08-فبراير-2020

تنشر العديد من الوزارات والمؤسّسات العمومية أرقامًا وإحصائيات لا تحقق الصحافة في آليات إنتاجها (صورة تقريبية/ getty)

 

تمثل الأرقام والإحصائيات وسيلة فعالة يمكن أن يستعملها الفاعلون السياسيون والمؤسسات والخبراء لإقناع الرأي بوجاهة سياساتهم. تبدو الإحصائيات إذًا حجة دامغة لا يمكن لأحد أن يفندها أو يدحضها فهي ترتدي ثياب العلم والعقل. "فالأرقام، كما يقول المثل الفرنسي، تتكلم بنفسها"، أي وكأنها حجة لوحدها. وتعمل مؤسّسات عديدة في تونس على صناعة الإحصائيات لتحولها إلى صناعة مربحة ماليًا ورمزيًا بل سياسيًا أحيانًا.

الإحصائيات وسيلة من وسائل العلاقات العامة

ظهر الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية في الأسابيع الماضية القليلة في قناة الحوار التونسي بعد عملية "براكاج" راح ضحيتها رقيب بالجيش الوطني. وساهمت بشكل كبير في تعزيز الإحساس بتفاقم العنف في البلاد. قدمت الصحفية رقمًا عن عمليات "البراكاج" (5500 سنويًا). فند الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية الأرقام مجهولة المصدر التي قدمت ليقول لنا إن الأرقام الخاصة بالسرقات (بما في ذلك "البراكاجات") قد انخفضت بنسبة 7,16 في المائة من 2018 إلى 2019. كما أضاف أرقامًا أخرى عن جرائم "النطر" والسلب وجرائم الاعتداء بالعنف التي انخفضت كلها مما يؤكد، حسب الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية، تحسن الأداء الأمني.

تعمل مؤسّسات عديدة في تونس على صناعة الإحصائيات لتحولها إلى صناعة مربحة ماليًا ورمزيًا بل سياسيًا أحيانًا

لكننا لن نعرف شيئًا عن الهيئة أو المصلحة التي تصدر هذه الإحصائيات وعن المنهجيات المستخدمة لإنتاجها. ولم تطلب الصحفية أية معطيات أخرى يمكن أن تساعد المواطنين من التأكّد من مصداقية هذه الأخبار وعن الدواعي التي تجعلنا نثق فيها لأنها يمكن أن تستخدم من وزارة الداخلية كآلية من آليات العلاقات العامة لتحسين صورة وزير الداخلية ووزارته ومصالحها حتى تبدو وكأنها تحارب بنجاح الجريمة والإجرام. وعلى هذا النحو، تنشر العديد من الوزارات والمؤسّسات العمومية أرقامًا وإحصائيات لا تحقق الصحافة في آليات إنتاجها.

وفي البرنامج ذاته قدمت صحفية، في إطار ركن رقم الأسبوع، إحصائيات عن الجرائم في تونس، إذ تقول إن تونس تشهد كل يوم 48 "براكاج" (يعني أكثر من 17 ألف "براكاج" في السنة) دون أن تشير إلى مصدر هذا الرقم.



وفي مجال آخر، دأبت بعض المؤسّسات على نشر إحصائيات خاصة بجمهور الإذاعة والتلفزيون أو ما يطلق عليها "la mesure d’audience"، ولهذه الإحصائيات أهمية بالغة بالنسبة إلى قطاع الميديا السمعية البصرية. ولهذا السبب عملت مؤسسات التلفزيون والإذاعة والمؤسسات الاقتصادية في المجتمعات الديمقراطية على تنظيم هذا القطاع وفوضت مؤسسة واحدة خاضعة للرقابة تقوم بإنتاج مثل هذه الدراسات حفاظًا على مصداقية الإحصائيات ودرء الإمكانيات التلاعب بها.

الإحصائيات وسيلة من وسائل التأثير في استقلالية الميديا؟

أما في تونس، فإن هذا القطاع الحسّاس والاستراتيجي لم يقع تنظيمه بعد وتعمل فيه بعض المؤسسات دون رقيب أو حسيب، رغم أن المرسوم 116 الذي ينظّم قطاع الإذاعة والتلفزيون في تونس قد أوكل للهيئة العليا المستقلّة للاتصال السمعي والبصري مهمة وضع "القواعد السلوكية المتعلقة بالإشهار ومراقبة تقيد أجهزة الاتصال السمعي والبصري بها". لم تصدر هذه القواعد إلى أن تعاظمت شكاوى بعض المؤسسات الإذاعية والتلفزيونية من ممارسات بعض شركات قيس الجمهور خاصة في جوان/ حزيران 2017. وتذمرت عديد المؤسسات من إمكانية التلاعب بالإحصائيات، فأصدرت الهيئة قرارًا يقضي بـ"منع مكاتب الدراسات التي تقوم بقيس نسب الاستماع والمشاهدة أو طالبي الخدمة، من نشر نسب نتائج الاستماع والمشاهدة للمنشآت السمعية والبصرية وبثها بأي شكل من الأشكال إلا بإذن مكتوب من المنشآت المعنية بالنتائج المشار إليها". كما تلتزم هذه المكاتب بنشر جميع المعطيات المتعلقة بالعيّنة المعتمدة وتمثيليتها وطرق وتفاصيل استجوابها، ومنهجية تحليل النتائج المستخلصة على موقعها الإلكتروني.

لم تهتمّ الصحافة إلى الآن بالتحقيق في أعمال مكاتب الدراسات أو البحث في المنهجيات التي توظفها والتكنولوجيات التي تستخدمها لقيس الجمهور وإنتاج الإحصائيات الخاصة بمتابعة البرامج

لم تطبق عدة أحكام من هذا القرار الذي لم يحلّ المشكلة أصلًا التي لا يمكن اختزالها في كل الأحوال في عملية النشر، ولكن في اعتماد الفاعلين الاقتصاديين عليها لترشيد عملية "الاستشهار" التي يجب أن تخضع نظريًا إلى معايير عقلانية وموضوعية. واصلت المكاتب إصدار الإحصائيات ونشرها بطرق مختلفة وواصلت بعض المؤسسات في التباهي بمراتبها الأولى. ولم تهتمّ الصحافة إلى الآن بالتحقيق في أعمال هذه الشركات أو البحث في المنهجيات التي توظفها والتكنولوجيات التي تستخدمها لقيس الجمهور وإنتاج الإحصائيات الخاصة بمتابعة البرامج التلفزيونية والإذاعية.

والمفارقة أن هذه المؤسّسات التي تدّعي أنها تكشف لنا عن أذواق واتجاهات جمهور التلفزيون والإذاعة هي أكثر المؤسّسات تكتّمًا عن منهجيتها وطرق عملها وكأنها منظمّات عسكرية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تفصح عن آليات عملها "المتطورة جدًّا".

في هذه الحالة، تمثّل إحصائيات قيس الجمهور مثالًا جيدًا عن إمكانية التلاعب بالأرقام فهي وسيلة فعالة ومخاتلة وماكرة للتأثير على المؤسسات الإعلامية والحطّ من بعضها والإعلاء من شأن بعضها الآخر وفق معايير غير معلومة قد تكون سياسية أحيانًا أو مالية أحيانًا أخرى. وبالنظر إلى الاتهامات التي تطلق من فينة إلى أخرى، يمكن أن نفترض، في ظل غياب شفافية هذا القطاع، أن بعض الفاعلين السياسيين قد يستخدمون هذه المؤسّسات للتأثير على مؤسّسات الميديا. وما يزيد من خطورة عمليّة التلاعب هذه أن شركات قيس الجمهور هذه تتحكم، على نحو ما، في آليات ومعرفة التونسيين لأنفسهم لأنها تدعي أنها قادرة، بفضل "الآليات العلمية" التي تقول إنها تستعملها والتي لا نعرف عنها شيئًا، أنها قادرة أن تقول لنا حقيقة التونسيين وخياراتهم.

اقرأ/ي أيضًا: الرئيس والاتصال.. قراءة في الاتصال السياسي لقيس سعيّد

استطلاعات الرأي قطاع يأبى التنظّم

نشرت، في الأيام الماضية أيضًا، بعض مؤسّسات استطلاعات الرأي (أو سبر الآراء)، وهي مؤسسات تقيس اتجاهات الرأي السياسي، نتائج استطلاعات رأي حول ثقة التونسيين في الشخصيات والأحزاب السياسية وفي نوايا التصويت لها. وعلى عكس الدول الديمقراطية، لا نجد أطرًا قانونية (كما هو الحال في فرنسا)، أو آليات تنظيمية ذاتية (كما هو الحال في بريطانيا أو الولايات المتحدة) تضبط عمل هذه المؤسسات وتضمن معايير صارمة لشفافية عملها. وفي سياق غياب هذه الأطر والمعايير، فإننا يمكن أن نفترض أيضًا أن الأرقام التي تنشرها مكاتب استطلاعات الرأي يمكن أن تكون فاقدة للمصداقية وأداة للتلاعب.

على عكس الدول الديمقراطية، لا نجد أطرًا قانونية، أو آليات تنظيمية ذاتية تضبط عمل هذه المؤسسات وتضمن معايير صارمة لشفافية عملها

ومصطلح استطلاعات الرأي هو مصطلح سحري يستخدمه دائمًا من يريد استكشاف حقيقة التونسيين. هكذا تقوم بعض القنوات التلفزيونية يوميًا، على سبيل المثال بإجراء استفتاءات على صفحتها في الفيسبوك، ثم تقدم هذه النتائج على أنها آراء التونسيين الأصيلة في موضوع ما دون الإشارة إلى أن الأمر لا يعدو أن يكون سوى استفتاء لا يقوم على عينة علمية. بل وتصبح هذه النتائج ذات المصداقية المحدودة جدًا منطلقًا لتعليقات وآراء وتحليلات!

الفقراء في تونس كم عددهم؟

وفي هذا الأسبوع أيضًا، تداولت بعض المواقع الإلكترونية إحصائيات حول نسبة الفقر في تونس نشرها البنك الدولي دون أن تشير إلى المنهجية التي اعتمدها هذا التقرير الذي أظهر، حسب هذه المواقع، أن نصف مليون تونسي يعيشون على أربعة دينارات فقط في اليوم. وتحول هذا "الخبر" إلى مادة للتعليقات والتدوينات.

ثم ظهر يوم الخميس الماضي وزير الشؤون الاجتماعية في قناة التاسعة ليلوم الصحفيين على عدم التدقيق في تقرير البنك الدولي وليقول إن هناك 360 ألف تونسي يعيشون تحت خط الفقر (أي بأقل من خمسة دينارات في اليوم)، أي أن وزير الشؤون الاجتماعية طرح من رقم البنك الدولي (المتداول في الصحافة على نطاق واسع) 140 ألف تونسي. وأضاف الوزير أن هناك 500 ألف تونسي يعيشون بأقل من 9 دينارات في اليوم. أما عدد الفقراء بشكل عام (بما في ذلك من يعيشون تحت خط الفقر) فيقدر عددهم حسب الوزير، بمليون و 700 ألف تونسيًا. وما يستدعي الاستغراب فعلًا، هي تصريحات الوزير نفسه التي نقلتها شمس أف ام والتي مفادها أن " 285 ألف أسرة في تونس مصنفة تحت خط الفقر"، في حين أن ما صرح به في قناة التاسعة هو 360 ألف تونسيًا يعيشون تحت خط الفقر.

 لدينا إحصائيات مختلفة حول الفقر في تونس وتشكيك في المنهجيات المستخدمة من طرف البنك الدولي

 

 

والنتيجة أن لدينا إحصائيات مختلفة حول الفقر في تونس وتشكيك في المنهجيات المستخدمة من طرف البنك الدولي ليزداد الأمر غموضًا بالنسبة إلى الجمهور أو على الأقل من استمع إلى تصريحات الوزير في قناة التاسعة لأن البقية سيواصلون الاعتماد على أرقام البنك الدولي التي روجت إليها المواقع الإلكترونية، خاصة وأن جل المواقع التي نقلت أرقام هذا التقرير لم تدرج رابطًا نحوه وهي عادة سيئة دأبت عليها العديد من المواقع الإخبارية الإلكترونية التونسية.

رابط تقرير البنك الدولي: https://openknowledge.worldbank.org/handle/10986/32354

هكذا يمكن أن نتبين البعد السياسي للإحصائيات أو رهانها السياسي مما قد يفسر الجدل الذي صاحب أحيانًا نشر الإحصائيات حول نسب النمو، فعلى سبيل المثال أثار إعلان مدير المعهد الأعلى للإحصاء عن نسبة نمو 4,8 في المائة في جوان/ حزيران 2012 ردود فعل قوية حتى أن بعض الأطراف السياسية اتهمته بأنه "نهضاوي".

خلاصة القول، تقوم الصحافة نظريًا بدور أساسي في التحري في الإحصائيات والأرقام التي تصدرها مختلف المؤسسات والتي تنشر لعموم الناس، فإما أنها تتحرى فيها أو أنها توفر للجمهور السياق والخلفية التي يمكن من خلاها أن تفهم هذه الإحصائيات وأصبحت عملية التحري هذه، نشاطًا أساسيًا من أنشطة ما يسمى صحافة التحري في الوقائع. لكن الصحافة التونسية لا تؤدّى هذا الدور إلاّ نادرًا جدًا بسبب قلة الإمكانيات ومحدودية الموارد المتاحة إليها أو بسبب تمثلات الصحفيين لأدوارهم كناقلين لتصريحات السياسيين أو لبلاغات المؤسسات دون التحري فيها.

 

اقر/أي أيضًا:

في التلفزيون.. التونسيون شعب بلا تاريخ!

"الخبير".. صناعة سلطة التلفزيون الجديدة؟