15-سبتمبر-2020

هل سيقضي فيروس كورونا على "المدرسة الكلاسيكية"؟ (فتحي بلعيد/ أ.ف.ب)

 

مقال رأي

 

فيروس كورونا لم يعد فيروسًا نمطيًا يهدد حياة الإنسان فحسب بل أصبح مهددًا لشكل الوجود البشري في حدّ ذاته، ففي وقت وجيز تحوّل حضور هذا الفيروس إلى خيط مفصلي ومحدد في التاريخ البشري، حتى أن العلوم الإنسانية بمختلف تفرّعاتها أصبحت تتحدّث عن مجتمعات ما قبل كورونا وأخرى ما بعد كورونا، لقد دفع هذا الفيروس دفعًا بالمجتمعات إلى ثورات قسرية وإلى تحولات جذرية في مستوى العلاقات بين المجتمعات والثقافات والبنيات النفسية والسلوك الفردي والتواصل والتنقل والتبادل الاقتصادي ولم تعد مؤسسات المجتمع تعمل بنفس آليات ورؤى ما قبل كورونا، لقد تغيّر كل شيء.

ومن هذه المؤسسات المجتمعية التي تأثرت تأثيرًا واضحًا بالفيروس الفتاك نجد "مؤسسة المدرسة" التي التحمت في الآونة الأخيرة بسؤال فلسفي فكري ظلّ يلحّ بحرقة ويطرح نفسه على البشرية قاطبة هو: هل سيقضي فيروس كورونا على "المدرسة الكلاسيكية"، مدرسة الطباشير والمدرّس الذي يجلس في قسم قبالة جمهرة من التلاميذ يبث العلم والمعرفة ويصنع من خلال العقول الصغيرة ما يريده المجتمع ويحملنا إلى شكل آخر للمدرسة تصرف فيها المعرفة والقيم على الأجيال القادمة على نحو مغاير؟ 

نعيش عودة مدرسية متزامنة مع موجة ارتدادية لكورونا غير معلنة رسميًا جعلت العديد من التونسيين يفكرون جديًا في سحب أبنائهم وإبقائهم بالمنازل

وتونس ليست بمنأى عن السؤال الحارق بخصوص المدرسة خاصة وأننا نعيش عودة مدرسية متزامنة مع موجة ارتدادية لكورونا غير معلنة رسميًا جعلت العديد من التونسيين يفكرون جديًا في سحب أبنائهم وإبقائهم بالمنازل رافعين شعار "لا للعودة المدرسية في موعدها الحالي وبشكلها الحالي"، خاصة وأن العديد من التحليلات العلمية وتصريحات لأطباء وتقنيي الصحة تناقلتها شبكات التواصل الاجتماعي وكانت قد حذّرت من أن العودة المدرسية والجامعية قد تفسح المجال واسعًا للفيروس لمزيد الانتشار والفتك بمجتمع يملك بنية تحتية صحية هشة لا تقوى على المواجهة والمقاومة.

اقرأ/ي أيضًا: تهمّ أكثر من مليونيْ تلميذ: وزير التربية يستعرض تفاصيل العودة المدرسية

وكان التونسيون قد انتظروا طيلة شهر أوت/ أغسطس المنقضي أن تصدر قرارات سياسية تهم المجال التربوي والعودة للمدارس على وجه الخصوص تتم فيها مراعاة الموجة المرتدّة لكورونا، وأن يتم إعداد "بروتوكول صحي" على نحو غير الذي صدر للعموم،  لكن يبدو أن الحظّ  لم يحالفهم لأنّ الطبقة السياسية كانت منشغلة في الآونة الأخيرة بتغيير الحكومة وما حف بذلك الحدث من صراعات ومناكفات وإعادة للتموقع السياسي ضمن جغرافية التحالفات الحزبية في مشهد سريالي دوّخ المتابعين المحليين. 

لم يكن الهمّ التربوي من أولويات السياسيين وهو ما أدى إلى كثير من الارتجال والضبابية التي حامت حول ظروف العودة المدرسية، كما ذهبت تحليلات أخرى إلى أن لوبيات الاتجار وبيع الأدوات المدرسية تحركت من وراء الستار ودفعت من أجل أن تكون العودة المدرسية في موعدها في الخامس عشر من سبتمبر حتى يقدم الأولياء على شراء اللوازم المدرسية فيغنمون المال الوفير، ثم "فليأتي الطوفان من بعدي".

لم يكن الهمّ التربوي من أولويات السياسيين وهو ما أدى إلى كثير من الارتجال والضبابية التي حامت حول ظروف العودة المدرسية

ولعل القرارات الأخيرة التي صدرت عن وزارة التربية وشركائها من مختلف النقابات المعنية والمتمثلة في العودة التدريجية لمختلف المستويات التعليمية والدراسية حسب الأفواج وتخصيص الأسابيع الأولى لتدارك ما فات من السنة الدراسية المنقضية وتخفيف العطل من بعض الأيام، لم تلق الصدى الطيّب لدى عامة الناس ولم تبعث في خوالجهم مشاعر الطمأنة لعودة آمنة، خاصة وأن أغلب المؤسسات التربوية التونسية تعاني من نقائص عديدة ومن أهمها غياب دورات مياه لائقة وبيوت للتمريض وغياب الصيانة الضرورية ونقص التجهيزات وشبكات التدفئة بالنسبة لمدارس الشمال الغربي.

اقرأ/ي أيضًا: مدارس بلا ماء ولا مواد تعقيم.. اليعقوبي: على وزارة التربية الالتزام بتعهداتها

وقد ناقش خبراء التربية وجمعيات الأولياء والتلاميذ التونسيين ظروف العودة المدرسة لموسم 2020 ـ 2021 وخاصة سلة المقترحات والتوصيات الوزارية وخلصوا إلى أن الدولة التونسية تخلّت تمامًا عن دورها من أجل تأمين عودة مدرسية لائقة وتراعي الظرف الاستثنائي الذي يوحي بعودة قوية لكورونا، وخاصة في مستويات اعتبرت أساسية ولا محيد عنها وهي:  رقمنة المواد وتجنب الكتب الورقية وثقل المحافظ ومراجعة البرامج والضوارب والبحث عن مواد جديدة وأيضًا الدراسة عن بعد وهي النقطة الأهم التي لم تتطرق لها وزارة التربية في الوقت الراهن جانحة إلى عودة نمطية على غرار السنوات السابقة، متناسية أن أغلب التونسيين على دراية وعلى يقين بأن تكنولوجيا الانفوميديا اخترقت كل القطاعات وأصبحت المعلومات والمعارف تتدفق من خلالها بشكل لافت ومزاحم لدور المدرسة وأن العديد من المجتمعات بما في ذلك مجتمعات عربية قامت بتوظيف التكنولوجيات الحديثة لصالح منظومات التربية والتعليم وهو ما ساعد على توسيع نطاق الخبرات التعليمية والبيداغوجية للتلميذ خارج حدود الفصل الدراسي الكلاسيكي.

لقد حان الوقت أن تذهب تونس وهي الرائدة في أواسط القرن العشرين في مجالات التربية والتعليم إلى مناطق الأسئلة الحارقة المرتبطة بتطوير مدرستها 

وتبيّن بما لا يدع مجالاً للشك أن وزارة التربية التونسية لم تستوعب تمرين الموجة الأولى لفيروس كورونا والتي كانت فعلاً تمرينًا حقيقيًا لمنظومات التعليم في العالم وقادحًا للتفكير والذهاب إلى مراجعات من أجل التطوير والاستفادة. فهي لم تتحرك قيد أنملة في اتجاه خطط التواصل البيداغوجي عن بعد وتشبيك الحياة المدرسية وتركت المسألة رهينة غموض المستقبل وركنت مجددًا إلى غبار "الطباشير"  متعللة في ذلك بعدم استعداد المواطن لذلك ونقص دورات التدريب بالنسبة للفاعلين التربويين وبالخصوص المدرّسين.

لقد حان الوقت أن تذهب تونس وهي الرائدة في أواسط القرن العشرين في مجالات التربية والتعليم إلى مناطق الأسئلة الحارقة المرتبطة بتطوير مدرستها وتقوم بمناقشتها في أروقة المجتمع وتطوّعها الى أرض التفلسف والتفكير، ويتوّج كل ذلك بقرارات سياسية جريئة وقوية ومغيّرة للمشهد التربوي بأكمله، عدا ذلك فإن "المدرسة التونسية" ستسلك طريقًا مجهولاً وستشهد أيامها القادمة أزمة معنى تكون عواقبها وخيمة على المجتمع فتزول المدرسة الجاذبة وتحل محلّها المدرسة الطاردة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

العودة المدرسية.. كابوس بعض الأمهات العازبات

فيديو: العودة المدرسية في ظلال أزمة كورونا