22-سبتمبر-2024
التعليم الخاص وبذور الطبقية في منظومة التعليم التونسية

تغوّل قطاع التعليم الخاص سيفرّع الحياة المدرسية إلى منطقتين: واحدة جاذبة وأخرى طاردة (pexels)

مقال رأي 

 

 مع بداية استقلال البلاد التونسية سنة 1956، حُمل الوطن الجديد على درب الجرأة السياسية المطوّقة بأحلام جيل من المناضلين يرى تونس جديرة بالتخطي نحو حياة أفضل وأجمل. ومن أجل تحقيق ذلك انبرت نُخب الجيل الحالم أو الذين عُرفوا ببناة "دولة الاستقلال"، في رسم ملامح تصور جديد للمجتمع التونسي خصوصًا بُعيْد إعلان الجمهورية يوم 25 جويلية/يوليو 1957، وبإرادة سياسية منبجسة من السياقات التاريخية لتلك اللحظة الفارقة، تم التخلي في تونس عن النظام التعليمي الكلاسيكي السائد والمعروف بـ"التعليم الزيتوني" وهو نظام قائم الذات ومتطور، والذهاب حثيثًا إلى خيار التعليم النظامي على شاكلة "أنظمة التعليم الأوروبية".

بعد الاستقلال، تحول التعليم إلى رهان قُصووي، فمُنح لوحده ثلث الميزانية العامة للدولة، وتحول هذا الاختيار إلى هاجس، فأصبح الذهاب إلى المدرسة إجباريًا

ولم يكن ذلك بالأمر الهيّن والبسيط، فقد شكّل قطيعة إبستيمية في تاريخ التعليم في تونس، وتحول التعليم إلى رهان قصووي لا محيد عنه، فمُنح لوحده ثلث الميزانية العامة للدولة الفتية وتحول هذا الاختيار إلى هاجس واتخذ له شكلًا وجوديًا فأصبح الذهاب إلى المدرسة إجباريًا ويعاقب القانون كل من يمنع الأطفال من الالتحاق بمقاعد العلم والمعرفة في زمن كانت فيه نسب ومؤشرات الأمية تتجاوز السبعين بالمائة.

ورُفع شعار شعبي محفز ومخوّف في الوقت نفسه وهو "ما تقراش المستقبل ما ثماش".. ومنذ ذلك الحين دخلت تونس زمن "ملحمة المدرسة" التي أثمرت معان جديدة والتمعت تحت سماء الوطن قيم إنسانية طالها الصدأ وارتفعت المعنويات عاليًا، ونبت الأمل في عيون الأجيال الجديدة.. وتعلقت همة الشعب بالتعليم إلى اليوم واعتبرته ولا زالت المرقى الصلب نحو العلا ومنبع الوفرة والسماء التي تتأتى منها أمطار العدل والسلام.

التعليم الخاص في تونس، مارد جميل متخف وآخذ في التسلّل إلى بيوت التونسيين.. وهو المساهم الأبرز في انهيار التعليم العمومي وخلق فوارق اجتماعية وطبقية تربوية

لكن كل ذاك الجهد الذي كان محمولًا على سردية إنشاء "المدرسة" باعتبارها مؤسسة مجتمعية، لم يخلق له طيلة العقود الأخيرة خيط المؤالفة في منظومة التربية والتعليم وحماية أوتاد خيمة المدرسة من الانهيارات الصغيرة والكبيرة. ورغم ترسانة القوانين الحامية للتربية والتعليم في تونس، ودسترة فكرة المدرسة وما يتشقق عنها من قيم مجتمعية وسياسات تنموية واقتصادية، فإنه سرعان ما تأتي الرياح الموسمية لتعصف بالأركان وتهزّ البيت الرمزي وتجرّه أحيانًا إلى مربعات العبث تحت مسميات الإصلاح والتأهيل والمواكبة والترميم.. كل ذلك يحدث في المنعطفات التاريخية فتغيب المسؤولية الجماعية وتضمر فلسفة "التفكير معًا" وتُرتجل القرارات ويتسرّب رأس المال بحثًا عن الخوصصة ويُدس السم في عسل رافعة الوطن ألا وهي "المدرسة".

منذ أيام قليلة، ومع انطلاق السنة الدراسية 2024-2025، التحق بمقاعد الدراسة في تونس 2.354820 تلميذًا من مختلف مراحل التعليم (ما قبل المدرسي أو المرحلة التحضيرية، المرحلة الابتدائية، المرحلة الإعدادية، المرحلة الثانوية) وهو رقم يشي بأهمية ما يعتمل في عقل المجتمع التونسي الذي مازال يتدبر أمره عبر التعليم وذلك رغم كل المتغيرات التي تحدث من حوله داخل وطنه أو خارجه. 

عرف التونسيون التعليم الخاص في تسعينات القرن العشرين ولم يكن خيارًا مجتمعيًا بل كان تدبيرة سياسية قانونية للتلاميذ الذين استوفوا حقهم في الرسوب في التعليم العمومي

الرقم نفسه والذي أعلنت عنه وزارة التربية التونسية منذ أيام قليلة، يُخفي العديد من الحقائق الدقيقة المتعلقة بالتعليم في مستوياته الاجتماعية والحقوقية والصحية والثقافية والرياضية واللوجستية.. وأعتقد أن أهمها تلك التي تتعلق بواقع التعليم الخاص في تونس، ذاك المارد الجميل المتخفي والآخذ في التسلّل إلى بيوت التونسيين والذي استحوذ على جزء كبير من جسد التعليم في تونس والمساهم الأبرز في انهيار التعليم العمومي وخلق فوارق اجتماعية وطبقية تربوية.

التعليم الخاص في تونس عرفه التونسيون في تسعينات القرن العشرين ولم يكن خيارًا مجتمعيًا بل كان تدبيرة سياسية قانونية للتلاميذ الذين استوفوا حقهم في الرسوب في التعليم العمومي وخاصة في المرحلة الثانوية وكان عدد مؤسسات التعليم الخاص في العشرية الأولى من الألفية الجديدة لا يتجاوز 110 مؤسسة تتمركز أساسًا في المدن الكبرى، وكانت الدولة في ذلك تشجع على بعث المؤسسات الخاصة كنوع من التوقي والتصدي لظاهرة التسرب المدرسي الآخذة في التفاقم جرّاء الإصلاحات التربوية الجزئية الترقيعية والعشوائية التي تحدث في أروقة وزارة التربية في شارع باب بنات بشكل أحادي. 

الذهاب إلى تغوّل القطاع التعليمي الخاص على حساب التعليم العمومي من شأنه أن يخلق طبقية مقيتة داخل المجتمع التربوي والمجتمع عمومًا

ورغم صيحات الفزع التي أطلقها الشركاء من المجتمع المدني وخصوصًا الاتحاد العام التونسي للشغل (كبرى النقابات التونسية) والمعهد العربي لحقوق الإنسان حول هذا الموضوع من أجل حماية التعليم العمومي، فإنها كانت صيحات في واد، وبدأ المارد الجميل في الظهور والبروز بشكل لافت.

يفوق عدد مؤسسات التعليم الخاص في تونس مع موفى السنة الفارطة 800 ألف مدرسة ابتدائية ومدرسة إعدادية ومعهدًا ثانويًا يقصدها حوالي 150 ألف تلميذ، كما يشغل هذا القطاع ما يقارب 195 ألف موظف بين مدرسين وإداريين وفنيين وعملة.. وهي أرقام لم تخضع للقراءة العلمية ومقاربات العلوم الإنسانية ولم تُطرح للنقاش المجتمعي خلال محاولات إصلاح التعليم التي قام بها وزراء التربية في السنوات الأخيرة، لكنها أرقام تقول نفسها وتكشف العديد من الخبايا، رغم التبريرات الرسمية الممجوجة والسمجة لما يحدث من تشويهات في جسد التعليم من قبل وزارة التربية التونسية: "ملاءمة الحياة المدرسية بهذه المؤسسات لظروف عيش العائلة في الوسط الحضري وإلى البحث عن تكوين جيد للأبناء والتمدرس المبكر وكذلك توفر آليات المتابعة والمرافقة وإلى ملاءمة الزمن المدرسي لهذه المؤسسات للزمن الاجتماعي وإيقاع الحياة..".

لا بدّ من إحداث توازنات سريعة في الجسد التربوي التونسي والتصدي للعرج الحاصل وإنقاذ التعليم العمومي من مخاطر التعليم الخاص وذلك بمراجعة القوانين المنظمة

بعد هذا الوضوح في الأرقام والمعطيات والمؤشرات والتبريرات السياسية الرسمية لما يحدث في هذا المجال، فإن الملاحظات البسيطة تقول إن الذهاب إلى تغوّل القطاع التعليمي الخاص على حساب التعليم العمومي من شأنه أن يخلق طبقية مقيتة داخل المجتمع التربوي والمجتمع عمومًا، كما سيفرّع الحياة المدرسية إلى منطقتين: واحدة جاذبة وأخرى طاردة. وهي أخطار حقيقية رغم ادّعاء وزارة التربية في أكثر من مرة بمراقبتها لقطاع التعليم الخاص وإفراده بإدارة خاصة صلبها.

لقد بات من الضروري الآن وهنا أن يتم إحداث توازنات سريعة في الجسد التربوي التونسي والتصدي للعرج الحاصل وإنقاذ التعليم العمومي من مخاطر التعليم الخاص وذلك بمراجعة القوانين المنظمة والعودة لمفهوم "المدرسة الواحدة" والبحث في ظروفها مجتمعة وتجميلها من الداخل والخارج وجعلها فضاء حيويًا للرفاه وحب الحياة.

من أولويات المجلس الأعلى للتربية والتعليم، التعجيل بالنظر في مسألة التعليم الخاص في تونس التي باتت تهدد "المدرسة التونسية"

لقد بات من الضروري أن يجدّد المجتمع نظرته لـ"المدرسة " ولا يكون ذلك إلا بالجلوس معًا حول مستقبل المدرسة وابتداع آليات جديدة وعصرية تكون وقودًا لكل الفاعلين في جغرافيا التعليم.

إنّ "المجلس الأعلى للتربية والتعليم" الذي طال انتظاره والذي صدر مؤخرًا المرسوم المنظم له (16 سبتمبر/أيلول 2024) أعتقد أن من أولوياته التعجيل بالنظر في هذه المسألة التي باتت تهدد "المدرسة التونسية" وخلق أفق استراتيجي لـ"مدرسة موحّدة وسعيدة". 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"