09-ديسمبر-2019

"الزهايمر" علة الذاكرة ذلك المرض الخطير الذي يصيب المخ ويستهدف الذاكرة (صورة تقريبية/ getty)

 

ليس أصعب على المرء من أن ينسى اسمه وتفاصيله ويغرق في دائرة من النسيان تلفّ كيانه وتهز روحه في كل الاتجاهات وتتفرّع عن الأسئلة التي تحاصره أسئلة أخرى ولا يجد أجوبة، وليس أصعب عليه من أن ينسى كيف يخطو وكيف يتنفّس وكيف يحيا، تلك هي حال مرضى "الزهايمر".

محمد ( والده مصاب بالزهايمر) لـ"ألترا تونس): تكرر ضياع والدي عند خروجه من الشارع في المرحلة الأولى لاكتشاف المرض وتعامل الجميع بلا مبالاة مع التشخيص

"الزهايمر"، علة الذاكرة، ذلك المرض الخطير الذي يصيب المخ ويستهدف الذاكرة، يدمّر خلاياها ويشلّ القدرة على التفكير، حتّى أن المصاب في المراحل الأخيرة لا يقوى على المشي والأكل والحركة، وفق تعريف منظّمة الصحّة العالمية لهذا المرض.

هذه العلّة، لا تتوقّف عند المصاب بها بل تتجاوزه إلى المحيطين به، ذلك أنّها تستوجب عناية خاصة بالمريض ويقظة وانتباهًا لأن سلوكياته وتصرفاته تتغيّر فيصبح طفلًا في أوّل العمر لا بدّ أن تتعامل معه برفق وحنو حتّى لا يفاجئك بفعل عنيف، هو ليس في الواقع سوى ردّ فعل على فعلك الذي لم يستوعبه.

اقرأ/ي أيضًا: "زوجي مدمن".. عن "مدمن للزطلة" أهدته زوجته الحياة

حالات..

حالات كثيرة تعترضنا يوميًا عن مرضى "الزهايمر" واقعيًا أو افتراضيًا، وتتعدّد الشهادات عنه وتختلف المعاناة مع هذا المرض من فرد إلى آخر ومن عائلة إلى أخرى، وتلتقي جميعًا عند لحظة الرعب، لحظة الغفلة التي قد تفضي إلى عواقب وخيمة.

من خطر الغاز إلى خطر النار فخطر الشارع، تتعدّد نتائج لحظة الغفلة والشعور بالخوف واحد فقط تزداد حدّته كلّما ازداد وقع الخطر، خاصة  في المراحل المتقدّمة من المرض التي تستحيل فيها الإجابة عن أسئلة سلبها صفة البسيطة فصارت معادلات مبهمة، من قبيل "ما اسمك؟".

آناء الليل حينما يغرق أفراد عائلة مصاب الزهايمر في النوم يمكن أن يحدث ما لم يكن في حسبانهم، كأن يشعل المريض سيجارة، بعد أن غفل الجميع عن إخفاء القدّاحة، وينسى كيف يدخّنها فيحرق شفتيه وأنفه، ويدخل في حالة هستيرية استفاق على وقعها النائمون، كانت هذه بداية شهادة محمّد عن حادثة تعرّض لها والده العليل في ذاكرته.

هذه الحادثة، يقول محدّثنا "مرّت اليوم سنوات ولم نتمكّن من نسيان هذه الحادثة وإلى اليوم مازلنا نتساءل ماذا لو تسربت النار إلى الحاشية، ماذا لو كانت هناك مادة سريعة الالتهاب بالصدفة، ماذا لو اختنق والدنا، ولكنّها أيضًا كانت فرصة لنكون أشدّ حرصًا".

سارة (والدتها مصابة بالزهايمر): لم أكن أرافق أمي كثيرًا وأترك لها حيّزًا من الحرية لتستعيد ذاكرتها الضائعة حتّى أن الأمر كاد يودي بحياتها حينما نسيت الغاز مفتوحًا

هي الإصابة الأولى بـ"الزهايمر" في عائلة محمد، إصابة لم يتقبلوها وأمضوا وقتًا للتعايش معها وتواترت عليهم الحوادث التي أدخلتهم في دوامة من القلق، ويذكر منها تكرر ضياع والده عند خروجه من الشارع في المرحلة الأولى لاكتشاف المرض وتعامل الجميع، حتّى والده نفسه، بلا مبالاة مع التشخيص، على حدّ تعبيره.

وبعد سنوات من تشخيص المرض، تعوّدت العائلة عليه وأصبحت تتفادى كل الأشياء التي من الممكن أن تكون خطرًا على حياته، كالأدوات الحادة والقداحات والأدوية، إلى جانب الحرص على مراقبته في أوقات متقاربة مخافة أن يختنق أو يصاب بنوبات هستيرية، على حدّ تعبير محمد.

اقرأ/ي أيضًا: مرض التوحد في تونس.. مراكز خاصة مكلفة والعمومي لم يفتح أبوابه!

وتشخيص مرض "الزهايمر" في سن الثامنة والأربعين لدى والدة سارة، وهي سن مبكّرة للإصابة به، أدخلت المريضة وابنتها في دوّامة من الرفض، ولم تقتنع الأم ولا ابنتها بالمرض في مراحله الأولى، حتّى أنها تخرج من المنزل وتنسى طريق العودة وتنسى الأمر الذي غادرت من أجله، وفق حديث الإبنة. ومع تكرر النسيان الذي بات لافتًا وخطرًا، تقبلت سارة الحالة الجديدة لأمّها ولكنّها ظلّت متمسّكة بأمل أن تكون الحالة عرضية ولم تكن ترافق أمها كثيرًا وتترك لها حيّزًا من الحرية لتستعيد ذاكرتها الضائعة، حتّى أن الأمر كاد يودي بحياة والدتها حينما نسيت الغاز مفتوحًا، وفق روايتها.

وعن آثار هذا المرض في حياة والدتها، تقول إنّها تبحث عن مفاتيحها وهي تحملها بيدها، وتنسى الطعام على النار حتّى يحترق، وتترك الحنفيات مفتوحة، وتبحث عن غرف المنزل في الشارع، وتنسى الأسماء والمواعيد والتواريخ، وتنسى كيف تتنفّس مع التقدّم في المرض.

أما في ما يتعلّق بالعناية بها، تشير إلى أنّها كانت في البداية تترك لها حيزًا من الحرية ظنًا منها أنها تساعدها على التحسن لتكتشف فيما بعد أنّها تعرّض حياتها وحياة المحيطين بها إلى الخطر، ومع تكرر حالات خروجها من المنزل وضياعها حتّى أنهم أمضوا في إحدى المرات يومين في البحث عنها ليجدوها في منزل مهجور، ومنذ ذلك الحين صارت ترافقها في كل تحرّكاتها، وحين تكون مشغولة توكل المهمة لغيرها، أحيانًا فردًا من العائلة وأحيانًا مرافقة بأجر، وفق حديثها.

صابرين (جدها مصاب بالزهايمر) لـ"ألترا تونس": ليس من السهل الاعتناء بشخص مصاب بهذا المرض فالأمر يتطلّب الكثير من الصبر وسعة البال 

ولحظة واحدة فقط كانت كفيلة بأن تدخل عائلة في دوامة من القلق بعد أن غادر الجد المصاب بـ"الزهايمر" المنزل، لما انتقلت حفيدته إلى غرفتها عندما رنّ هاتفها الجوّال، وما إن عادت إلى قاعة الجلوس لم تجده في مكانه، وبجولة مبعثرة في المنزل تيقّنت أنه التجأ إلى الشارع حينما رأت الباب الخارجي مفتوحًا، وفق حديث الحفيدة صبرين لـ"ألترا تونس".

"في العادة نحكم غلق الباب الخارجي كي لا يتسلل جدّي إلى الخارج، ولكنّ يومها غفلنا عن ذلك لظرف عائلي طارئ تمثّل في ولادة شقيقتي، حيث غادرت أختي ووالدي للاطمئنان عليها وبقيت بمفردي مع جدّي، ولم يخطر ببالي أن تلك اللحظة التي استغرقتها لأحضر هاتفي الجوال ستكون فرصته للخروج"، واصلت حديثها.

بعد لحظات أمضتها في البحث في كامل أرجاء البيت وفي باحة المنزل الخلفية والسطح، تفطّنت إلى كون الباب الخارجي مفتوحًا، لتتوجّه مسرعة إلى الشارع الذي يبعد أمتارًا عن المنزل حيث وجدت جدّها ملقى على الأرض وعدد من الجيران والمرة متحلقون حوله وسيارة واقفة في منتصف الطريق، حسب قولها.

لم تستغرق كثيرًا من الوقت، وفق حديثها، لتفقه أنّ سيارة صدمت جدّها حينما كان يقطع الطريق، فالمرض تطوّر كثيرًا حتّى أنه لم يعد يميّز الأشياء من حوله، وهي ليست المرة الأولى التي يخرج فيها من المنزل فقد غفلت عنه والدتها في وقت سابق وأمضوا يومًا كاملًا في البحث عنه ليجدوه في محطّة للنقل وأشخاص يحاولون معرفة هويته وهو لا يستجيب.

وهي تواصل الحديث عن أثر "الزهايمر" على جدّها، تقول إن عوارض المرض بدأت بالظهور حينما بات ينسى كيفية قيادة السيارة ولم يعد يتذكّر مواعيده، وحينما تكرر الأمر كثيرًا حملته ابنته الوحيدة، أي والدتها، إلى مختص شخّص الحالة وأخبرها بمرضه، ومنذ ذلك التاريخ انتقل للعيش معها في منزلها، على حدّ تعبيرها. وتضيف "ليس من السهل الاعتناء بشخص مصاب بهذا المرض فالأمر يتطلّب الكثير من الصبر وسعة البال لأن طباع الشخص تتغير ويصير أكثر حدّة وعنفًا، ومن الممكن أن يخرج إلى الشارع في لحظة غفلة ويتعرّض إلى حادث مرور كما حصل مع جدي، ومن ألطاف الله أنه أصيب ببعض الرضوض فقط"، وفق حديثها.

عديدة هي شهادات عائلات مرضى الزهايمر، وتطرح أغلبها مشكلة ضياعهم إن هم هموا بالشارع خاصة وأنهم لا يتحكمون بقدرتهم على التفكير والتعريف بأنفسهم، وهو ما جعل من فكرة الأساور التي تحمل أسماء المرضى حلًا لهذا المشكل.

حل..

بغض النظر عن الإحاطة الطبية والنفسية بمرضى الزهايمر، لا بد للعائلة أن تنتبه إلى إمكانية خروجهم من المنزل في حين غفلة وبالتالي التفطن إلى ضرورة تبيان هويّتهم للآخر حتّى يتسنّى التعرف إليهم في حال عجزوا عن العودة إلى منازلهم.

وإعلانات ضياع بعض مرضى "الزهايمر" التي يشاركها ذويهم على صفحات التواصل الاجتماعي، كانت حافزًا للحرفي في صناعة الفضة رضا الجوّادي الذي اقترح صناعة أساور خاصة بهم تمكن من التعرّف على هويّتهم، وذلك في تدوينة نشرها في صفحة "lost an found" بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك ولاقت استحسانًا من رواد الصفحة.

رضا الجوادي (حرفي في صناعة الفضة) لـ"ألترا تونس": على الأساور يُكتب اسم المريض ولقبه وعنوانه ورقمي هاتفين لفردين من العائلة

عن هذه الفكرة، يقول الجوادي في تصريح لـ"ألترا تونس"، إنّ إعلانات الضياع التي ينشرها أقارب المصابين بـ"الزهايمر" بين الفترة والأخرى أثرت فيه ومسّته وكان أن فكّر في حل لمشكلة خروجهم من المنزل خاصة وأنهم لا يتذكرون أسماءهم وعناوينهم في أغلب الحالات. وعلى الأساور، يُكتب اسم المريض ولقبه وعنوانه ورقمي هاتفين لفردين من العائلة حتّى يتسنى الاتصال بهما إذا ما تم العثور على المريض في الشارع، وهي طريقة لضمان عودته إلى المنزل بأخف الأضرار، وفق حديثه.

وفيما يخص الإقبال، يشير إلى أنّه صنع عدّة أساور وأن الطلبات تجاوزت محافظة أريانة حيث يعمل وامتدت إلى محافظات أخرى على غرار سوسة ومدنين وأنه تلقى عديد المكالمات منذ أن نشر التدوينة لصناعة أساور لمرضى الزهايمر، بعد أن وجد ذويهم هذا الحل عمليًا. وفي حديثه عن الأساور التي مثّلت حلًا لبعض العائلات التي تؤرقها فكرة التفكير في خروج المريض بـ"الزهايمر" إلى الشارع وترعبهم السيناريوهات المترتّبة عن ذلك، يؤكّد رياض الجوادي أن لا غاية تجارية له من وراء هذه الفكرة وأن الأمر إنساني بحت.

 

اقرأ/ي أيضًا:

منعرجات الموت.. عن أكثر الطرقات صيدًا للأرواح البشرية في تونس

شباب يهوى المناطق الجبلية.. ضحية "إرهاب الطريق"