08-فبراير-2024
الكبت السياسي والتنفيس الكروي

لا شكّ أنّ الرياضة تُبيح في النقد والتقييم مجالًا أوسع للمواقف الانطباعية والعفوية (getty)

مقال رأي 

 

يقتضي الفكر النقدي شرطين لا غنى عنهما: الأوّل يتّصل بحيازة الحدّ الأدنى من الكفاءة المنهجية واللغوية، والثاني يرتبط بضرورة التحلي بضوابط الموضوعية والصدق والالتزام والشجاعة وتحمل المسؤولية.

الشرط الأوّل علميٌّ نسبيّ تتراوح فيه المستويات بين المعرفة السطحيّة والاطلاع المعمّق الواسع الدقيق. أمّا الثاني فهو قيميّ أخلاقيّ لا يقبل الزيادة والنقصان ولا يحتمل أن يكون حاضرًا في هذه المسألة مُغيّبًا في أخرى. تتساوى في هذه المعادلة المقامات الثقافية والاجتماعية والفنية والرياضية وغيرها. فمن باب التوازن والانسجام أن لا يبلغ المعلّق (الكرونيكور) أوضع درجات التطبيل صباحًا في برنامج سياسي ويدفع بالنعرة الثورية إلى منتهاها مساء في حوار رياضي حول إخفاق المنتخب التونسي لكرة القدم في مسابقة كأس إفريقيا للأمم.

فرضية أنّ التونسي يواجه لونًا أو ألوانًا من الكبت السياسي تحدّ من حريّته في التعبير، قد تكون إجابة عن سؤال: ألا يعدّ التنفيس الكروي تعويضًا عن كبت سياسي؟

بمَ يمكن أن نفسّر هذا التباين في اللهجة النقديّة، هل يرجع الأمر إلى قناعة أم إلى نفاق أم إلى مراعاة لأفق انتظار الجمهور؟

لو أخضعنا هذه الظاهرة إلى قوانين علم النفس وعلم النفس الاجتماعي، ألا يعدّ التنفيس الكروي تعويضًا عن كبت سياسي؟

ينطوي هذا السؤال على ثلاث فرضيات تقتضي النظر والتحقيق، الأولى تتمّثل في اعتبار التعاطي مع إخفاق نسور قرطاج قد كان متهوّرًا عنيفًا تنطبق عليه صفة السلوك غير الطبيعي أو المَرضي، والثانية مدارها على أنّ التونسي يواجه لونًا أو ألوانًا من الكبت السياسي تحدّ من حريّته في التعبير والثالثة مدارها على أنّ العلاقة بين الفرضيّتين علاقة شرطية سببية.

  • ارحل، فساد، مؤامرة، محاسبة..

مراعاة المقامات والسياقات هي من أوكد الضوابط المنطقيّة والبلاغيّة في الخطاب، فلكلّ مقام مقال، ولكلّ حدث حديث، ولكلّ شخص أو مجموعة أسلوب في البيان والتبيين، هذه المعادلة لم يتمّ احترامها في تقييم مردود المنتخب التونسي وفي نقد اختيارات جلال القادري المدرب الوطني، فقد طالت هذا الرجلَ طعونٌ واتهاماتٌ خطيرة كساها المُدَّعُون بمخالب سياسية ثورية، إذ صَوّبت فئة من الحاضرين في الملعب في وجهه شعار "Dégage" (ارحل)، بحركة يدوية تحاكي اللوحة الثورية التي رسمها آلاف التونسيين أمام وزارة الداخلية التونسية يوم 14 جانفي/يناير 2011 يطالبون برحيل بن علي ونظامه تتويجًا لمسار احتجاجي بدأ يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2010.

لم يقع احترام السياقات في تقييم مردود المنتخب التونسي وفي نقد اختيارات جلال القادري الذي طالته طعونٌ واتهاماتٌ خطيرة كساها المُدَّعُون بمخالب سياسية ثورية

أمّا الفئة الثانية فقد تمركزت في المنابر التلفزية والإذاعية لتطالب بمحاسبة الإطار الفني محاسبةَ المجرمينَ الجُناة، وقد بلغ الأمر بأحد المعلقين إلى اتهام القادري وبعض لاعبي المنتخب بجريمة التهاون والخيانة والتآمر على الوطن، ولم يبق لهؤلاء الغاضبين الساخطين إلا الدعوة إلى نصب المحاكمات العسكرية، ولو تمّ التعامل مع تلك "التعليقات" والتدوينات بجدّية لانتهى الأمر إلى تحقيقات يمكن أن تُفضي إلى إدانات جادة أقلّها خطورةً الثلب والادعاء بالباطل.

في غير إطالة وتفصيل، يمكن القول إن موجة التخوين التي طالت المدرّب الوطني والأسلوب الاستعراضي في محاصرته وقطع الطريق عليه إعلاميًّا قد كانت انفعالية قائمة على المغالاة مفتقرة إلى الرصانة والموضوعية واللياقة.

موجة التخوين التي طالت جلال القادري والأسلوب الاستعراضي في محاصرته وقطع الطريق عليه إعلاميًّا، كانت انفعالية وافتقرت إلى الرصانة والموضوعية واللياقة

وجهُ الخطورة في هذا المشهد لا يقتصر على السلوك المتهوّر الذي أتاه هؤلاء ضدّ جلال القادري وإنما يكمن في المفارقة بين الصمت والإفراط في الاحتراز في المقامات السياسية والثرثرة والتهوّر في المجال الرياضي، هل يرجع الأمر إلى أنّ المقام الأوّل جادّ صارم شائك لا يحتمل الخطأ وسوء التقدير وأنّ المجال الثاني ناعم يُبيح بمقتضى خصوصيّته الترفيهية الانفعالية مواقف ننظر إليها في بعدها العفويّ الخالي من القصديّة؟

  • صمت واحتراز هنا.. ثرثرة وتهوّر هناك

لا شكّ أنّ الرياضة شأنها شأن الكثير من الفنون والآداب تُبيح في النقد والتقييم مجالًا أوسع للمواقف الانطباعيّة والعفويّة، في المقابل يظلّ المقام السياسي والاقتصادي أكثر صلابة وهو ما يقتضي التريّث والاحتراز وتخيّر الأوصاف والنعوت بمنتهى الدقّة، فالخطأ في هذا المقام يمكن أن يكلّف صاحبه عددًا من التهم القانونية أو الاعتبارية، فجلّ الخطابات السياسية حمّالة للاتهام، فإن نجا المتكلّم من تهمة التحريض على السلطة فلن ينجو من تهمة التطبيل والتملّق لها، وإن نجا منهما فقد يكون في مرمى تهمة التلفيق والنفاق والمداهنة. وفي فترات التجاذب السياسي الشديد، تمّ استحداث تهمة الـ"لكن" إن صحّ التعبير، يرمون بها كلّ من يميل إلى التنسيب والاستدراك في مسائل يرونها ثابتة قطعيّة.

الكبت السياسي له ثلاثة مصادر، الأوّل هو اعتقاد الكثيرين أنّ التطلّع إلى الإصلاح عبر الخطاب السياسي تحوّل إلى فعل عبثيّ لا جدوى منه في عالم هيمنت فيه آيات الغموض والفوضى الفكريّة والذوقيّة والمرجعيّة، فاختاروا الصمت الطوعيّ. 

وجهُ الخطورة في التعامل مع جلال القادري يكمن في المفارقة بين صمت المنتقدين وإفراطهم في الاحتراز في المقامات السياسية وثرثرتهم وتهوّرهم في المجال الرياضي

المصدر الثاني هو النظام القائم متى مال إلى تكميم الأفواه وأمعن في التصدي للمعارضة. أمّا الثالث فهو المعارضة نفسها التي ترى كلّ شكل من أشكال التثمين العلمي الموضوعي تملّقًا وتقرّبًا إلى السلطة. وقد تنامى هذا التيار بعد الثورة في إطار التصدّي لموجة "التطبيل" التي ميزت الخطاب الإعلامي السياسي في العهدين البورقيبي والنوفمبري.

على هذا النحو، أصبح الخائض في السياسة متّهمًا بالضرورة سواء اختار الاصطفاف الحزبي موالاة أو معارضة أو توخّى المسلك العلمي الموضوعيّ، وسواء قال "نعم" أو "لا" أو "نعم لكن"، أو "لا لكن".

  • من يُخلّص كرة القدم من "الإسقاطات السياسية"؟

بعد الثورة، أصبح النقد السياسي سلوكًا أشبه ما يكون بالطاقة الغريزية التي يتمّ تفريغها يوميًّا بشكل عفويّ في المقاهي والفضاءات العامّة، بعد الشحن الذي يتلقاه المواطن كلّ ليلة من خلال البرامج السياسية المتوترة التي تحفل بها كل الشاشات.

للكبت السياسي 3 مصادر، أوّلها هو اعتقاد الكثيرين أنّ التطلّع إلى الإصلاح عبر الخطاب السياسي تحوّل إلى فعل عبثيّ لا جدوى منه، فاختاروا الصمت الطوعيّ

ولمّا أصبحت هذه الطاقة مكبوتة، عاد المواطن إلى الرياضة، الفضاء السحري لممارسة التفريغ والتنفيس والإسقاط النفسي، أو ما يمكن نعته على سبيل المجاز "الاستمناء السياسي" فتراه يستعمل نفس المعجم السياسي يستهدف به مدربًا ومجموعة من اللاعبين.

هؤلاء المستهدَفون غالبًا ما تملأ أذهانهم التفاصيل الفنية والتكتيكية وتحركهم مصالحهم المهنية والمادية الخالصة، وقد خلت نفوسهم من العناوين التي تشغل المواطن والسياسي. فلا شأن لهم بغلاء المعيشة ومعاناة الطبقة الكادحة وبالمسائل الإيديولوجية والصراعات الحزبية، فبأي منطق وبأي معنى نحمّل هؤلاء "الكوارجيّة" همومنا الاجتماعية والسياسية؟

بعد الشحن الذي يتلقاه المواطن كلّ ليلة من خلال البرامج السياسية المتوترة، عاد المواطن إلى الرياضة ليمارس التفريغ والتنفيس والإسقاط النفسي

الأمر في غاية البساطة، مدرّب وطني وجد حرجًا في تخيّر التشكيلة المثالية ففشل، السبب المباشر هو تقارب مستوى اللاعبين وما يؤلف بينهم من توازن الضعف، إذ افتقر الرصيد البشري المتاح لجلال القادري إلى نجوم ترقى في منزلتها الفنية إلى مرتبة القيمة الثابتة أو إلى ما يسمى في كرة القدم المستوى العالي والعالي جدًا (Le haut niveau et le très haut niveau) وهي معضلة ذات أسباب وجذور شتّى سمّيناها في مقام سابق "التصحّر الفني في كرة القدم التونسية".

ختامًا إن شئنا التخلّص من الكبت السياسي، لا بدّ أن لا نكفّ يومًا عن الفكر النقديّ تثمينًا للمكاسب في غير تملّق أو "تطبيل" وتنبيهًا إلى الأخطاء والمخاطر في غير مغالطة أو تلبيس، وإن شئنا إنقاذ الرياضة لا بدّ أن لا نكلّف هذا المجال صراعاتنا السياسيّة والحزبية، فقد اتخذت رياضة كرة القدم منحى علميًا واحترافيًا ومهنيًا وربحيًا وتسويقيًا ولكنّها تظلّ في كلّ الأحوال لعبة ذات أصول ترفيهيّة وجماليّة، فلا تُفقدوا هذه الحسناء المدوّرة براءتها الأصليّة، فهي رغم تطوّرها تظلّ شعبية بسيطة لا تحتمل التعقيد والتنظير و"التفهيم الثقيل" على حدّ تعبير محمود المسعدي.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"