08-يونيو-2020

موقف تونس المطلوب هو دعم مسار تأسيس الديمقراطية في محيطها (حازم تركية/وكالة الأناضول)

 

ما شاهدناه في مجلس نواب الشعب في الأسبوع الماضي فيما عُرف رسميًا بجلسة الحوار حول الملفّ الليبي وسمّته بعض الكتل البرلمانيّة بمساءلة رئيس البرلمان على مكالمته مهنّئًا فائز السرّاج بتحرير قاعدة الوطية في الغرب الليبي والتصويت على لائحة تدين التدخّل الأجنبي في ليبيا تقدّمت بها كتلة الدستوري الحر، يبدو ضعيف الصلة بالدبلوماسيّة وإن اتّخد منها عنوانًا.

 هل المعركة بين الحر الدستوري والنهضة أم هي حلقة شديدة من استهداف الديمقراطيّة وشروط استقرارها من قبل القديم ووجوهه السياسيّة المتحوّلة وقوى إقليميّة ترى جميعها في الديمقراطيّة تهديدًا وجوديًا؟

فليس أفضل من أن يركّز عمل البرلمان على قضايا البلاد ذات الأولويّة، ولكنّ حزب عبير بنزعته الاستئصاليّة ونجاحه في جرّ جانب من كتل البرلمان لتصطفّ وراءه بما فيها نواب حركة الشعب المنتمين إلى الكتلة الديمقراطيّة المشاركة في حكومة الفخفاخ يطرح أكثر من سؤال حول حقيقة المعركة هل هي بين الحر الدستوري والنهضة أم هي هو حلقة شديدة من استهداف الديمقراطيّة وشروط استقرارها من قبل القديم ووجوهه السياسيّة المتحوّلة وقوى إقليميّة ترى جميعها في الديمقراطيّة تهديدًا وجوديًا؟ ومع ذلك فإنّ سؤال: ما الذي يحدّد الدبلوماسيّة التونسيّة وسياسة تونس الخارجيّة ويرسم وجهتها له ما يبرّره في هذا السياق المتفجّر؟

اقرأ/ي أيضًا: ظلال الانقسام الليبي في تونس

أهمّ المحدّدات

توجد إجابة جاهزة عن هذا السؤال وهي مصلحة تونس. وهذا أمر لا خلاف فيه. ولكنّه لا يُعفينا من سؤال: على ضوء ماذا تُضبط هذه المصلحة؟ وفي هذا توجد ثلاث محدّدات أساسيّة:

  • الثورة وما انبثق عنها من مسار ديمقراطي لم يستقرّ عند محطّته النهائيّة. ثمّ إنّه على بلادنا مسؤوليّة أخلاقيّة باعتبارها منطلق ثورة المواطنة في المجال العربي وبلادنا جزء منه. وهو ما يجعل من دعم هذا التوجّه واجبًا أخلاقيًا وموقفًا سياسيًا ومصلحة اقتصاديّة.
  • الدستور وهو عقد جماعي كُتب على مراحل معلومة. والدساتير على أهمّيتها القانونيّة والحقوقيّة ودورها في ضبط النظام السياسيّة فإنّها لا تحمي بذاتها الديمقراطيّة، وإنّما أهمّيتها في أنّها تمثّل مرجعيّة صلبة للوصول إلى تسويات تاريخيّة سياسيّة (تعايش في ظلّ النظام الديمقراطي يرأب الانقسام الهووي) واجتماعيّة (توزيع جديد للثروة يرأب الانقسام الاجتماعي).
  • تجربة الدولة في الدبلوماسيّة والسياسة الخارجيّة انطلاقًا من تأسيس 59، وعملًا بمبدأ تواصل الدولة. وتتلخّص هذه الدبلوماسيّة على لسان أنصار النظام القديم في "الحياد الإيجابي".

في حقيقة الأمر لم يكن لهذه التجربة علاقة فعليّة لا بالحياد ولا بإيجابيّته. فتونس كانت منحازة إلى المعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتّحدة (حلف الناتو) المقابل للمعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي (حلف وارسو)، وسياستها كانت في مجملها تابعة. وكان المسؤول التونسي ينتظر الموقف الأمريكي والفرنسي من القضايا الحادثة عربيًا وعالميًا حتّى "تُقرّر" موقفها. وكان "حيادها" لا يخرج إلى مخالفة مصالح المعسكر المحسوبة عليه. وفي هذا وقائع شاهدة. وحتّى ما شذّ عن هذه الوقائع لم يخرج عن رضا "الحليف" وموافقته لهذا السبب أو ذاك. وخلاصة الأمر أنّنا لسنا إزاء "حياد إيجابي" بقدرما هو "حياد تابع" إذا صحّت التسمية لتعذّر اجتماع الحياد والتيعيّة في السياسة الخارجيّة الواحدة.

مع الثورة لم يعد هناك من سبب يسمح بمواصلة هذه السياسة الخارجيّة وهذ الدبلوماسيّة، فضلا عمّا عرفه العالم من تغيّرات مهمّة في العالم ومحاور الصراع وهي لا تصل إلى حدّ الانقلاب ولكنّ الانتباه إليها وفهمها ضروريّان لبلورة "دبلوماسيّة جديدة".

إذا طبّقنا هذا على الملفّ الليبي وما يعرفه هذه الأيّام من تحولات واعدة نحو الحلّ السياسي وبناء الديمقراطيّة، فإنّه من الضروري الوقوف على خصائص السياق الليبي مركّزين على أهمّها وما نراه منها أساسيًا في بناء دبلوماسيتنا الجديدة.

ملامح المشهد الليبي وقواه الفاعلة

في ليبيا انزاحت ثورة 17 فبراير إلى احتراب أهلي بشروط إقليميّة ودوليّة. وفي جهتي الصراع الليبي ميليشيات وأمراء حرب ليست مفصولة عن التوازنات القبليّة والجهويّة والمناطقيّة. ولكنّ شرخًا مهمًا يشقّها في علاقة بثورة 17 فبراير ومن ثمَّ في علاقة بما عرفه الربيع من ثورة مضادّة تستهدف بقيادة الإمارات والسعوديّة ومصر وفرنسا تحقيق الانتقال نحو الديمقراطيّة والدولة المدنيّة من جهة، وقوّة إقليميّة مساندة للثورة تمثّلت في قطر وتركيا من جهة ثانية.

في ليبيا ثورة مضادة تستهدف بقيادة الإمارات والسعوديّة ومصر وفرنسا تحقيق الانتقال نحو الديمقراطيّة والدولة المدنيّة من جهة، وقوّة إقليميّة مساندة للثورة تمثّلت في قطر وتركيا من جهة ثانية

من المهمّ الإشارة إلى أنّ الناتو هو من صنع نواة الثورة المضادّة في ليبيا قبل سقوط نظام القذّافي. فقد كان تدخّله عن طريق سلاح الجوّ، ولم يكن له من يمثّله على الأرض ويضمن مغانمه في ليبيا. وكان يعرف هويّة ثوّار 17 فبراير (ينعت بعض مكوناتها بالإرهاب). فعمد إلى بعث نواة "الجيش الوطني الليبي" ليكون جزءًا من الثورة وممثّله على الأرض بقيادة حفتر عميل المخابرات الأمريكيّة وبعض ضبّاط الجيش الليبي الذي كان هامشيًا في نظام القذّافي الأمني. كان هذا منذ تدخّل الناتو ومنعه اقتحام القذّافي مدينة بنغازي. وحفتر الذي استدعي لهذه المهمّة في بنغازي يتّهم بأنّه كان وراء تصفية الجنرال عبد الفتاح يونس منافسه الحقيقي. وهو الشخصيّة العسكريّة الأكثر تناغمًا مع ثورة 17 فبراير، ونسبت عملية الاغتيال إلى "فصيل متطرّف" من ثوّار 17 فبراير للحاجة المتأكّدة لحفتر.

مثّل حفتر عنصر التوتّر بين الثوّار والجيش ثمّ أداة أصبح الانقلاب على نهج المصالحة وإجهاض مسار الحلّ السياسيّ. وبعد انتخابات المؤتمر الوطني العام (مجلس تأسيسي) وفشل التجربة، وتجربة مجلس النواب  كان الاحتراب الأهلي الذي انتهى إلى مهاجمة طرابلس (4 أفريل 2019) أسبوعين قبل انعقاد مؤتمر غدامس للمصالحة السياسية برعاية الأمم المتّحدة. والأمم المتّحدة التي لم كانت منخازة في صراع الليبيين وغير بعيدة عن سياسات النيتو هي من صنع من حفتر جهة سياسيّة وهو الذي لم تتجاوز منزلته قيادة أركان الجيش الليبي قبل أن يحوّله إلى ميليشات مدعومة من المرتزقة والشركات الأمنيّة (الجنجويد، مرتزقة من تشاد، جماعة فاغنر الروسيّة).

اقرأ/ي أيضًا: سقوط لائحة الدستوري الحر.. عن الانتصارات التي تشبه الهزائم

في ليبيا، احتراب أهلي بين جهتين حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا وحفتر. وتعمل الجهة الأولى بالدفاع عن العاصمة وعلى فرض الحلّ السياسي مقدّمة إلى انتقال ديمقراطي بدعم من قطر وتركيا. ويعمل الثاني على فرض نظام عسكري شمولي بدعم من الإمارات والسعوديّة ومصر وفرنسا وروسيا.

والسؤال الذي ينطرح في هذا السياق: لم تدعم قطر وتركيا الحلّ السياسي في لببيا وتناصران ثورة الحريّة في المجال العربي (هذا هو الموقف العام) في حين تقود الإمارات وجماعتها الحل الثورة المضادّة وتدعم قيام نظام سلطوي عسكري متخلّف بقيادة حفتر؟

سيكون الجواب هو المصالح، وهذا صحيح. ولكن لماذا تربط قطر وتركيا مصلحتها بدعم الثورة والديمقراطيّة وهي الجهة الأضعف ولا سيما بعد الهجوم على طرابلس، وتربط الإمارات وأخواتها مصلحتها بالثورة المضادّة وفرض الدكتاتوريات العسكرية المتخلّفة (الانقلاب على ثورة 25 يناير، الانقلاب الفاشل على الديمقراطيّة التركية، تدمير اليمن والعمل على تقسيمه)؟

في هذا السياق كثيرًا ما يكون التذكير بعلاقة الجهتين بالكيان الصهيوني. وهذا صحيح أيضًا. ولكن لماذا يتطوّر موقف هذه الجهة نحو دعم المقاومة في غزّة ولبنان ودعم ثورة الربيع في حين يتطوّر موقف الجهة الأخرى نحو الأجندة الصهيونيّة في "صفقة القرن" وقيادة الثورة المضادّة وتدمير مدن وعواصم عربيّة على من فيها؟

من الحياد التابع إلى الدبلوماسيّة المواطنيّة

على ضوء هذا يتحدّد موقف تونس ممّا يجري في الملفّ الليبي، وعلى ضوء تجربتنا الديمقراطيّة واستكمال مسارها. لذلك يعتبر الملفّ الليبي شأنًا تونسيًا. ومن التناقض أن يقرّ الجميع بهذه الحقيقة ثمّ يقوم من يدعو إلى "الحياد التامّ".

موقف تونس الديمقراطيّة يكون بدعم الحلّ السياسي في ليبيا، والعلاقة الإيجابيّة بكلّ من يدعم إقليميًا هذا الحلّ. ومن يقف إلى جانب مسار تأسيس الديمقراطيّة في تونس ومحيطها. وهي ليست طرفًا مباشرًا في الصراع ولكنّها معنيّة أمنيًا وسياسيًا وديمقراطيًا واقتصاديًا وأخلاقيًا بما يحدث في ليبيا ومستقبل الديمقراطيّة في منطقة المغرب العربي.  

هذا الموقف يمكن أن نسميّه "الحياد الإيجابي" الحقيقي ويمكن أن نسميّة "الدبلوماسيّة المواطنيّة". وما يحدث في ليبيا سيكون له انعكاس مباشر على تونس وعلى مستقبل المجال العربي والعالم. ولهذا السبب يحتدّ الصراع في تونس وإن تحت عناوين أخرى. ولهذا السبب تمعن تعبيرات القديم الفاشيّة في معاداة شروط الديمقراطيّة في تونس والاتجاه إلى الحلّ السياسي والمصالحة التاريخيّة في ليبيا باختلاق المعارك المضلّلة واستهداف مؤسسات الدولة وفي مقدّمتها البرلمان وقطع الطريق على كلّ ما يدعم شروط الديمقراطيّة من تحوّلات إيجابيّة في الجوار الليبي.  

ليبيا تتّجه نحو الحلّ السياسي القائم على توازنات قبليّة مناطقيّة وجهويّة. ويمثّل هذا التوجّه انتصارًا لخطّ الثورة والمواطنة في المجال العربي وتراجعًا للثورة المضادّة قد يطول حتّى المعاقل التي "حررتها" من الثورة (مصر).

ويشهد تاريخ الثورات أنّه لابدّ للثورة من قوّة استراتيجيّة وازنة مستقرّة داعمة تربط مصالحها بالتحوّلات التي يمكن أن تحدثها الثورة في التوازنات السابقة. وثورة المجال العربي لا تخرج عن هذا المعطى. وهي تجري نحو غاية استراتيجيّة (دونها مراحل صعبة) تتمثّل في بناء المجال العربي قوّة سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة. ولا يبقى منطقة فراغ مثلما هو عليه الأن وفضاء سياسيًا فارغًا للتدخّل الإقليمي (تركيا ، إيران) والدولي (الكيان الصهيوني). وهو انبناء استراتيجي يشهد بوحدة المجال العربي، وبأنّه إذا كان للقوميّات "قانونًا" باتجاها نحو بناء كيانها السياسي (ليس بالضرورة مطابقًا لمفهوم الوحدة العربيّة التقليدي)، فإنّه كلّي يسري على أمّة العرب كما سرى على غيرها.

يجب أن يكون موقف تونس الديمقراطيّة دعم الحلّ السياسي في ليبيا، والعلاقة الإيجابيّة بكل من يدعم إقليميًا هذا الحلّ، ومن يقف إلى جانب مسار تأسيس الديمقراطيّة في تونس ومحيطها

وهذا البناء السياسي سيكون في صالح الجارين التركي والإيراني الجارين المتدخّلين في المجال العربي من أجل مصالحهما حتّى وأن اختل اتجاه التدخّل وعنوانه. ويمثّل مقدّمة لإعادة رسم الحدود والمصالح بين هذا الثلاثي الاستراتيجي في ظلّ مؤشرات تنبئ بتحولات جيواستراتيجيّة لعلّ أهمّ عناوينها تقدّم الصين نحو الريادة الاقتصاديّة وارتداد الولايات المتّحدة نحو مجالها الأطلسي (وارتباطه بزوال الكيان الصهيوني) وتفكك المجال الأوروبي إلى دوله القديمة.

والثلاثي العربي التركي الإيراني الاستراتيجي مرشّح ليعوّض الدور الأوروبي في التوازن الدولي وللجغرافيا دور مهمّ في هذا. فإذا كانت أوروبا تمثّل غرب المتوسّط، تحلّ القوة الاقتصاديّة الجديدة العربية التركيّة في شرق المتوسّط، وتمثّل إيران همزة وصل بين الشرق (الصين، اليابان...) والغرب الجديد (تركيا والمجال العربي). وينتظر أن تضطرّ إيران، إلى تغيير موقفها من ثورة المجال العربي بعد انحازت إلى نظام الاستبداد باسم المقاومة. ولكنّ خساراتها لسياسيّة والأخلاقيّة والاقتصاديّة ستضطرّها إلى مراجعات موجعة. وفي كلّ الأحوال هي اليوم موضوع للربيع والثورة للخروج من ولاية الفقيه ونظامها الكليّاني إلى ولاية الشعب ونظامها الديمقراطي. المجال العربي هو نواة "الغرب الجديد". ولم نكن يومًا شرقًا رغم ما رسّخه الاستشراق خدمة مصالح الغرب الباحث عن أسوق خارج مجاله. فالعلماني الأوروبي في مدينة مرسيليا أقرب إلينا، في مستوى نظام الفكر وبنية العقل، من المسلم الصيني في مدينة بيهاي.     

هذه الآفاق البعيدة مهمّة لتبيّن حقيقة ما يعرفه مشهدنا السياسي من معارك لا تدور على غير أسمائها. فالمعركة التي تخاض باسم سحب الثقة من رئيس البرلمان ممثّل "التنظيم الدولي للإخوان في تونس" اسمها الفعلي معركة ضدّ شروط الديمقراطيّة وثأرًا لنظام بن علي ولمنظومة تعذيبه وانتصارًا للثورة المضادّة في ليبيا (عسكر متخلّف) وإسناد1صا لرافعتها الإماراتيّة المتصهينة المنكسرة في ليبيا. وهذه الآفاق مهمّة أكثر في بناء دبلوماسيّة تونسيّة أسميناها الدبلوماسيّة المواطنيّة وضروريّة لتوسيع الرؤية واستشراف المستقبل. وتمثّل مساهمة في مستقبل ترتسم ملامحه ببطء، ولكنّها تشهد بأنّ الذي انطلق من بلادنا جدير بأن يعتبر ثورة الألفيّة الثالثة. ومهمّة أكثر في تبيّن حقيقة ما نعرفه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الأحزاب التونسية والأزمة الليبية.. اختلافات حد التناقض

هل أنجزت حركة النهضة مهمّتها التاريخيّة؟