تستعد فاطمة الدجبي وهي ربة منزل، لزيارة ابنها الوحيد الذي يزاول تعليمه الثانوي بفرنسا بعد عام من التحاقه بأحد المعاهد الفرنسية، لم تكن الفترة التي قضّاها "عزيز" بعيدًا عنها هيّنة، فاليوم في غيابه عن المنزل يضاهي بالنسبة إليها سنة كاملة مما نعدّ.
آلاف التونسيين الذين اعتادوا الذهاب إلى وجهات أوروبية في رحلات سياحية أو علاجية أو زيارات عائلية، أصبحت مسألة حصولهم على تأشيرة سفر شبه مستحيلة
تقول فاطمة إنها اختارت عطلة الشتاء لتقضّيها مع فلذة كبدها الذي ترك غيابه عن المنزل فراغًا كبيرًا في حياتها وأنها لم تدّخر جهدًا في الترتيب لرحلتها التي أصبحت الحدث الأبرز في حياتها: "في الواقع، لقد انطلقت في التحضير للسفرة باكرًا جدًا وذلك لتأمين جميع طلبات ابني من البهارات التقليدية والحلويات التونسية وغيرها، لكن ما راعني إلا وأن الحصول على موعد لطلب التأشيرة تأخّر كثيرًا ليتجاوز الشهر، ثم وبعد تقديمي للوثائق اللازمة تم رفض مطلبي لأسباب أعتبرها واهية".
تؤكد فاطمة في حديثها لـ"الترا تونس"، أن رفض منحها التأشيرة فاجأها كثيرًا وحزّ في نفسها خاصة وأنها ليست المرة الأولى التي تتقدم فيها بمطلب تأشيرة وأنها زارت فرنسا وألمانيا مرتين سابقًا دون مواجهة أي عراقيل أو تعقيدات. ولفتت المتحدثة إلى أنها تسافر في كل مرة رفقة زوجها وهو موظف بإحدى الوزارات، وترفق وثائقها مع ملفه، لكن هذه المرة كان سبب رفض تمكينها من التأشيرة هو عدم إيداع مبلغ مالي "كاف" في بطاقتها البنكية.
فاطمة الدجبي (ربة منزل) لـ"الترا تونس": الحصول على موعد لطلب تأشيرة دخول فرنسا لزيارة ابني تأخّر كثيرًا، ثمّ تم رفض مطلبي لأسباب واهية
ورغم إعادة تقديمها لملفها مرفقًا بكشف لبطاقتها التي أودعت فيها ألفي دولار، رُفض مطلبها مرة أخرى. فاطمة وآلاف غيرها من التونسيين الذين اعتادوا الذهاب إلى وجهات أوروبية في رحلات سياحية أو علاجية أو زيارات عائلية، أصبحت مسألة حصولهم على تأشيرة سفر شبه مستحيلة، خاصة بعد إعلان المتحدث باسم الحكومة الفرنسية غابريال أتال عن تشديد إجراءات منح التأشيرة لمواطني تونس والمغرب والجزائر لدخول بلده بتعلة رفض هذه البلدان ترحيل رعاياها المقيمين بالأراضي الفرنسية بشكل غير قانوني وللضغط على التعاون مع الجانب الفرنسي لتطبيق قوانين الهجرة وفقه.
- تضييقات تعسفية على حرية التنقل
تتصاعد وتيرة التضييق على حرية التونسيين في التنقل نحو الوجهات التي يختارونها خاصة منها الوجهة الفرنسية، ويتجلى ذلك من خلال الارتفاع الصاروخي لرفض مطالب الحصول على تأشيرة ليتم بين سنتي 2021 و2022 رفض 23% من المطالب التي تقدم بها تونسيون ومغاربة وجزائريون. ولئن أعربت دولتا المغرب والجزائر عن استيائها من تخفيض فرنسا لعدد التأشيرات، فإن الجانب التونسي التزم الصمت تجاه هذه المسألة ليظل المواطن التونسي رهين التضييقات.
ولئن كانت التأشيرة ممنوعة سابقًا على شريحة معينة من الشباب العاطل عن العمل والذي لا تتوفر فيه الشروط المجحفة المتعلقة بالوضع المادي والتأمين الصحي وغيرها، فإنها طالت في الآونة الأخيرة حتى النخبة، فأصبحت مطالب الأساتذة الجامعيين والمهندسين والأطباء وغيرهم تجابه بالرفض لأسباب واهية وغير مقنعة.
المغرب والجزائر عبّرتا عن استيائهما من تخفيض فرنسا لعدد التأشيرات ورفض 23% من المطالب التي تقدم بها تونسيون ومغاربة وجزائريون، لكنّ الجانب التونسي في المقابل، التزم الصمت
ويرى الناشط الحقوقي مسعود الرمضاني أن أوروبا زادت انغلاقًا في الفترات الأخيرة تبعًا لسياساتها تجاه الهجرة غير النظامية القائمة على قبول الأدمغة والإطارات ورفض كل طلبات التأشيرة التي لا تأتي عن طريق السفارات أو المدارس العليا أو المستشفيات، مشيرًا إلى وجود تخوف وريبة لدى الاتحاد الأوروبي كانت قد عبرت عنه إيطاليا وفرنسا يتعلق أساسًا بالأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية السيئة وغير المستقرة في تونس، وبالتالي اتجه الاتحاد الأوروبي نحو المزيد من الانغلاق والتحري ومراقبة مطالب التأشيرة المقدمة تفاديًا لمغادرة تونس دون رجعة وهي ظاهرة انخرطت فيها حتى العائلات.
وبيّن الرمضاني في حديثه لـ"الترا تونس" أن أوروبا معتادة على سياسة الكيل بمكيالين، إذ غابت عنها الأبعاد الإنسانية منذ مدة وذلك في ظل صعود حكم يميني أو يميني متطرف يحاول كسب الناخبين، فتطورت النزعات العنصرية وهي شبيهة بتلك التي تمارَس تجاه مهاجري إفريقيا جنوب الصحراء في أوروبا وحتى في البلدان الإفريقية وما رافقها من ردود أفعال عنصرية رسمية وغير رسمية.
مسعود الرمضاني (ناشط حقوقي) لـ"الترا تونس": أوروبا معتادة على سياسة الكيل بمكيالين، إذ غابت عنها الأبعاد الإنسانية منذ مدة وذلك في ظل صعود حكم يميني أو يميني متطرف يحاول كسب الناخبين هناك
ويرى المتحدث أن العوامل المذكورة خلقت نوعًا من النفور لدى الاتحاد الأوروبي، لكنه نفور غير مبرر لأنّ هناك قيمًا إنسانية يجب مراعاتها وهناك شروط للحصول على التأشيرة وجب احترامها فإذا ما استوفى الشخص هذه الشروط لا داعي لرفض منح تأشيرة السفر حتى في ظل وجود مخاوف من الهجرة غير النظامية، خاصة وأنّ المتقدمين للحصول على مطالب "فيزا" يتكبدون خسائر مالية تبلغ حتى الـ500 دينار دون تعويض في حالة الرفض، وهو إنهاك لجيب التونسي في هذه الظروف التي تمر بها البلاد، وفق وصفه.
واعتبر الرمضاني أن مواقف بعض الدول المغاربية التي أعربت عن امتعاضها من تقليص فرنسا في منح التأشيرات، مرتبكة. فبالتمعن في تعاملها مع مهاجري إفريقيا جنوب الصحراء يتبين أنه تعامل انتقائي فيه قسوة وعدم احترام للقوانين، ثمّ تلوم أوروبا على تعاملها مع مهاجريها بعد ذلك، مضيفًا أن هذه الدول قبلت بأن تكون حرس الحدود الأوروبية في حين أنه يجب على الدولة أن تحترم القانون في التعامل مع المهاجرين غير النظاميين على أرضها ليكون لها موقف سيادي ولتعبّر عن مواقف في علاقة بالقوانين والحريات.
مسعود الرمضاني (ناشط حقوقي) لـ"الترا تونس": بعض الدول المغاربية تعامل مهاجري إفريقيا جنوب الصحراء بشكل انتقائي فيه قسوة وعدم احترام للقوانين، ثمّ تلوم أوروبا على تعاملها مع مهاجريها بعد ذلك
وقد أكد القنصل الفرنسي بتونس "دومينيك ماس" من جانبه، أن فرنسا تستقبل سنويًا 7000 مواطن تونسي وأن أكثر من 70% من طلبات الحصول على تأشيرة يتم قبولها وترفض حوالي 25% من هذه الملفات التي يكون بعضها غير مستكمل الوثائق، داعيًا إلى التثبت من صحة الوثائق المقدمة لتجنب التعطيل والرفض.
كما لفت في تصريح إذاعي إلى أن ارتفاع نسب رفض منح التأشيرة يعزى إلى الإجراءات التي سنتها فرنسا لإعادة الحوار مع المغرب العربي حول ظاهرة الهجرة غير النظامية.
- بطء في الحصول على المواعيد وأموال مهدرة
في السابق، وقبل ظهور شركة "TLS" لتقديم طلبات التأشيرة "شنغن" عبر الإنترنت، يضرب التونسيون الراغبون في الحصول على "فيزا" موعدًا مع التعب وطول الانتظار في الصفوف أمام القنصلية الفرنسية بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة، فمنذ ساعات الفجر الأولى ترى طوابير طويلة تمتد لمئات الأمتار يتخللها أشخاص امتهنوا بيع أماكنهم بعشرات الدنانير للمستعجلين من طالبي التأشيرة. ورغم ظهور شركة "TLS"، فإنه لا مناص أيضًا من التعب والانتظار خاصة وأن مواعيد تقديم التأشيرة عادة ما تكون غير متوفرة علاوة على أن المبالغ التي يدفعها التونسي لتقديم مطلب تأشيرة لا تسترد في حالات الرفض.
مسعود الرمضاني (ناشط حقوقي) لـ"الترا تونس": اتجه الاتحاد الأوروبي نحو المزيد من الانغلاق والتحري ومراقبة مطالب التأشيرة المقدمة تفاديًا لمغادرة تونس دون رجعة وهي ظاهرة انخرطت فيها حتى العائلات
وقد ظهرت شركة "TLS" في تونس منذ سنة 2012، وهي فرع من فروع شركة "TLSCONTACT" الفرنسية ويتلخص نشاطها في تحديد مواعيد لتقديم ملف طلب التأشيرة وتسلمها ليقتصر عمل القنصليات والسفارات على قبول أو رفض هذه الملفات. ومع تأخر مواعيد تأشيرات السفر، قاد ناشطون حملة للمطالبة بالشفافية في طرق إسناد مواعيد تقديم طلب التأشيرات مما يدفع بعض الأشخاص إلى التعامل مع وكالات أسفار تعرض مواعيد لتقديم مطالب التأشيرة في وقت وجيز وبسعر خيالي.
وقدّر "معتز باللكود"، الناشط ضمن حملة المطالبة بالشفافية في الحصول على مواعيد التأشيرة أنه أمام عجز التونسيين عن الحصول على موعد تأشيرة، تقوم بعض الوكالات بإشهار لبيع مواعيد التأشيرة على الرغم من أن موقع "TLS" يؤكد أنه المؤسسة الوحيدة المخول لها تحديد مواعيد طلب تأشيرة، وأنها لا تقبل مطلب "فيزا" عبر وسطاء. كما انتقد في تدوينة له الأسعار المتداولة لهذه الخدمة من قبل الوكالات والتي تبلغ 850 دينار تونسي.
ناشط ضمن حملة المطالبة بالشفافية في الحصول على مواعيد التأشيرة: بعض الوكالات تقوم بإشهار لبيع مواعيد التأشيرة على الرغم من أن موقع "TLS" يؤكد أنه المؤسسة الوحيدة المخول لها ذلك
كما لفت في تدوينة له، إلى أن رفض مطالب التأشيرة لا يمكن أن يحل إلا على مستوى سيادي ودبلوماسي من الدولة التونسية.
من جانبه، أكد بسام الميساوي المدير الإقليمي ''TLS contact'' بشمال إفريقيا، في تصريح إذاعي، أن التأخر في تحديد مواعيد طلب تأشيرة يعزى بالأساس إلى الضغط الموجود على مستوى مراكز طلب التأشيرة وارتفاع هذه المطالب خاصة بعد انتهاء جائحة فيروس كورونا، في حين أن الإحصائيات التي كشف عنها موقع "shengenvisa" تبين أن عدد مطالب "الفيزا" المقدمة سنة 2022 بلغ 95.515 بينما بلغ عدد مطالب "الفيزا" المقدمة سنة 2019، "170552" مطلبًا أي أنّ هناك تراجعًا كبيرًا في هذه المطالب.
ما انفكت القيود على حرية التنقل والسفر واختيار بلد الإقامة تزداد صرامة حتى باتت حكرًا على طبقات معينة وشعوب دون غيرها في ضرب صارخ للأعراف الدولية وللإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي ينص في مادته الـ13 على أنه "لكل فرد حرية التنقل واختيار محل إقامته داخل حدود كل دولة.. ويحق لكل فرد أن يغادر أية بلاد بما في ذلك بلده كما يحق له العودة إليها". وتبرر التضييقات على الحق الكوني في التنقل بمصطلح مكافحة الهجرة غير النظامية حتى أن هذا السبب أصبح يستعمل كورقة ضغط على بعض البلدان لترحيل مواطنيها قسرًا.