06-سبتمبر-2023
وزارة الخارجية التونسية

المتابع لخطاب الخارجية التونسية ينتهي لملاحظة فقدان متصاعد للرصانة

مقال رأي 

 

 

المعلوم أن الخطاب الدبلوماسي يفترض دائمًا الدقّة والرّصانة والعقلانية، فباعتباره يتوجّه باسم الدّولة للعالم ويعكس صورتها، يستلزم التعالي، بالخصوص، عن نبرة المناكفة وعدم توجيهات الاتهامات يمنة ويسارًا. يجب أن يكون، ببساطة، خطابًا هادئًا. ولكن المتابع لخطاب الخارجية التونسية، سواء عبر بلاغاتها الرسمية أو تصريحات رئيس الدولة أو وزير الخارجية، ينتهي لملاحظة فقدان متصاعد للرصانة، بشكل أظهره خطابًا متوترًا هجوميًا بل صبيانيًا أحيانًا. والشواهد متعدّدة.

المتابع لخطاب الخارجية التونسية، سواء عبر بلاغاتها الرسمية أو تصريحات رئيس الدولة أو وزير الخارجية، ينتهي لملاحظة فقدان متصاعد للرصانة، بشكل أظهره خطابًا متوترًا وهجوميًا 

أصدرت منظمة "أنا يقظ"، المتخصّصة في مكافحة الفساد والمتابعة عن كثب لملف استرجاع الأموال المنهوبة، بيانًا، بتاريخ 31 أوت/أغسطس 2023، بعنوان "أزمة الأموال المنهوبة تكمن في الأقوال المكذوبة" إثر تصريح لرئيس الدولة تضمّن معلومات مضلّلة حول هذا الملف، كشف فشل وزير الخارجية الحالي، الذي كان سفيرًا لتونس بالاتحاد الأوروبي، في معالجته، دونًا عن تجاهل سعيّد بنفسه للجنة الخاصة لاسترجاع الأموال المنهوبة أو لجنة الصلح الجزائي.

الوزارة ردّت ببيان مبتدؤه الحديث عن "المنظمة التي تسمّي نفسها أنا يقظ"، في مناكفة لا تليق بخطاب الدبلوماسية، ومنتهاه اتهامها بالعمل على "أجندة سياسية صرفة لا علاقة بالمصالح المشروعة للشعب" وأنها تقوّض مصداقية "الأطراف الأجنبية التي تقف وراء تمويلها". المنظمة، من جانبها وفي ردّها، تحدّت الوزير بتسمية الأطراف الأجنبية التي تقف وراءها، مترفّعة عن التشكي به بمقتضى المرسوم 54.

 

 

الوزارة، بالنهاية، بدل التفاعل بتوضيح المعطيات أو إثبات ما يعارض القول بفشلها في ملف الأموال المنهوبة، اختارت إصدار بلاغ لا يتضمن معطيات بل اتهامات مكرّرة في سياق خطاب رسمي قوامه الاتهام بالعمالة والخيانة ضد كل من يعارض هذه السلطة. عدم إصدار الوزارة بيانًا كان أفضل من إصدارها هكذا بلاغ متوتّر.

انحدار خطاب وزارة الخارجية عكسه، أيضًا، بيان مؤخرًا تضمّن تهديدًا باتخاذ إجراءات للكشف عن هويّة أصحاب صفحات في مواقع التواصل الاجتماعي "تسيء إلى رموز الدولة ومسؤولي الوزارة وموظفيها"، متحدثة عن "هجمات مشبوهة وحملات مغرضة". بل حذّرت كلّ من يستغلّ المواقع الرسمية للوزارة وبعثاتها لـ"نشر تعاليق مسيئة القصد منها بث أخبار زائفة أو توجيه الشتائم وهتك الأعراض بفسخ التعاليق وإثارة التتبعات ضد أصحابها".

هذا البلاغ جاء مباشرة إثر البيان "الثلاثي"، لوزارات العدل والداخلية وتكنولوجيا الاتصال، الذي أكد، أيضًا، على إثارة تتبعات ضد صفحات تسعى بالخصوص لـ"تشويه رموز الدولة"، محذّرة من المشاركة في نشر هذه المحتويات ومبيّنة أنه سيتمّ نشر قائمات الصفحات بصفة دورية. 

 

 

هي حالة من الارتباك في ظل الخطاب الرئاسي المنزعج من صفحات إلكترونية، والحال أن توظيف جهات ما لمواقع التواصل لنشر خطاب معارض للسلطة، وارد، بالضرورة، أن يتضمّن انحرافات، وليس بالأمر المستجدّ.

التصدي للانحرافات المؤدية لارتكاب جرائم، لا يجب أن يؤدي إلى بث مناخات من الخوف والترهيب ضد كل صوت معارض للسلطة

لم تكن أي سلطة في تونس بعد الثورة بمنأى عن توظيف صفحات إلكترونية ضدها باستعمال أساليب غير قانونية أو غير أخلاقية. وهذه من إكراهات وسائل التواصل الإلكتروني، التي استفاد منها، الرئيس بالمناسبة، في حملته الانتخابية. بيد أن التصدي للانحرافات المؤدية لارتكاب جرائم، لا يجب أن يؤدي إلى بث مناخات من الخوف والترهيب ضد كل صوت معارض للسلطة. وهذا ما تم تسجيله اليوم، عبر الإسهال في تطبيق المرسوم 54، غير الدستوري والمستهدف للحريات العامة، ضد مدوّنين ومعارضين.

وزير الخارجية نبيل عمّار يتبّنى خطابًا مؤامراتيًا يتطابق مع ما يريده رئيس الدولة، وهو ما انتهى به لتقديم تصريحات موغلة في التهافت. في حوار تلفزي في ماي/أيار 2023، انتقد ما اعتبره استقواء تونسيين بالخارج عن طريق رفعهم لدعاوى في الخارج، وهو تصريح من الغرابة بمكان أن يصدر باسم وزير الخارجية. لا يتعلّق الأمر بتورّطه في اتهام معارضين بالاستقواء بالأجنبي، وهي التهمة الجاهزة للسلطة لتشويه معارضيها، لا يجدر أن يكون الناطق باسم الدبلوماسية من يتورّط فيها، ولكن لاعتباره أن رفع دعاوى هو دليل على هذا الاستقواء.

يغالط الوزير، هنا، وكأنه يجهل أن الدولة التونسية صادقت على معاهدات تؤسس لحق مواطنيها في رفع دعاوى حال ارتكاب جرائم محدّدة وفق شروط إجرائية معلومة. مثلًا، اعتبرت المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب في حكم أصدرته، إثر دعوى من المحامي الأستاذ إبراهيم بلغيث، الأمر الرئاسي عدد 117 والمراسيم المتولّدة عنه مخالفة للدستور. فهل يعدّ لجوء مواطن تونسي لمحكمة قارية، تونس مصادقة على البروتوكول المتعلّق بها، من قبيل الاستقواء بالأجنبي؟ هل أصبح اللجوء إلى التقاضي خارج البلد، والتقاضي هو وسيلة حضارية لفضّ النزاعات، قرينة على العمالة؟ وزير الخارجية يتبنّى خطابًا باتت تجد حتى أعتى الأنظمة الديكتاتورية حرجًا في استعماله. 

للمفارقة، فيما تُسمّى قضية "التآمر على أمن الدولة" التي أدت لاعتقال معارضين، تم الادعاء أن مخطّط التآمر كان يتم إعداده بمقرّ السفارة التونسية ببلجيكا زمن مباشرة وزير الخارجية الحالي لمهامه كسفير وقتها. هذه القضية ورّطت الجهاز الدبلوماسي للدولة التونسية، كما مسّت روابط العلاقة مع بعثات دبلوماسية بتونس. وهو ما جعل القطب القضائي لمكافحة الإرهاب يصدر بيانًا ليبرّئ الدبلوماسيين الأجانب في هذه القضية، بعد إقحام أسمائهم فيها، مع التعهد بتأمين ظروف أفضل لممارسة مهامهم، فأصبح القطب القضائي بمثابة ناطق باسم الخارجية التونسية. ولكن في المقابل، تواصل الإصرار على الزج بالمعارضين في السجن، دون أي مسوّغ عدا رغبة السلطة السياسية في معاقبتهم على خلفية مواقفهم المعارضة. 

أزمة الخطاب الدبلوماسي في تونس اليوم عميقة، لا تنحصر في هنّات خطاب وزير الخارجية والتوتّر البيّن حتى في الخطاب المؤسساتي الصادر باسم الوزارة ولكن تمتدّ، بل مصدرها واقعًا، هو خطاب رئيس الدولة الذي أدت تصريحاته لأزمات دبلوماسية عدة

أزمة الخطاب الدبلوماسي في تونس اليوم عميقة. لا تنحصر، واقعًا، في هنّات خطاب وزير الخارجية والتوتّر البيّن حتى في الخطاب المؤسساتي الصادر باسم الوزارة. ولكن تمتدّ، بل مصدرها واقعًا، هو خطاب رئيس الدولة الذي أدت تصريحاته لأزمات دبلوماسية على غرار الخطاب حول المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء أو حول ليبيا التي دعا فيها لحل سياسي على الطريقة الأفغانية.

في كلمة بمناسبة تسليمه أوراق اعتماد عدد من السفراء الجدد في أوت/أغسطس 2023، دعاهم سعيّد إلى التصدي لما أسماها حملات تشويه لتونس من "دوائر الاستعمار". ولكن تلهث السلطات، في نفس الوقت، لإمضاء مذكرة اتفاقية الشراكة الاستراتيجية مع الاتحاد الأوروبي.

تونس "لن تتردد أبدًا في تقديم حلول للإنسانية جمعاء حتى تكون الأمم المتحدة أممًا متحدة بالفعل''، هكذا قال سعيّد يومًا أيضًا في خطاب تيه بات مثيرًا للتندّر في مواقع التواصل. وتونس أيضًا تتعرّض لمؤامرة في سياق نشأة "النظام العالمي الجديد". هي حالة من التخبّط. لا توجد بوصلة واضحة. والضبابية لا تؤدي، بالنهاية، إلا للارتباك واختلاق الأزمات دونًا عن غياب الخطاب الدبلوماسي الهادئ. بالنهاية، الدبلوماسية التونسية تشهد، حقيقة، واحدة من أسوأ فترات إدارتها في التاريخ المعاصر للبلاد.

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"