22-نوفمبر-2018

عتبة 5 في المائة ستغير تركيبة المشهد السياسي في تونس (تيري بريسون/Getty)

بالكاد لم ينجل غبار التحوير الوزاري، ولم تستفق الطبقة السياسية، وكذا التونسيون، بعد على التطورات الدرامتيكية بتحول حزب نداء تونس، الفائز بانتخابات 2014 والمسيطر على الرئاسات الثلاث، نحو المعارضة، حتى باغتت لجنة برلمانية متخصصة بالمصادقة على المقترح الحكومي بتحديد سقف عتبة بنسبة 5 في المائة للانتخابات التشريعية المبرمج تنظيمها في أكتوبر/تشرين الأول 2019.

مسألة العتبة الانتخابية هي العنوان الأبرز لمعركة بين الأحزاب الكبرى من جهة والأحزاب المتوسطة والصغرى من جهة أخرى حول محدّد سيغيّر من المشهدين الحزبي والسياسي

تؤشر هذه المصادقة أن الجلسة العامة بالبرلمان، وتحديدًا الأحزاب الكبرى، ستمضي بصفة مبدئية في المصادقة النهائية على نسبة العتبة المذكورة، وذلك على خلاف ما كان ظن عديد الفاعلين المعنيين بأن نسبة 5 في المائة المقترحة من الحكومة هي نسبة تفاوض، بمعنى تقنيات التفاوض النقابي، من الائتلاف الحاكم سيقع تخفيضها ضمنيًا في البرلمان إلى نسبة 3 في المائة، وهي النسبة المعتمدة في الانتخابات البلدية، والمدعومة من الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وأغلب الجمعيات المهتمة بالشأن الانتخابي.

وفي انتظار الحسم النهائي في تحديد نسبة العتبة، ستكون هذه المسألة هي العنوان الأبرز افتراضًا، على الأقل، لمعركة بين الأحزاب الكبرى، الحاكمة تحديدًا، والأحزاب المتوسطة والصغرى، المنتمية أساسًا للمعارضة، وذلك حول محدّد سيغيّر من المشهدين الحزبي والسياسي بصفة حاسمة في المستقبل.

اقرأ/ي أيضًا: عتبة انتخابية بنسبة 5%.. ماهو موقف الأحزاب والمجتمع المدني؟

العتبة الانتخابية.. لا خير مطلق ولا شر مطلق

إن تحديد عتبة بنسبة 5 في المائة هو خيار حمّال أوجه، فالعيوب المستثارة والمزايا المُشار إليها تونسيًا من الرافضين والداعمين، هي ذاتها التي يكررها الرافضون أو الداعمون لها في كل أنحاء العالم. وليس من قبيل الصدفة أن يكون الاصطفاف دائمًا من هذا نظام الاقتراع على وجه الخصوص وفق حجم الأحزاب، إذ تفضل الأحزاب الكبيرة هكذا عتبة، فيما ترفضها الأحزاب المتوسطة والصغيرة.

ونظام العتبة هو خيار تعديلي يوازن بين مساوئ كل من التمثيل النسبي من جهة والتمثيل الأغلبي من جهة أخرى فيما يتعلق بمساحة التمثيلية توسيعًا أو تضييقًا، ولذلك غالبًا ما تلجأ الدول التي تعتمد نظام التمثيل النسبي لاعتماد تقنية العتبة للتقليص من تشتت التمثيل البرلماني وتعزيز تحصيل الأحزاب الكبرى للأغلبية المطلوبة. والمهم التأكيد دائمًا على أن العتبة الانتخابية لن يكون لها أي تأثير، وفي كل الأحوال، إلا في صورة كانت أرفع من العتبة الطبيعية.

وتمثل نسبة 5 في المائة هي النسبة الكلاسيكية الأكثر رواجًا في نظام العتبة، فما دونها تظهر نسبة غير ذات فاعلية عادة لا تتجاوز العتبة الطبيعية، وما يزيد عنها تظهر نسبة إقصائية أقرب لتكريس نظام الأغلبية، ودائمًا ما يأتي المثال، في هذا الجانب، على نسبة 10 في المائة في تركيا. وتوجد، في الأثناء، علاقة عضوية بين صنف الانتخابات وطبيعة الهيكل المنتخب من جهة، وحساسية تحديد نظام الاقتراع من جهة أخرى، ومن ذلك أن مسألة تشتت الأصوات والتمثيلية الفسيفسائية تكون موضع تساؤل في برلمان في نظام برلماني أكثر منه في برلمان في نظام رئاسي، وهكذا.

نظام العتبة هو خيار تعديلي يوازن بين مساوئ كل من التمثيل النسبي والتمثيل الأغلبي

تونسيًا، اقتضى الأخذ بنظام التمثيل النسبي مع أكبر البقايا ودون نسبة عتبة في 2011 خصوصية المرحلة التأسيسية، طلبًا لتنوع مختلف الحساسيات الفكرية والأديولوجية، وفسح المجال للمستقلين، وتم اعتماد ذات النظام في أول انتخابات تشريعية سنة 2014 خاصة في ظل سياق سياسي توافقي اقتضى مواصلة نظام الاقتراع المعمول به في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي. ولم تؤد الخريطة البرلمانية الحالية لمأزق تحصيل أغلبية رغم حالة التفتت التي يعرفها حزب نداء تونس، الحزب الفائز في انتخابات 2014.

لكن الحاجة لوضع عتبة انتخابية باتت، بالنسبة لعديد الفاعلين السياسيين وأساتذة القانون الدستوري، ضرورة ملحة من أجل إحكام المشهد البرلماني وعقلنة المشهد السياسي. وتُعتبر نسبة 5 في المائة، من حيث المبدأ، وسيأتي الحديث تباعًا عن المحاذير (الجزء 2)، نسبة معقولة حينما يكون السؤال مبسّطًا: هل تستحق قائمة تحصلت على أقل من 5 أصوات من مجمل 100 صوتًا أن تكون ممثلة في برلمان في نظام شبه برلماني؟ فإن كان الهدف هو الوصول للسلطة، وهو هدف كل حزب بداهة، أي جدية لقائمة حزبية لا تقدر على تحصيل هكذا نسبة على الأقل في كل دائرة انتخابية على حدة وليس بالضرورة على المستوى الوطني؟ وأما عن القائمات المستقلة، تمثل هذه النسبة محدّدًا للجدية وذلك بالنظر للكم الكبير لمثل هذا النوع من القائمات في تشريعيات 2014 دون أي حصيلة تُذكر لها.

اقرأ/ي أيضًا: شظايا نداء تونس: هل أجهزت البلديات على الأحزاب المنشقة عن "الدار الكبيرة"؟

ولعلّ من أوجه القصور في النقاش الدائر حاليًا، هو محاكاة نتائج انتخابات 2014 لو تم اعتماد نسبة 5 في المائة، إذ تؤدي هذه المحاكاة لمغالطة لأن سلوك المرشح من جهة، وسلوك المترشح من جهة أخرى، كان سيتغيّر لو كانت توجد العتبة، وبالتالي كانت ستختلف النتائج. ومن ذلك، تفرض هذه النسبة أن تتوحد القائمات الحزبية المنتمية لعائلة سياسية واحدة، وأن تتراجع عدد القائمات المترشحة، والأهم، أن سلوك الناخب سيتغيّر في اتجاه تصويت مفيد لتصعيد القائمة الأكثر حظوظًا، وهو ما يؤدي بصفة بمبدئية لتقليص نسبة الأصوات الضائعة.

توجد قناعة، في الطبقة السياسية وبين التونسيين، أن المشهد الحزبي يتسم بوفرة الأحزاب التي يتجاوزعددها 200 حزبًا تتقارب أطروحات العديد منها، وهي وفرة من تبعات تحرر المجال العام بعد الثورة، ولكن الحاجة للاستقرار السياسي تتوازى مع الحاجة لاستقرار في المشهد الحزبي من حيث ضبط القوى الحزبية الرئيسية ووضوح الخيارات المتاحة للناخب، كما الحال في الديمقراطيات المستقرة. بذلك، ستلعب العتبة دور المحفّز لتسريع عقلنة المشهد الحزبي.

في الأثناء، رفضت محكمة التحكيم البلجيكية ، في قرار لها سنة 2004، طعنًا على إحداث نسبة عتبة بنسبة 5 في المائة، وذلك أخذًا بوجود تعديل آخر في القانون الانتخابي للترفيع في عدد المقاعد، وقالت المحكمة "إن هذا الترفيع سيسهّل على الأحزاب الصغرى الحصول على مقعد". ولعلها صورة الحال في تونس حاليًا، إذ يتوازى مشروع نسبة العتبة مع مشروع لإعادة تقسيم للدوائر الانتخابية مع الترفيع في عدد المقاعد تباعًا، وهو مشروع يلقى صدًا على اعتبار أن القانون الانتخابي يفرض حسم الدوائر قبل سنة من الانتخابات، وهو أجل يعتبره الائتلاف الحاكم من قبيل الأجل الاستنهاضي لا أكثر. لكن في صورة تمرير نسبة العتبة المقترحة، قد يكون من صالح الجهات الرافضة لتمرير مشروع قانون تقسيم الدوائر الانتخابية، أحزابًا وجمعيات، الدفع نحوالمصادقة عليه للترفيع في فرص حصول الأحزاب المتوسطة والصغرى على مقاعد.

رب ضارة نافعة؟

ترفض الأحزاب المتوسطة والصغرى، والصفة بالنظر لتموقعها في المشهدين السياسي والحزبي، وقياسًا بتمثيلها البرلماني، تحديد عتبة بنسبة 5 في المائة، لأنها إما ستقلص حظوظها في دخول البرلمان، وإما ستقلّم تمثيليتها على الأقل. بيد أن بعض قيادات هذه الأحزاب وناشطيها، تقول في جلساتها المغلقة ما لا تقوله في العلن، وهو قول يردّده بشكل أكثر وضوحًا المتعاطفون، ومضمون القول إن العتبة هي إكراه محمود لإنهاء حالة التشرذم والتفتت بين أبناء العائلة السياسية الواحدة.

يأتي الحديث، في هذا الجانب، بالخصوص عن العائلة الديمقراطية الاجتماعية التي تمثلّ، ضمن الخريطة السياسية، خط يسار الوسط المنكوب في انتخابات 2014. لعب هذا الخط دورًا محوريًا في مرحلة الانتقال الديمقراطي بين 2011 و2014 عبر حزبي المؤتمر من أجل الجمهورية (حزب رئيس الجمهورية السابق المنصف المرزوقي) والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات (حزب رئيس المجلس الوطني التأسيسي مصطفى بن جعفر) إضافة لحزب الجمهوري، والتي تتقارب إجمالًا أطروحاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

نظام العتبة سيحفّز الأحزاب المنتمية لنفس العائلة السياسية للتوحد على غرار الأحزاب المحسوبة على يسار الوسط مثل التيار الديمقراطي وحراك تونس الإرادة والتكتل الديمقراطي

لكن بعد أن تحصلت هذه الأحزاب الثلاثة مجتمعة على قرابة 70 مقعدًا في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011، لم يتجاوز عدد مقاعدها في تشريعيات 2014 وبإضافة للأحزاب المتفرعة عنها (التيار الديمقراطي من رحم المؤتمر/التحالف الديمقراطي من رحم الحزب الجمهوري) حوالي 10 مقاعد فقط. وهي نتيجة لا تعود لنكوص الناخب التونسي عن هذا الخط السياسي بقدر ما تعود إلى تعدد قوائم أحزابه السياسية ما أدى لتشتت الأصوات، وعلى سبيل المثال يساوي مجموع أصوات الحزب الجمهوري وحزب التحالف الديمقراطي المنشق عنه ما تحصلت عليه الجبهة الشعبية، بل لو تقدم حزب المؤتمر حينها والتيار الديمقراطي المنشق عنه بقائمة مشتركة على الأقل في بعض الدوائر الانتخابية لحققًا معًا مقاعد أكثر مما تحصلا عليه في الانتخابات لوحدهما.

اقرأ/ي أيضًا: اندماج "الوطني الحر" في "النداء".. إعادة خلط الأوراق في تونس

ولكن رغم مرور ما يزيد عن 4 سنوات من انتخابات 2014، وقبل سنة وحيدة من انتخابات 2019، لم تستوعب هذه الأحزاب الدرس بالشكل الكافي، عدا حالة التيار الديمقراطي الذي انصهر ضمنه حزب التحالف الديمقراطي، والذي حقق نتائج باهرة في الانتخابات البلدية سنة 2018 ظهر كالحزب الثالث في البلاد خلف حركتي النهضة ونداء تونس. إذ يعرف حراك للمرزوقي حالة تخبط أكدتها نتائجه الضعيفة في البلديات، وتعمقت مع موجة استقالات لقيادات صف أول، أما حزب التكتل يكاد يصبح في خانة الأحزاب الصورية في ظل غياب أي تمثيل برلماني، وكذا الحال بالنسبة للجمهوري الذي كان يقود المعارضة قبل بضع سنوات. ولعلّ حال ما تبقى من المؤتمر من أجل الجمهورية، وحركة وفاء، والبناء الوطني ليس أفضل حالًا، وهي أحزاب تبدو في حقيقتها كورشات تفكير لقياداتها في غياب البعد التنظيمي الميداني.

بذلك، ستجد هذه الأحزاب نفسها أمام خيار وحيد وهو عدم التقدم بقائمة انتخابية حزبية في كل الدوائر مثل انتخابات 2014 إذ يصعب عليها إن لم يستحل على أغلبها بلوغ نسبة 5 في المائة من الأصوات في الدوائر، أما الخيارات المقابلة المتاحة فهي متعددة منها الانصهار في أحزاب أخرى، أو تكوين ائتلافات أو جبهات سياسية كانت أو انتخابية، أو عدم الترشح ودعم قائمات أحزاب صديقة. وفي كل ذلك، ستجبر العتبة هذه الأحزاب بعد تكاسلها وانكفاءها طيلة 4 سنوات في ظل صراع الزعماتية على التحرك، وبذلك إما ستؤكد العتبة الموت السريري نهائيًا لهذه الأحزاب، وإما ستدفعها للتأقلم بسرعة تفاديًا للاضمحلال الواقعي.

يرفض حزب التيار الديمقراطي تحديد عتبة بنسبة 5 في المائة غير أنه يمكن تصنيفه في الواقع من الأطراف المستفيدة من هذه العتبة

يرفض حزب التيار الديمقراطي، في الأثناء، تحديد عتبة بنسبة 5 في المائة، غير أنه يمكن تصنيفه، في الواقع، من الأطراف المستفيدة من هذه العتبة، ربما ليس بحجم الأحزاب الكبيرة وربما أكثر في انتظار الجزم مع ارهاصات المرحلة المقبلة ونتائج انتخابات 2019، وذلك بداية على مستوى فرض نفسه كالحزب الأكثر قدرة وشرعية لتمثيل خيار يسار الوسط، بالنظر لنتائج بلديات 2018. وبالتالي، فرض نفسه كركيزة أي مبادرة لتكوين جبهة سياسية أو انتخابية مع الأحزاب الرديفة، بل وفرض أن يكون الترشح باسم قائمته الحزبية على اعتبار محدودية تجربة تقديم قائمة مشتركة على غرار ما تم مع حزب الحراك ضمن قوائم "ائتلاف القوى المدنية" في البلديات، إذ رغم فوز هذه القائمة مثلًا بمقعدين في بلدية بنزرت فلم تتجاوز أصواتها عتبة الـ5 في المائة في هكذا بلدية مدينية كبرى.

في المقابل وفي بلديات مراكز المدينة على سبيل المثال، تجاوز التيار الديمقراطي عتبة الـ5 في المائة، وكانت نسبته بين 5 و7 في المائة من الأصوات المصرح بها في كل من نابل و قفصة ومدنين وباجة، فيما كانت نسبته بين 7 و10 في المائة في كل من سوسة، والمهدية، وسيدي بوزيد والقيروان، وتجاوزت نسبة أصوات التيار الديمقراطي 10 في المائة في كل من تونس المدينة، وصفاقس، وبن عروس، والقصرين، وقابس، وقبلي.

من جانب آخر، سيستفيد التيار الديمقراطي من تعزيز العتبة لخيار الناخب كي يكون صوته "مفيدًا"، وهو ما يدفعه للتصويت للحزب الأقرب إلى أطروحاته وإن لا يشاطرها كلّها، ليكون التيار الديمقراطي بهذا المعنى هو خيار "مفيد" للأغلبية العظمى من الجمهور الانتخابي لتيار يسار الوسط في تونس، بل ربما استخلاصًا للجمهور الانتخابي الذي لا يصوّت للإسلاميين ولنداء تونس ومشتقاته ويرفض أطروحات أقصى اليسار.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تنقيح النظام الانتخابي... أي نظام أنسب لتونس؟ (2/1)

تنقيح النظام الانتخابي... أي نظام أنسب لتونس؟ (2/2)