10-يناير-2019

مدخل سوق العراوة (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

الأسواق داخل أسوار المدينة العتيقة هي إحدى أهم الخصائص العمرانية التي تتسم بها البناءات ذات الخصوصية العربية الإسلامية، ولعلّ ارتباط السوق بالنشاط الاقتصادي والحضري لمجموعة من البشر المتعايشين في رقعة جغرافية يجعل منه مركزًا تجاريًا وقبلة لسكان الجهة.

في مدينة سوسة، وعلى مر التاريخ، كانت الأسواق داخل أسوار المدينة العتيقة وحولها تعتبر المراكز الحيوية للحياة الاقتصادية. ومن بين هذه الأسواق سوق الربع والقائد والحوكة والحلفاوين ورحبة النعمة ورحبة الغنم والصوافة والنساجين والصوابنية وغيرها من الأسواق التي مازالت تحفظها الذاكرة .

غير أنه خلال القرن الماضي، برزت أسواق جديدة حسب التطور العمراني للجهة ومن بينها سوق برج الرشيد أو ما يطلق عليه اليوم بسوق باب الجديد وسوق العراوة أو ما يطلق عليه كذلك بسوق "الهجاجل" (الأرامل). سوقان كبيران محاذيان لأسوار المدينة العتيقة متخصصان في بيع اللحوم والأسماك والخضر والغلال ويعتبران قبلة الزبائن ليس من مدينة سوسة فقط بل من كامل المدن المجاورة لها.

الأسواق البلدية في المدينة العتيقة بسوسة: نقص شديد في عملة النظافة وغياب نقطة أمنية للمراقب واهتراء وتهرم للبنايات

اقرأ/ي أيضًا: سوق الذهب في تونس.. كساد غير مسبوق وتجار المصوغ يستغيثون

وأردنا من خلال هذا التقرير إبراز ما أمكن من خصائص هذين السوقين اللذين يشهدان حركية تجارية كبيرة ترافقها مشاكل متعلقة بالتهيئة والبيئة والتنظيم والتسيير، وذلك نظرًا للقيمة التي يكتسبانها من جهة والمخاطر التي تهددهما من جهة أخرى. جاب "الترا تونس" سوق برج الرشيد وسوق العراوة في أوقات الذروة وكان لنا موعد مع تجارها الملازمين لأجنحة مخصصة لهم على مساحات محدودة، عبارة عن أجنحة تجارية داخل فضاء متسع كفيل باستقطاب عدد لا بأس به من بائعي الخضر والغلال والأسماك واللحوم.

في أول سوق باب الجديد، تعترضك الأجنحة المخصصة لبيع الأسماك وعلى اليمين يتواجد بائعو الخبز  وعلى اليسار بائعو الغلال. وفي عمق السوق تتوزع هناك أجنحة بيع الخضر والغلال في حين لا نلاحظ داخل السوق أثرًا لمحلات القصابين. وعلى خلاف سوق باب الجديد، نجد في مدخل سوق العراوة، الذي لا يبعد مسافة كبيرة عن السوق الأول، بائعي اللحوم البيضاء والحمراء كما نجد سوقًا للأسماك تحاذي أجنحة أخرى مخصصة لبائعي الخضر والغلال.

سوق باب الجديد (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

وتنتشر خارج كلا الفضاءين المذكورين مظاهر الانتصاب الفوضوي كالعربات المتنقلة، والذي يتسبب في عديد الحالات في تشويه معالم المدينة العتيقة ويغذي التجارة الموازية والتهرب الضريبي. ورغم تمايز السوقين عن بعضهما من حيث التهيئة العمرانية، فإنهما يشتركان في ارتفاع المردودية التجارية لكليهما باعتبار عدد المرتادين من الزبائن، كما يشتركان كذلك في النقائص التسييرية والإدارية والبيئية باعتبار أن السوقين يعدّان ملكًا بلديًا يقع تسويغ أجنحته للخواص من ذوي المهنة بموجب عقود سنوية.

وخلال ملاحظاتنا الأولية واستئناسًا بتقارير إدارية، لفتت انتباهنا خلال جولتنا مجموعة من الإخلالات التسييرية والتنظيمية من بينها النقص الشديد في عملة النظافة وغياب نقطة أمنية للمراقب. أما من حيث التهيئة العمرانية فإننا لاحظنا اهتراء وتهرمًا تشكو منه البناءات. ورغم الأشغال المتعاقبة في الترميم وإعادة التأهيل فالأبواب الرئيسة مهترئة والجدران تحتاج إلى طلاء جديد.

ونظرًا للتأثير المباشر لحالة الأسواق على المواطن، اتصل "الترا تونس" ببلدية سوسة والتقى برئيسة اللجنة المالية والاقتصادية بالبلدية لبنى رجيبة، والتي تشرف من خلال هذه اللجنة الاستشارية على رسم استراتيجية متكاملة للنهوض بالأسواق في مرجع نظر بلدية سوسة المدينة.

التقى "الترا تونس" برئيسة لجنة المالية ببلدية سوسة لبنى رجيبة (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

اقرأ/ي أيضًا: تونس: بين التهاب الأسعار واضطراب مسالك التزود والتزويد

وأفادت رجيبة "الترا تونس" أن المجلس البلدي ومنذ تركيزه عاين وضعية سوق باب الجديد وسوق العراوة داخل المدينة العتيقة مشيرة إلى أن مشاكل البنية التحتية بالأسواق سابقة ومستفحلة رغم الميزانيات المرصودة سابقًا. وقد شرعت البلدية مؤخرًا في تنظيم سوق باب الجديد بإزالة جدار وفتح الفضاءات على بعضها، كما رصد مبلغ 150 ألف دينار لتحسين جزء من سوق العراوة وتوسيع أجنحة بيع الأسماك نظرًا للزيادة في عدد الرخص الممنوحة لهم مؤخرًا.

وأقرت لبنى رجيبة بالإخلالات البيئية والصحية خاصة في سوق العراوة وذلك التطرق إلى الوضعية الكارثية لفضلات بائعي الأسماك وعطب دورات المياه التي تم غلقها بقرار بلدي، غير أنها حملت المسؤولية للمنتصبين والتجار الذين لم يلتزموا بالحفاظ على الأركان الأساسية للصحة وعدم استعمال الحاويات كبيرة الحجم. من ناحية أخرى، يلاحظ في السوق الاستهلاك غير الرشيد للكهرباء والماء وهو ما يثقل كاهل ميزانية المجلس البلدي عند خلاص الفواتير.

الأسواق البلدية في المدينة العتيقة بسوسة: انتشار الانتصاب الفوضوي في محيط الأسواق يسبب إشكالات عديدة

ولعلّ ما عمق الإخلالات المذكورة حسب المستشارة البلدية انتشار الانتصاب الفوضوي في محيط الأسواق مما تسبب في انبعاث الروائح الكريهة، داعية في الآن نفسه إلى جملة من الحلول تتمثل في القضاء على الفوضوية بخلق فضاءات تجارية منظمة في أماكن أرى خارج الأسوار.

وحول الأشغال القائمة حاليًا بسوق باب الجديد، أشارت لبنى رجيبة إلى استئناف الأشغال المنجزة والتي تعطلت منذ مدة بسبب ضعف الإمكانات البشرية للبلدية، وهذا ما أدى إلى التعاقد مع مقاولات خاصة لإتمام الأشغال في أقرب وقت ممكن بقيمة جملية تقدر بـ67 ألف دينار.

وذكرت رئيسة اللجنة المالية والاقتصادية أن بلاغين سيصدران عن رئيس البلدية يقران طرق تنظيم الأسواق من جهة واستخلاص الكراءات المتخلدة بالذمة مشيرة إلى أن المجلس البلدي بسوسة قد أقر عفوًا جبائيًا على مسوغي الأجنحة بسوق باب الجديد وذلك بطرح كلي للدين من سنة 2005 إلى سنة 2011 في حين يستخلص مبلغ 30 في المائة من سنة 2012 إلى سنة 2018 وتقسيط باقي القيمة على 36 شهرًا.

بعض التجار لم يلتزموا بالحفاظ على الأركان الأساسية للصحة (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

كما اعتبرت لبنى رجيبة أن فرض اللباس الموحد (الميدعة) وحمل الشارة وتحيين قائمة المعينين وأصحاب رخص الانتصاب من أولويات التنظيم الإداري.

من جهته، اعتبر محمد قصد الله رئيس الغرفة الجهوية للأسواق البلدية لبيع الأسماك بالتفصيل المنضوية تحت لواء الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، أن هذا "الهيكل النقابي تقدم بعدة مقترحات تنظيمية لسلطة الإشراف المتمثلة في بلدية سوسة لتنظيم سوق الأسماك بسوق باب الجديد الذي يضم 49 جناحًا لبيع الأسماك وطالبوا بتوسعة مساحة الاستغلال".

رئيس لجنة التراث ببلدية سوسة لـ"الترا تونس": لا بد من ضرورة إعادة إدماج الأسواق في المدينة العتيقة

وأشار قصد الله إلى أن " الديمقراطية التشاركية تفرض انخراطنا مع البلدية كشريك في صياغة القرارات من أجل تنظيم الأسواق"، داعيًا من جهة أخرى إلى "ضرورة تسوية وضعية المنتصبين الجبائية بمسك المعرف الجبائي والتجاري حتى يتسنى للإدارة البلدية من ضبط المستحقين فعلًا للانتصاب التجاري". ورأى أن حلّ معضلة الانتصاب الفوضوي بمنح رخص أخرى في أسواق أخرى خارج أسوار المدينة.

ونظرًا لتواجد هذه الأسواق داخل المدينة العتيقة، اتصل "الترا تونس" برئيس لجنة السياحة والتراث ببلدية سوسة مراد البحري الذي قال "لا بد من ضرورة إعادة إدماج الأسواق في المدينة العتيقة والمحافظة على الخصوصيات، فهي في الأصل أسواق شعبية غير أن عملية التهيئة والأموال المرصودة للتحسينات لم تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات المدينة العتيقة، فتأهيل الأسواق العصرية في محيط تاريخي تراثي يعتبر أمرًا هجينًا، فلا بد إذن من نظرة استشرافية وتهيئة مدروسة للأسواق في محيطها العتيق حتى تحافظ على انتمائها الحضاري، ولا بد من مقاومة الانتصاب الفوضوي والتهرب الجبائي والمحسوبية في إسناد رخص الانتصاب وتنويع المنتوجات وطرق العرض بما يتماشى وخصوصية المدينة العتيقة".

 

اقرأ/ي أيضًا:

"الأنتيكا".. رزق للفقراء وهواية لبعض الأثرياء

"السقيفة الكحلاء" بالمهدية.. شاهد على أسرار الحضارة وعظمة الأسوار