19-مايو-2018

الذكريات لا تأتي فرادى

أثار تقرير تلفزيوني عن مدفع رمضان حنيني إلى أيام الطفولة وذكريات هذا الشهر في الجريصة، قريتي الصغيرة التي أحملها في قلبي حيثما مضيت. وانهمرت أحداث الصبا في شهر رمضان كقطرات المطر التي زيّنت أوّل أيام رمضان، وأعادني دوي المدفع إلى حيّنا الصغير المليء بالحياة والحب وبيتنا العامر بالذكريات والأسرار.

اقرأ/ي أيضًا: أبرزها "حشيشة رمضان".. سلوكيات تميز التونسي خلال شهر رمضان

تذكّرت جدّتي التي تصحو باكرًا لتعدّ ورقات "الملسوقة" ليبيعها جدّي في محل بيع الخضر والغلال خاصته الواقع في قلب القرية، ودغدغت رائحة "الملسوقة" أنفي وأطربني صوت حشرجتها وجدّتي تنزعها بكل لين من الطبق الساخن جدًا، طبق منتصب على موقد غازي.

تذكّرت جدّتي التي تصحو باكرًا لتعدّ ورقات "الملسوقة" ليبيعها جدّي في محل بيع الخضر والغلال خاصته الواقع في قلب القرية

تعدّ جدّتي أكوامًا من الملسوقة وتوكل إليّ مهمة عدّها ووضع كل "طزينة" أي 12 ورقة على حدة وفصلها بوريقات صغيرة ثم نضعها سويًا في قفة وأسير بها إلى محلّ جدّي، فيحملها عنّي أنّى وصلتُ وأساعده في وضعها في ركن مخصّص لها.

وإبان عتق آخر "طزينة ملسوقة" يسألني جدّي "صائمة وإلا فاطرة" فأرد "صائمة". يقرص خدّي ويقول "صائمة على زرسة وفاطرة على عشرة". فلا ألبث أن أخرج لساني الأبيض دليلًا على صدق قولي ويضحك جدي، كان هذا منذ سنوات وسنوات لكن اليوم غيّب الموت جدّي وآل محلّه لرجل غريب وماعاد "لملسوقة" جدّتي طعم.

خلتُ أن حبل الذكريات سينقطع بي هنا، لكنّني كنت مخطئة فالذكريات لا تأتي فرادى، وشممتُ روائح من الماضي، في منزلنا الكبير حيثما ولّيت أنفك تداعبك رائحة شربة "الفريك" التي تعدّها جدّتي خصيصًا لشهر رمضان، وفيما رائحة "الفريك" تضيع في كامل أرجاء حيّنا، تنكب جدّتي على إعداد كريات من عجينة تركتها "ترتاح" منذ ساعات، كما كانت تقول.

تحمل "دادا" كما يناديها أفراد عائلتنا الموسّعة دون استثناء " القصعة" حيث خبزت كريات العجينة وتمضي نحو ركن يتاخم منزلنا صنعت فيه "قوجة" أي تنورًا بطين جلبته وإياها من قطعة أرض تقع في أقصى نقطة من قريتنا.

تستعر النار في التنور، وترشّ "دادا" بعض الماء على "الجرادق" أي خبز الطابونة وتلقي بها إلى اللهيب ولا تنسى جدّتي أن تعدّ لكل طفل في حينا "جابورا" أي خبزة صغيرة. تستوي الخبزات وتنزعها جدّتي من التنور المستعر ولا تحترق يديها، أتذكر أنني كلما حاولت أن أقلّدها في غفلة منها تحترق يديّ.

أراني أتذوّق من "الجرادق" ناسية أو متناسية أنني صائمة

اقرأ/ي أيضًا: أبرز 8 مأكولات لا تغيب عن مائدة رمضان في تونس

تملأ رائحة "الجرادق" الأرجاء ويستقبل التنور الذي هدأت نيرانه حبات الفلفل والطماطم والبصل التي ستدقها "دادا" بالمهراس بعد أن تستوي، وما أطيب طعم "السلاطة المشوية" التي تعدّها.

بعد أن تلتقط "دادا" آخر حبة طماطم من قعر التنور، أسكب الماء فيها لأخمد ما تبقى من لهيبها ويطربني صوت الماء وهو يعانق النار. أما اليوم فمنزلنا العامر بالذكريات لم يعد لنا، والحي الذي انتقلنا إليه بالعاصمة لا تضوع فيه رائحة "الفريك" ولا ركن ننصب فيه التنور، وما عادت "دادا" تعد للأطفال "الجابور".

ولا تكف الذكريات عن التدفق تمامًا كدمعي المنهمر من فرط الحنين، وأراني أتذوّق من "الجرادق" ناسية أو متناسية أنني صائمة. في الحقيقة لا أعلم إن كنت أميز بين المفردتين حينها، وبعد كل طعم أختلسه أحاول أن أمحو الأثر بقطرات من الماء أخلّل بها فمي، ثم أمسح لساني بطرف قميصي لأضفي عليه لمسة من البياض الاصطناعي وأجلس على طاولة الإفطار باستحقاق.

وفي غمرة الحنين أراني أساعد في إعداد الطاولة، إلى أن أسمع أصوات فتيان وفتيات الحي المتجمعين أمام منزلنا في انتظار أن ألتحق بهم باعتبار أن منزلنا الأقرب إلى أعلى نقطة في حينا يمكن لنا من خلالها مراقبة غروب الشمس وأفول شعاعها. ألتحق بأترابي ونهرول صوب الموقع الاستراتيجي الهام، ونرقب في شوق صوت المدفع وما إن يبلغنا الدوي حتّى نركض بين الأزقّة والمنازل مردّدين " مغرب.. مغرب.. مغرب" حتى يكاد صدى أصواتنا يتجاوز مداد السماوات، ونفترق على وعد اللقاء بعد الإفطار.

ما إن يبلغنا دوي المدفع حتّى نركض بين الأزقّة والمنازل مردّدين " مغرب.. مغرب.. مغرب" حتى يكاد صدى أصواتنا يتجاوز مداد السماوات

كنا نجتمع عند العمود الكهربائي المنتصب في أول حيّنا، ويعلو صراخنا في الأرجاء ونحن نركض من زقاق إلى آخر حتى يعيينا التعب لكننا لا نكلّ ولا نمل ونجلس في آخر المطاف لنلعب "الدقازة" وهي لعبة تقتضي أن نخبئ شيئًا ما صغير الحجم ونطبق راحة يدينا الاثنتين وعلى الطرف المقابل أن يتكهن أي اليدين تحوي هذا الشيء، وينتهي الأمر بشجار خفيف بعد اتهام أحدنا بالغش.

لا أدري كيف تناهت إلي كلمات نردّدها ونحن نلعب "دجاجة تقاقي بين سواقي ترقى تنزل على اليدين هذه "، كل منا كان يردّده بطريقته وكنا نعتقد أنّها مفتاح الفوز. وأنا أستحضر هذه الكلمات تذكّرت أن سبل اللقاء انقطعت بأترابي الذين ما عادوا أطفالًا، كبر الصغار الذين كانوا يركضون في أزقة الحي ويملؤون الدنيا موسيقى، بعضهم تبخرت أحلامهم وبعضهم مات وهو ينشد الجنة في إيطاليا وبعضهم يعانق أحلامه كل ليلة خشية ان تهرب منه.

أبت الذكريات أن تتوقف، وجف دمع قلمي وانهمرت عيناي حبرًا وأنا أقارن اليوم بالأمس وأحاول أن أكبح جموح الحنين، وتمكّنت في الأخير من مغالبة رغبتي في استرسال شريط الذكريات ورفعتُ هاتفي لأتصل بصديقة الطفولة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كيف يستعد التونسيون لشهر رمضان؟

حينما كان "الجنّ" يسلّينا!