم المالي لتلك التظاهرات التي يفوق عددها 500 مهرجان موزعة على طول البلاد بين مهرجانات دولية وجهوية ومحلية ولعلنا أحيانًا نجد في نفس المدينة أكثر من تظاهرة ثقافية صيفية كلها تتمتع بالمال العمومي الممنوح من قبل وزارة الشؤون الثقافية.
ميزانية وزارة الشؤون الثقافية في تونس لسنة 2023 تناهز أو تفوق 395 مليون دينار بزيادة قدرت بـ 13 بالمائة مقارنة بسنة 2022، منها 97 مليار موجهة للدعم بشتى أنواعه وفروعه أي بنسبة 26 بالمائة والتظاهرات والمهرجانات الصيفية تنال النصيب الأوفر من كتلة الدعم
وإذا ما علمنا أن ميزانية وزارة الشؤون الثقافية لسنة 2023 تناهز أو تفوق 395 مليون دينار بزيادة قدرت بـ 13 بالمائة مقارنة بسنة 2022 منها 97 مليار موجهة للدعم بشتى أنواعه وفروعه أي بنسبة 26 بالمائة ، وإذا ما علمنا أكثر أن نسبة دعم التظاهرات والمهرجانات الصيفية تنال النصيب الأوفر من كتلة الدعم، نفهم دواعي النقاش والجدل الذي يندلع مع كل صائفة بخصوص هذه المسألة وتوجيه تلك الأموال الطائلة ـ على قلتها ـ إلى مستحقيها من الفنانين والمبدعين الحقيقيين الذين يسعون إلى الارتقاء بالذوق العام عبر جماليات مدهشة تخلق أفاقًا من التفكير والتدبير وأيضًا يوجه إلى التظاهرات الجادة المضيفة والبناءة.
في تونس وفي ظل متغيرات سياسية محلية ودولية، ثمة وعي شديد يشبه الإجماع بين الفاعلين الثقافيين وبين مكونات المجتمع المدني والأنتلجنسيا التونسية ذاتها أنه حان الوقت لتغيير أسلوب الدعم الثقافي وآلياته وإحداث توازن بين الموسمين الشتوي والصيفي.
ثمة وعي شديد يشبه الإجماع بين الفاعلين الثقافيين في تونس أنه حان الوقت لتغيير أسلوب الدعم الثقافي وآلياته وإحداث توازن بين الموسمين الشتوي والصيفي
خلال هذه الصائفة (2023)، أشارت وسائل الإعلام إلى ضعف برمجة أغلب المهرجانات الصيفية بما في ذلك المهرجانات الدولية وعلى رأسها مهرجان قرطاج الدولي وأوضحت أنه لا يوجد توازن بين شتى الفنون أو بين الأجناس الموسيقية ذاتها أو بين المحلي والعربي والدولي، وتطرّقت بقوة إلى غياب الندوات واللقاءات ومختلف الأنشطة الفكرية.
كما أشار النقاش الذي اندلع هذه الصائفة في الساحة الثقافية التونسية إلى ارتفاع أجرة نجوم الفن من المطربين والموسيقيين سواء التونسيين أو العرب أو الأجانب حتى أن حفلاً للفنان صابر الرباعي بمهرجان باجة حاز قرابة نصف الميزانية، الشيء الذي أربك الهيئات المديرة وجعلهم في حيرة بين الجودة وطاحونة الشيء المعتاد وهو أمر دفع إلى إلغاء بعض السهرات المبرمجة أو إلغاء دورات بأكملها على غرار ما حدث مع مهرجان الجاز بطبرقة.
كل هذا يحيلنا للحديث عن ميزانية المهرجان التي تتشكل في العموم من دعم أساسي تقدمه وزارة الشؤون الثقافية عن طريق مندوبياتها وآخر من البلدية ومن الولاية ومن المستشهرين وبعض الهبات، لكن لنعلم أيضًا أن لكل مهرجان تدبيره في تشكيل الميزانية وأن قانون الجمعيات هو الفيصل.
اندلع نقاش هذه الصائفة في الساحة الثقافية التونسية بخصوص ارتفاع أجرة نجوم الفن من المطربين والموسيقيين سواء التونسيين أو العرب أو الأجانب حتى أن حفلاً للفنان صابر الرباعي بمهرجان باجة حاز قرابة نصف الميزانية
لقد حان الوقت الآن لتشخيص واقع "السياسة المهرجانية" في تونس من قبل جميع المعنيين وجميع الشركاء وخصوصًا في الموسم الصيفي والذهاب إلى مأسسة جميع المهرجانات بقوانين واضحة ودقيقة والتخلي عن إخضاعها لقانون الجمعيات وفسح المجال للترشح لإدارة المهرجانات حسب المشاريع الثقافية والبرمجات... ومراجعة آليات الدعم كأن توضع المنحة على ذمة المهرجان حسب البرنامج المقدم مسبقًا وتصرف مباشرة من قبل "المؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات والتظاهرات الثقافية" وجعل مقاييس جديدة تولي الخصوصية الثقافية الوطنية أو المحلية أهمية كبرى خلال البرمجة كما تضمن كل برمجة بالضرورة حق جميع المواطنين في الترفيه والتمتع بحفلات ذات مستوى سواء منتجة في تونس أو وافدة من ثقافات العالم في إطار دمقرطة الترفيه.
كما بات من الضروري أكثر من أي وقت مضى أن يُراجع سلم التأجير الفني سواء بالنسبة للمبدعين التونسيين أو الأجانب وأن يخضع السلّم الجديد لمقاييس متفق حولها مسبقًا عن طريق الخبراء والفنيين، وجعل الدينار التونسي هو عملة صرف منح الفنانين جميعهم تفاديًا لنزيف العملة الصعبة في ظل أزمة اقتصادية ومالية حادة تعاني منها تونس في هذه اللحظة السياسية الراهنة.
بات من الضروري أكثر من أي وقت مضى أن يُراجع سلم التأجير الفني سواء بالنسبة للمبدعين التونسيين أو الأجانب وأن يخضع السلّم الجديد لمقاييس متفق حولها مسبقًا عن طريق الخبراء والفنيين
أما إذا ما بقي الحال على ما هو عليه وتتكرر نفس أخطاء السنوات السابقة مع كل صائفة فإننا نسير لا محالة إلى مدارات أكثر ترديًا وربما يهجر الجمهور التونسي المهرجانات الصيفية تمامًا وإلى الأبد لأنها لا ترقى إلى مستوى تطلعاته الجمالية والذوقية والإيتيقية.
وختامًا تبقى الثقافة مجالًا حيويًا للشعوب لخلقها ذاك الشعور بالانتماء للوطن وتلمس مجموع الهويات الصغيرة التي تشكل الحضارة التي ننتمي إليها لكنها في ذات الوقت موضوع للتنمية لابد من الإحاطة به وتدبره وخلق مسارات ديمومته عن طريق القوانين والخضوع الطوعي لمبدأي الحرية والديمقراطية.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"